بيلي إليوت.. دهشة كل مرة

بعد 11 عامًا من عرضها بلندن.. جولات في أنحاء بريطانيا وآيرلندا

احتفاء بالعرض الأخير في لندن
احتفاء بالعرض الأخير في لندن
TT

بيلي إليوت.. دهشة كل مرة

احتفاء بالعرض الأخير في لندن
احتفاء بالعرض الأخير في لندن

في عام 2010، في زيارة إلى لندن، تسنىّ لي – من بين «غنائم» ثقافية عدة – حضور المسرحية الغنائية الاستعراضية «بيلي إليوت» على خشبة مسرح «فيكتوريا بالاس». تصادف ذلك العام الاحتفال بمرور خمس سنوات على انطلاق العمل، ذي الإنتاج السخي، نجح خلالها في أن يكون من العروض الأكثر جذبا في منطقة الـ«ويست إند»، قلب النشاط الترفيهي في العاصمة البريطانية، متوِّجا نجاحه النقدي والجماهيري بنيله أربع جوائز «لورانس أوليفييه» من أصل تسعة ترشيحات للجائزة المسرحية المرموقة التي تقدمها جمعية المسرح في لندن.
والحق يقال، إنه بينما كانت قدماي تتقدمان خطوةً نحو العرض المسرحي، فإن قلبي كان ينسحب خطوات؛ ذلك أن العمل يقوم حكايةً وحبكةً على الفيلم البريطاني الدافئ «بيلي إليوت» (2000)، الذي كان من بين تجارب سينمائية قليلة جدا ولافتة ذات وقعٍ بالغ الأثر في ذاتي، وهي تجربة عاطفية سكنت جوارحي. أعتقد أن تلكّؤ قلبي عن متابعة «بيلي إليوت ذا ميوزيكال» مردّه أنني كنتُ أخشى أن أفقد الأثر البهي للفيلم، أو بالأحرى الدهشة الأولى للرواية السينمائية الأولى التي استقر سحرها في نفسي عميقا. لكن الشوق، في النهاية، غلبني؛ أردت أن أعيش التجربة من مقاربة ثانية، مسرحيا هذه المرة، مجازفة بالتفريط بتحويشة السحر المصرورة في خيالي.
ومع أن واضع «صيغة» المسرحية هو نفسه مؤلف الفيلم: الكاتب البريطاني لي هول، كما أن مخرج المسرحية، كما الفيلم، هو رفيق دربه ستيفن دالدري؛ وهو ما يضمن حدا أدنى متوقعا من الالتزام بالسحر الأصلي، إلا أن ذلك كله لم يكن كافيا لطمأنتي، نظريا على الأقل.
تروي مسرحية «بيل إليوت ذا ميوزيكال» – على غرار الفيلم – قصة الفتى بيلي إليوت، يتيم الأم، الذي يعيش في دارم كاونتي، في منطقة نورث إيست (شمال شرق إنجلترا)، مع والده وشقيقه الأكبر وجدته. يقع بيلي في غرام الباليه، ويجد نفسه ملتحقا بصف الرقص مع مجموعة من الفتيات، متهيبا ومترِدا أول الأمر قبل أن يجرفه الشغف للفن الشفيف، مضطرا في الوقت نفسه إلى إخفاء الأمر عن والده، عامل المنجم، الذي يعتقد أن صغيره يتلقى دروسا في الملاكمة. حين تكتشف مسز ويلكنسون، مدربة الباليه والمشرفة على الصف، موهبة الفتى الفطرية، تواصل إعطاءه دروسا خاصة وحده بعدما أقنعته بأن لديه فرصة كي يلتحق بكلية الباليه الملكية في لندن. لكن بيلي يضطر إلى التفريط بحلم الرقص – مؤقتا – بعدما اكتشف والده الأمر، الذي يرى في الباليه ترفا (وربما «فعلا غير رجولي»)، كل ذلك وسط تصاعد الأحداث دراميا على خلفية إضراب عمال مناجم الفحم في بريطانيا في الفترة 1984 – 1985، وما رافق ذلك من احتقان مجتمعي مع تحوّل الاشتباكات بين العمال وبين شرطة مكافحة الشغب إلى واقع يومي في ما عُدّ «أسوأ نزاع صناعي شهدته بريطانيا في تاريخها»، كما وصفته «بي بي سي» في تقرير لها، انتهى بهزيمة مُرة لنقابة العمال لتعزّز حكومة مارغريت ثاتشر قبضتها، فارضةً برنامجها الاقتصادي الذي تسبّب في طحن مجتمع صناعي بأكمله. يتحدث هول عن تلك الحقبة الثاتشرية المريرة في مقالة ضافية له تتناول الظروف الاجتماعية والسياسية لنصه السينمائي – المسرحي قائلا: «بدا الأمر في نورث إيست كما لو كنا تحت الحصار. البطالة كانت متفشية، وبدت ثاتشر كما لو أنها تهاجم كل ما كان يشكّل مصدر فخار واعتزاز للمنطقة: إرثها الصناعي، وإحساسها بوجود هدف مشترك، حتى روح الدعابة الفطرية كانت تتعرض للهجوم من غطرسة الطبقة الوسطى التي مثّلتها ثاتشر».
بالنسبة لهول، كما للمشاهدين الذين تابعوا طريق بيلي إليوت إلى الأمل والإبداع، عبر الشاشة السينمائية، ثم على خشبة المسرح، فإن نجاة الفتى من اليأس وارتقاءه من القاع، محلِّقا في الفضاء بالمعنيين المادي والمعنوي للتحليق وهو يرقص إنما ينجينا وينتشلنا من «الانحطاط» ولو آنيا. وحين يتمكن من تحقيق حلمه أخيرا، فإن في ذلك إرضاء عظيما لذواتنا التي تنشد التحرر والانطلاق والتعبير عن الذات. والأهم أن هذا التحرّر الفردي للفتى بيلي لم يكن ليتم لولا تضافر مجتمعه معه، وإيمان أقرب الناس به: والده، الذي يصرّ أخيرا على أن يساعد ابنه في تحقيق حلمه، مقتنعا بأن صغيره «يمكن أن يكون نجما». فالإبداع، وإن كان منتجا فرديا أو صنيعة ذاتية، فإنه يشعّ ويتوهّج أكثر بدعم جمعي أو مجتمعي. ويوم يغادر بيلي بلدته المطحونة إلى لندن ساعيا وراء تحقيق طموحه بصفته راقص باليه، لا يجد والده وشقيقه ورجال مجتمعه بُدّا من النزول إلى القاع فعليا، عائدين إلى مناجمهم، بعد «فض» الإضراب، الذي انتهى بهزيمتهم. على الأقل تم صنع أمل وحيد من بينهم، من خلال فتاهم بيلي، مطمئنين إلى أنه لن يهوي معهم إلى ظلمة قاعهم.
أعترف بأن الفرجة المسرحية التي امتدت لأكثر من ثلاث ساعات لم تسلب أيًّا من الدهشة الأولى، دهشة الرواية السينمائية، بل على العكس تماما رسختها، مع «علاوة» جمالية إضافية تمثّلت في توليفة موسيقية وغنائية، اتكأت على «ليبريتو» ملهم، ذي نبرة عاطفية جيّاشة وضعها الموسيقي البريطاني المبدع إلتون جون، فجُدلت كلمات الأغنيات بالألحان بسلاسة، حتى ليبدو كما لو أن الكلمات، التي صاغها لي هول بوصفه الأقرب إلى روح نصه، هي التي حفزت الموسيقى، أو لعل الموسيقى هي التي وُلدت من رحم الكلمات دون كبير تدخل ودون تعسُّر في عملية الخلْق. ولعل أغنيتي «الرسالة» و«كهرباء» من الأمثلة الحيية على التلازم العضوي بين الكلمة والنغمة. في الأولى، يقرأ بيلي رسالة تركتها أمّه له، تتخيّله فيها وقد كبر، بعدما مرت سنوات على رحيلها، وتتخيّل كل الأشياء الجميلة في حياته التي فاتتها: كأن تراه وهو يكبر وهو يبكي وهو يضحك؛ وفي الثانية يصف بيلي شعوره حين يرقص، وهو شعور – في معرض وصفه – أشبه بتيار كهربائي يسري فيه، فيكون كما لو أنه يستلّه من شعورنا نحن، في ما نتابع رحلته، حتى إن الأمر يبدو أقرب ما يكون إلى شعور تطهيري، فردي بقدر ما هو جماعي لا يني ينتشل الروح من وحْل اليأس. في النهاية، خرجتُ من «الفرجة» المسرحية، أكثر افتتانا بالحكاية، وأكثر اكتمالا، مستعيدة الدهشة، باتساع شاسع في العينين، مسلمةً درفات النفس المشرعة لكل ذاك البهاء، دون أدنى نقص أو فتور.
لكن هذه الدهشة «الثانية» ظلّت قابلةً للاختبار؛ ففي الشهر الماضي، في آخر زيارة إلى لندن، توقفت أمام واجهة مسرح «فيكتوريا بالاس»، أفتّش عن ملصق المسرحية الذي انطبع في ذاكرتي. راعني توقف العرض بسبب خضوع مبنى المسرح لعمليات تجديد. بعد بحث، اكتشفت أن المسرحية تقوم بجولة في مختلف أنحاء بريطانيا وآيرلندا، وكانت أولى عروض هذه الجولة تُقدَّم على خشبة مسرح «ويلز ميلينيام سنتر» في مدينة كارديف، عاصمة ويلز، التي تبعد عن لندن أكثر من ساعتين بالقطار. وهكذا كان.. لم أقاوم استدعاء الشعور من جديد بعد ست سنوات، فقطعت الطريق من لندن إلى كارديف، لأعيش الدهشة للمرة الثالثة. لم يكبر الفتى بيلي، ها هو ببنيته الطرية «الخام» يرقص ويطير ويغني، مكتشفا ذاته لأول مرة. بل بدا لي أحلى وأرقّ. البكاء هو البكاء والضحك هو الضحك، كلاهما من القلب، من قلْب القلب، لتكون المحصِّلة «فرجةً» أكثر إدهاشا.
هذه هي عظمة الفن وعظمة الإبداع، أن تظل تُدهش في كل قراءة وفي كل مشاهدة وفي كل فضاء تعبيري، في كل الأزمنة وفي كل الأماكن. وفي كل مرة، تكون كأنها أول مرة، وربما أجمل.

*كاتبة فلسطينية تقيم في دبي



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.