كونفشيوس ورقي الفرد وسعادة المجتمع

غاية الفعل الأخلاقي تحقيق هدف عظيم جدًا

* أستاذ فلسفة
* أستاذ فلسفة
TT

كونفشيوس ورقي الفرد وسعادة المجتمع

* أستاذ فلسفة
* أستاذ فلسفة

لا بد أن تمر الحضارة، أية حضارة، في مرحلة معينة من تاريخها، بوضع تتهدم فيه الأخلاق وينحل فيه المجتمع. ويبدأ الناس حينئذ في طرح السؤال حول الأسباب والبواعث والحلول، من أجل النهوض من جديد. في هذه المرحلة، لا بد أن تكون قيم الحضارة قد انهارت، وتهاوت المبادئ التي حملتها لمدة طويلة وأقامت لها أسسا وأركانا. مما يجعل إعادة طرح السؤال حول الأخلاق، والعمل على إعادة تقويمها، أمرا ملحا بهدف بناء مجتمع سليم، والبحث عن حياة سعيدة.
عاشت الحضارة الصينية القديمة هذا الوضع، في الفترة المعروفة بالربيع والخريف، التي بدأت نحو القرن العاشر قبل الميلاد، حين كان البلد في حالة اضطراب دائم، والسلطة في تغير مستمر، والاقتصاد في أزمة كبيرة، حيث لم تستطع الدعاوى تغيير الوضع الراهن. وإذا كان كل تراجع يبعث من رحمه منقذا، فقد مثل كونفشيوس الرجل الذي حمل على عاتقه إعادة تقويم البناء الصيني المتهاوي.
عاش كونفشيوس (551 – 479 ق.م) في مقاطعة لو. وهي مقاطعة إقطاعية حمتها الجبال بممراتها المنيعة من هجوم الجيران، وحمل اسمها اسم الجبل الذي كانت أمه تصعد عليه للصلاة قبل أن تحمل به. كان أبوه طاعنا في السن، وتوفي تاركا إياه في المهد من دون حماية، أو وضع اجتماعي محترم. إلا أنه ثقف نفسه بسبب عمله وقربه من القصور، حيث كان النبلاء يحتكرون المعرفة. وساعده قربه من معاناة الناس، على رؤية العالم مفككا يبعث على الحزن، يستدعي إدخال تعديلات فعالة. وعرف أنه لا يمكن الخروج من هذا الوضع، إلا عن طريق العلم، والأخلاق، والتوازن، والنبل، حيث يحيا الفرد والمجتمع حياة هادئة سعيدة.
أقام كونفشيوس بناء أخلاقيا متينا، يقوم على جوهر المجتمع وهو الفرد. حيث اعتبر تحقيق خلاص الدولة والمجتمع غير ممكن إلا من خلال الرقي بالفرد، والبحث عن «الرجل النبيل في داخله»، مؤكدا أنه كائن أخلاقي في المقام الأول. ومؤمنا بضرورة إرجاع الفرد إلى فطرته الإنسانية الحقة، وتهذيب ذاته بهدف إصلاح المجتمع، وبناء علاقات إيجابية مع الآخرين. فالنبل الأخلاقي ليس حكرا على طبقة معينة أو أفراد بعينهم، كما كان معروفا في زمنه، حيث كان صفة لا تتمتع بها إلا الأرستقراطية. بل اعتبر على العكس تماما، أن أصحاب الامتيازات، غالبا ما يسلكون سلوك الحمقى أو الحيوانات. وبالتالي فالنبل، بالنسبة له، من حق الجميع، وبإمكان كل فرد تحصيله، لو كان سلوكه بعيدا عن الأنانية فقط، وما دام الفرد ليس خيرا بطبعه وليس شريرا بطبعه، وإنما إمكانية للتخلق، كبذرة لها إمكانية الإزهار في حال وجدت الظروف الجيدة.
ويفرض هذا بالضرورة، العمل على التربية والوعي والتركيز على القلب، والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وخلق داخلنا الرجل النبيل المتحرر من كل الشرور، التي تعيقنا عن الهدوء والتناغم، وبالتالي السعادة. إلا أن هذا لا يتم إلا عندما يتحمل الفرد مسؤوليته، ويصبح قادرا على أن يصبح أفضل مما هو عليه الآن. فطرح كونفشيوس، تبعا لذلك، ولأول في تاريخ الصين القديمة، فكرة الإرادة الإنسانية، حيث يتوجب على الفرد البحث عن الخطأ في ذاته لا خارجها، ملغيا بذلك سلطة السماء وتحملها أخطاء البشر، والإرادة الإنسانية، هي البداية من أجل الوصول إلى الكمال. من هنا سينبثق كذلك، مفهوم الحرية في أداء القانون، لتصبح شرطا من شروط الفضيلة. يقول كنفوشيوس: «دع مبدأك يقُدْك لأن تفعل أفضل ما في وسعك للآخرين. كن فاضلا في كل ما تقوله وقد نفسك تجاه الصواب». ويرى كونفشيوس كذلك، أن أداء القانون يجب ألا يرتبط بمنفعة أو لذة، وإلا فقد عموميته. وهو هنا، يتفق مع كانط، في اعتبار القانون الأخلاقي ثابتا في كل فرد. لذلك فإن الفرد يشعر بسعادة عند الالتزام به، لأنه يتفق وطبيعتنا الإنسانية، وهو يؤدي إلى الانسجام مع العالم، عن طريق إدراك القانون الأخلاقي الكامن فينا، والكامن في أجزاء العالم. فعندما ينسجم الفرد، فكل شيء يتجه نحو الانسجام العالمي، وينعكس على الفرد فيجعله سعيدا. والأفراد السعداء، يجعلون المجتمع سعيدا. أما الأفراد المضطربون، فيجعلونه كذلك مضطربا. ولا يقتصر هذا الاضطراب على المجتمع وحسب، بل يتعداه إلى العالم المحيط، والعالم الذي نعيش فيه. في إشارة إلى فلسفة بيئية أصيلة. يقول كونفشيوس: «دع حالات الانسجام والاتساق تسُدْ، عندئذ فإن النظام سوف يسود داخل السماء والأرض، وسوف تتجه كل الأشياء نحو الازدهار والكمال».
لم يكتف كونفشيوس بالحديث عن نسقه الأخلاقي وحسب، وإنما عمل على تأسيس قواعد للقيام به، فتحدث عن «الحد الوسط»، وهو الطريق الذي يخلق التوازن داخل الفرد، بعيدا عن أي إفراط أو تفريط في الحياة، «الوسط نبيل حقا كالفضيلة الأخلاقية، إلا أنه نادرا ما تدركه العامة لمدة طويلة». من دون الوسط، يصبح القانون الأخلاقي فاقدا للفاعلية. فأهميته تكمن في تحقيق التوازن بين الجانب العقلي والجانب الوجداني، فلا سعادة من دون هذا التوازن الذي يمكن الحصول عليه بواسطة التهذيب والتربية. وهو لا يعني مجرد وسط بين الجانبين وحسب، وإنما يتضمن البعد عن أي شكل من أشكال الانحراف الخلقي، ويعطينا الفعل الفاضل المعتدل، فلا نحتاج إلا إلى اتباع الطريق «الطاو» من أجل تحصيل السعادة.
غاية الفعل الأخلاقي هي تحقيق هدف عظيم جدا، أي تحقيق أكبر قدر من السعادة والخير للآخرين. «عندما تتعامل مع الآخرين، فقدم أفضل ما عندك»، أي إن المنفعة التي يراد الحصول عليها هنا، هي منفعة ذات طابع اجتماعي وشمولي. الرجل الفاضل هو من يرغب في تثبيت أقدام الناس، كما يرغب في تثبيت قدميه. وهو تصور كنفشيوسي، يؤمن بأن الإنسان هو، في جوهره، كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش حياته إلا وسط المجموع. فالأفراد متساوون، ولا تناقض في أن يتخذوا مقاييس لبعضهم. وهكذا حرص كونفشيوس منذ البداية، على ألا تكون تلك القيم مفرطة في مثاليتها وتجردها، وإنما أن تكون قيما علمية تعمل في صياغة سلوك الفرد تجاه ذاته وتجاه الآخرين، أكثر من مجرد كونها قيما يحملها الفرد من دون وعي، أو من دون أن تمارس تأثيرا في سلوكه. بل هي قواعد عملية تأخذ على عاتقها، مهمة العمل على إيقاظ الحساسية بالقيم لدى الناس، والمشاركة في تربية الإنسانية وفقا لمبادئ كونفشيوس.
إيجازا وتوضيحا، يمكن القول إن فلسفة كونفشيوس العملية تتمحور حول أربع فضائل رئيسة تتشعب عنها كل القيم الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الفرد حتى يصل إلى الكمال الإنساني:
- فضيلة جين: الخيرية، الإنسانية، الصدق، الإخلاص البشري. وهي سمة خاصة بالطبيعة البشرية، تجعل الفرد يولد، منذ البداية، ولديه شعور بأنه كائن اجتماعي، وخلق ليعيش مع الجماعة. وهي تلك الحاسة التي تتولد كمنبه، من أجل توجيه نظر الإنسان إلى ذاته، بوصفه إنسانا اجتماعيا، يحمل مشاعر تؤهله للعيش مع الآخرين والشعور بالإنسانية ككل.
- فضيلة الاستقامة: وتدفع الفرد إلى الالتزام بكل ما هو مستقيم فقط. وهي من الصفات التي يجب أن يتصف بها الرجل النبيل، مهما كانت الظروف. وهي ضد الخداع وضد أن يتظاهر الفرد بما ليس فيه.
- فضيلة طاعة الأبناء: ترتبط طاعة الأبناء كثيرا بمفهوم الجين. فهي في نظر كونفوشيوس، تشكل جذور الإنسانية. ولما كانت الإنسانية هي أسمى قيمة للسلوك الأخلاقي، فإن طاعة الأبناء وما يرتبط بها من فضيلة الحب الأخوي، تمثل الأساس لكل الفضائل الأخرى، حيث يشير إلى حالة المشاركة الحسية والروحية داخل الأسرة. وهي قيمة يمكن أن تمتد إلى كل العلاقات الاجتماعية لترتبط بالحاكم، وتمتد إلى قلب الإنسانية، وتربط بين الأجيال مهما اتسعت السنين.
- فضيلة «لي» الطقوس: مبدأ نظام اجتماعي يمنع ظهور الفوضى الاجتماعية والأخلاقية، كما تمنع السدود الفيضان. السلوك الإنساني يعتمد على قواعد للسلوك، وضعت في أحداث سابقة، فأثبتت جدارتها على مر الأجيال، أهميتها تكمن في شعور الفرد بأن سلوكه الخارجي في حاجة إلى ضبط، حتى لا يتخطى ما هو صحيح، حيث يتسق ويتوازن الفرد مع الموقف الذي هو فيه، فيقول: «إن الحديث البارع المنمق وأسلوب التظاهر والادعاء، نادرا ما ينسجمان مع المطبوع على عمل الخير».
لا يمكن أن نوفي كونفوشيوس حقه في هذا المقال القصير، لأن فهم مذهبه يتألف بشكل مترابط من عناصر متعددة، لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، هي الفرد الفاضل الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق التربية الفاضلة. وهذه تحتاج إلى أسرة صالحة. إلا أن هذه الأسرة لا يمكن لها أن تؤدي وظيفتها، إلا في حال وجود حاكم فاضل يوفر شروط الهدوء والسعادة لشعبه. والدولة السعيدة تحافظ على بيئتها ومحيطها جميلين أنيقين. والحاكم هو الآخر، لا يمكن أن يؤدي مهمته إلا في حال وجود أفراد متزنين. هنا نعود إلى الفرد وإلى بداية الحلقة. فكل عنصر عند كونفشيوس إلا ويؤدي مهمة معينة، غايتها الأساسية، هي سمو الفرد وسعادة الجماعة.



سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس

سيمون فتال
سيمون فتال
TT

سيمون فتال: السومريون أنتجوا أجمل الفنون وهي الأساس

سيمون فتال
سيمون فتال

تستضيف مؤسسة «Secession» النمساوية في فيينا، وهي أقدم قاعة مستقلة مخصصة للفن المعاصر في العالم، مجموعة مختارة من أعمال الفنانة والكاتبة والسينمائية سيمون فتّال تحت عنوان metaphors (استعارات)، أبرزها منحوتات من الصلصال تعرض للمرة الأولى خارج لبنان حيث تحفظ غالبية أعمالها ضمن مجموعة سارادار الخاصة التي تضمّ أكثر من 400 عمل فني حديث ومعاصر بهدف صونها ودراستها.

شهدت سيمون فتّال النور في دمشق عام 1942، ومنها انتقلت طفلة إلى بيروت حيث أكملت تعليمها الجامعي وتخرجت مجازة في الفلسفة من معهد الآداب، قبل أن تنتقل إلى باريس حيث تابعت تخصصها في جامعة السوربون.

عادت إلى بيروت وانصرفت لفترة إلى الرسم، تعرفت خلالها إلى الشاعرة والفنانة المعروفة إيتيل عدنان، ونشأت بين الاثنتين صداقة متينة امتدت حتى وفاة الأخيرة في خريف عام 2021. بعد مرحلة الرسم انتقلت إلى النحت بالصلصال ثم انصرفت إلى الأعمال الخزفية، وعندما «أصبحت الحياة مستحيلة في بيروت بسبب الحرب الأهلية» كما تقول، قررت الذهاب إلى الولايات المتحدة عام 1980، واستقرت في كاليفورنيا حيث أسست دار النشر المعروفة «بوست أبولو برس» المتخصصة في الأعمال الأدبية الرائدة والتجريبية.

من أعمالها

في عام 1988 التحقت بمعهد الفنون في سان فرنسيسكو واستأنفت نشاطها الفني في الرسم والنحت والكولاج. وفي عام 2006 انتقلت إلى فرنسا وانضمّت إلى محترف هانز سبينّر الشهير في غراس حيث أنتجت أهم أعمالها الفنية. وخلال إقامتها في فرنسا أخرجت شريطاً سينمائياً بعنوان «Autoportrait» عُرض في معظم المهرجانات العالمية ولاقى نجاحاً كبيراً. في عام 2019 نظّم متحف الفن الحديث النيويوركي معرضاً استرجاعياً لأعمالها التي استضافتها متاحف عالمية عديدة مثل متحف دبي للفنون ومتحف لوكسمبورغ وبينال البندقية ومتحف إيف سان لوران في مراكش ومؤسسة الشارقة للفنون، ومتحف فرنكفورت، وبينال ليون، وبينال برلين، ثم المؤسسة النمساوية التي كرّست عدداً كبيراً من الفنانين المعاصرين.

التاريخ والحنين (نوستالجيا) هما المصدران الأساسيان اللذان تستلهم فتّال أعمالها منهما، وتقول: «أشعر بالحنين إلى الماضي القريب... إلى سنواتي الأولى التي عشتها في هذه القطعة الرائعة والآمنة من الأرض التي اسمها دمشق وليس إلى التاريخ بحد ذاته. وعندما أتحدث عن التاريخ الذي أستحضره في أعمالي، أعني به التاريخ الذي ينبغي أن يذكّرنا بهويتنا، التاريخ الذي نحن جزء منه وعلينا أن نعرفه»، وتضيف: «التاريخ بالنسبة لي بدأ مع السومريين الذين أنتجوا أجمل الفنون. تاريخهم يثير عندي أعمق المشاعر، ليس فحسب لأني أنتمي إلى تلك المنطقة من العالم، فأنا بطبيعة الحال وليدة العصر الحديث، والفنون الحديثة والمعاصرة هي جزء أساسي مني، لكن تلك الفنون هي التربة الأساسية التي يمكن للفن الحديث أن يضرب جذوره فيها».

تقول فتّال إن الإنسان، والفنان بشكل خاص، في سعي دائم لدراسة الماضي ومعرفة جذوره، «وأنا من منطقة غنية بهذا الماضي الذي تشهد عليه أماكن عديدة دأبت على زيارتها، مثل تدمر وجبيل وبعلبك وصور وجرش حيث ما زالت تدور حياتنا اليومية إلى الآن». وتبتسم السيدة التي تجاوزت الثمانين من عمرها وما زالت في حيوية لافتة حين تقول: «يهمني جداً الحفاظ على هذا التاريخ وتسليط الأضواء عليه. أنا أنتمي إلى منطقة اخترعت الأبجدية الأولى وأنتجت أول الفنون. الفن في ذلك الوقت كان له معنى وهدف، وأنا أريد أن يكون فني تعبيراً عن تلك المنطقة، وما عاشته، وكيف هي اليوم، حتى يتسنى للأجيال المقبلة أن تتعرف عليها».

وعن الصداقة المديدة التي ربطتها بالفنانة والشاعرة والكاتبة إيتيل عدنان تقول: «أولى ثمار تلك الصداقة كان التعاون في دار النشر (بوست أبولو برس)، وقد تأثرت كثيراً بنتاجها الشعري. أما بالنسبة للفن البصري، فثمة اختلاف كبير بيننا ولم تتأثر إحدانا بالأخرى».

تفاخر فتّال بمصادر إلهامها من معالم أثرية شاهدة على حضارات سحيقة، وتشعر بحزن عميق لما آلت إليه اليوم تلك المصادر، وتقول إن الفنون الحقيقية غالباً ما تولد خارج الأطر الرسمية، وهي التي تنقل الناظر إلى «مطارح تاريخية» تتحدث بلغات عديدة ولها معتقدات متعددة، لكنها موجودة الآن بيننا. ولعل هذا الالتصاق بالأرض والمواقع الأثرية هو الذي دفعها إلى اختيار مادة الصلصال لإنتاج أهم أعمالها التي تعرضها المؤسسة النمساوية، وهي على شكل رجال محاربين، وملائكة، وفاكهة، وأطعمة، وحيوانات تستحضر ذلك الفردوس الضائع بعد دمار المواقع التاريخية في حلب وتدمر وبعلبك وجبيل.