الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

الاستراتيجيات الجديدة تجاوزت «التقليدية» في العمليات

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
TT

الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)

أعاد الهجوم الإرهابي المروّع الذي ضرب مدينة نيس الفرنسية وهي تعيش أجواء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، خلط أوراق السلطات الأمنية؛ كما أثار حفيظة الباحثين المختصين في تطور الفكر والممارسة الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط. ذلك أن محمد لحويج بوهلال منفذ العملية، لم يختر الساحة العامة لممارسة الفعل الإجرامي فقط، بل اختار قبل ذلك زمنا سياسيا يتعلق بذكرى تحيل على الثورة الفرنسية، وما تمثله من رمزية تاريخية وسياسية وآيديولوجية في الفكر الغربي عامة، والفرنسي على وجه التحديد. وتبعا لذلك، لم يكن من الغريب أن يوسم فعل الشاب الفرنسي من أصل تونسي بالإرهاب، وأكثر من ذلك وصفه الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في كلمته للشعب الفرنسي «بالإرهاب الإسلامي»؟. وهو ما يعيد للأذهان حديث رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس عن «فاشية الإسلامية» في أعقاب أحداث «الجمعة الأسود» يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهي أسوأ هجمات إرهابية انتحارية استهدفت فرنسا وراح ضحيتها 130 قتيلا و300 جريح، وتبنّاها تنظيم داعش الإرهابي.
يبدو أن تطوّر الأحداث الإرهابية منذ 2015 إلى حادث 14 - 7 - 2016 يطرح تحديات نوعية جديدة على النخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ ذلك أن سلوك مرتكب «جريمة نيس» الفظيعة محمد لحويج بوهلال الإجرامي، سواء كان بدوافع دينية متطرفة، أم بدوافع انتقامية من الدولة جرّاء ما يعتبره حيفًا مارسته الدولة بتدخلها في علاقته الزواجية، يعني أن السياسات العمومية والتدابير الأمنية والقانونية التي اتخذتها الحكومة واعتبرتها استعجالية لم تستطع بعد الحد من تسارع الضربات الإرهابية بالمدن الأساسية للدولة.
هذا الهجوم الأخير كذلك يعني أن استراتيجية التنظيمات الإرهابية، تجاوزت في حربها مع باريس أسلوبها التقليدي المعتمد على خطف الفرنسيين في بعض بلدان الصحراء الأفريقية، أو الهجوم على بعض مصالح باريس في أفريقيا والشرق الأوسط. فلقد استطاعت الحركات الإرهابية خلق جو من التعبئة الفكرية والعاطفية في صفوف الجيل الرابع من مسلمي الغرب عمومًا، ووجهته للدخول في مواجهة شاملة مع فرنسا داخل أراضيها، وفي أفريقيا للحد من النفوذ الفرنسي هناك.
وهذا المسار نفسه يفسر طبيعة التطور، واستعمال أدوات جديدة في المعركة بين الإرهابيين الجدد وباريس، كما يفسر لماذا ينتقل الإرهابيون الشباب من بلجيكا، مثلا، إلى فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية. ورغم أن هجوم نيس قد لا تتبناه أي منظمة إرهابية فورا (تبناه «داعش» لاحقا)، وقد يكون فعلا تصرفا منفردا لا علاقة لمنفذه بالممارسة الدينية، والمرجعية الدينية المزعومة لـ«داعش» و«القاعدة» وغيرهما، فإنه استطاع بصفتها ممارسة إرهابية تجاوز الارتباط المعنوي بالفكر «الداعشي»، ودخل في استراتيجية تنظيم البغدادي في علاقته بالغرب وفرنسا على الخصوص؛ وهي علاقة تقوم على استعمال كل الوسائل الممكنة لتحقيق أكبر أذى ممكن بالفرد والجماعة والدولة، ولو كانت السكاكين والشاحنة.
وكما كان متوقعًا، عادت النقاشات الحادة التي دشنتها حادثة «شارلي إيبدو» داخل النخبة بخصوص طريقة التعاطي الفرنسي مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة. فبعد ساعات قليلة من هجوم نيس، خرج جيل كيبيل، وهو أستاذ جامعي فرنسي متخصّص في الحركات الإرهابية، وصاحب كتاب «الرعب يحوم على فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» (غاليمار ـــ 2015)، ليوجه نقدا حادا للنخبة السياسية الفرنسية ويتهمها بالعجز، مؤكدا أن المعوّل عليه هو قدرة الشعب الفرنسي على خلق شراكة متينة تدمّر التحدي الإرهابي. وفي حواراته مع وسائل الإعلام الفرنسية يوم الجمعة 15 - 07 - 2016 اتهم كيبيل النخبة السياسية اليمينية واليسارية، باللجوء للمهاترات والغرق فيها، معتبرا الإنتجينسيا الحالية عاجزة وغير قادرة على التعامل مع الإرهاب المعاصر. ويرى هذا العالم السوسيولوجي المتخصص في الظاهرة الإرهابية أن هناك تغييرا جوهريا حدث في «البرمجيات» والخطط التي يتبعها الإرهابيون، وهذا ما يمنحهم فرصة السبق والتأثير الدموي، تاركين وراءهم تقليدية الوسائل الرسمية للدولة الفرنسية. بالنسبة لكيبيل، فإن الإرهاب يتجه نحو مزيد من البساطة في العمل، ولم يعد منشغلا بالقيام بعمليات بوسائل كبيرة، والبحث عن الأسلحة والمتفجرات التي لم يتم استعمالها كما هو الشأن بالنسبة لعملية «استاد دوفرانس». والمشكلة بالنسبة لجيل كيبيل أن السلطة السياسية بعيدة عن فهم ما يجري؛ ولذلك فهي تستدعي الاحتياط، مع أن الجميع يعرف أن قوات من الجيش والشرطة لقوا حتفهم، وأنهم كانوا هدفا للجيل الثالث من الحركيين المتطرفين، وإذا استمر الوضع على هذه الشاكلة، فالدولة ستتجه لاستنفاد قوات حفظ النظام، وهذا يعني بدوره تفكك عرى الشراكة الداخلية «ومن ثم وجب الاستعداد لحرب أهلية بين جيوب منطقية من مختلف الأديان».
رغم غرابة هذا الطرح، فإن هناك أملا لتحدي الظاهرة الإرهابية، ذاك أن الحل الذي يتبناه كيبيل يتلخص في «تعبئة المجتمع، وليس فقط الدولة الفرنسية التي تعرّضت لهجوم، وهذا ما يخلق ويحافظ على الشراكة الفرنسية في جوهرها وتعدّد مكوناته». وفي الوقت نفسه، يرى أنه لا بد من إعادة تشخيص الحالة والعودة إلى السياسات التي توفر الإدراك الحقيقي لطبيعة المعركة، مع تجاوز ذهنية الصفقات السياسية التي تنشغل بالحدث سياسيا بعد وقوعه وتستثمره آيديولوجيًا وانتخابيا في معارك حزبية.
أما بالنسبة لكميل أكغو، مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، فإن هناك عوامل تغذّي الإرهاب، وهي أقوى من السياسات الفرنسية نفسها. والإرهاب ظاهرة عالمية، والقوى الكبرى والدول الفاعلة بالشرق الأوسط تلعب دورا مهما ومتباينا في مواجهته. وهذا التباين واختلاف الاستراتيجيات الدولية وتباين مصالحها، يخلق هامشا واسعا لانتشار الإرهاب واكتساب متعاطفين ومجندين جدد.
لهذا يؤكد أكغو على ضرورة تجاوز الانخراط المحدود للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب. ويقول: إنه لا مفر من تعاون فرنسي – روسي – أميركي وتركي – سعودي في هذا المجال، وبخاصة بعد تحولات «داعش» عامي 2013 و2014؛ وأن المواجهة يجب أن تكون داخل مناطق تجذُّر الإرهاب واستنباته في العراق وسوريا، وليس منطقة من مناطق التأثر به مثل فرنسا.
ولكن هذا التوجه يعارضه الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال أونفري؛ ففي مقابلة تلفزيونية على قناة «بي إف إم تي في» بعد أحداث باريس 2015، اعتبر أونفري أن ما تشهده فرنسا من تكرار الهجمات الإرهابية على أراضيها ناتج أساسًا من تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية لعدد من الدول التي تشهد العنف السياسي والصراع حول السلطة والثروة. وتساءل الفيلسوف الفرنسي «لماذا نختار دولا ضعيفة مثل مالي وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى للتدخل؟...المشكل ليس مشكل إسلام، بل هو مشكل عنصرية، ويجب أن نعترف أننا عنصريون. في حادثة شارلي إيبدو لماذا لم تقل الحكومة للصحافيين توقّفوا عن الإساءة لرسولهم في حين قالت لنفس الرسامين لما رسموا عن شعار اليهود إنه فعل مخجل لكم اعتذروا لإسرائيل؟؟».
من جهته، يعود بنا عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إمانويل تود للخوض في الوضع الداخلي الفرنسي، ليؤكد أن فرنسا تشهد انتشار الإسلاموفوبيا ومهاجمة الإسلام، نتيجة لما تعيشه من كآبة روحية ظهرت إثر التراجع الحاد للمسيحية؛ وما صاحب ذلك من ضمور واختفاء لأشكال الإيمان الميتافيزيقية الغيبية، وسيطرة الإلحاد، وانتشاره وسط النخب ومجالات تشكيل الوعي المجتمعي. ولذلك؛ يسهل مهاجمة الإسلام والحديث عن الإرهاب الإسلامي، والتخويف من المتدينين الفرنسيين. ذلك يقول عالم الاجتماع تود: «إن انحسار الدين يولد فراغا قاتلا وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حاليا في المجتمع الفرنسي». ويضيف تود في هذا الصدد: «إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا إلى توجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام».
عموما، تمثل العملية الإرهابية في مدينة نيس التي خلفت 84 قتيلا و100 جريح، حصيلة غير نهائية، واحدة من الانعطافات النوعية للأعمال الإجرامية ذات الصبغة السياسية. ورغم طابعها الفردي، فإن نتائجها السياسية، تجعل منها تحديا للنخبة السياسية الفرنسية، والمزاج العام الذي يميل لطروحات اليمين التي تؤمن بحتمية «الحرب مع الإسلام». فاستمرار محاولات استثمار الإرهاب لأغراض سياسية انتخابية سيكسب الفكر «الداعشي» وغيره أنصارا جددا في الجيلين الثالث والرابع من المسلمين الأوروبيين والفرنسيين، ويجعل من العنف السياسي والإرهاب ظاهرة غربية بامتياز.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.