الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

الاستراتيجيات الجديدة تجاوزت «التقليدية» في العمليات

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
TT

الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)

أعاد الهجوم الإرهابي المروّع الذي ضرب مدينة نيس الفرنسية وهي تعيش أجواء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، خلط أوراق السلطات الأمنية؛ كما أثار حفيظة الباحثين المختصين في تطور الفكر والممارسة الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط. ذلك أن محمد لحويج بوهلال منفذ العملية، لم يختر الساحة العامة لممارسة الفعل الإجرامي فقط، بل اختار قبل ذلك زمنا سياسيا يتعلق بذكرى تحيل على الثورة الفرنسية، وما تمثله من رمزية تاريخية وسياسية وآيديولوجية في الفكر الغربي عامة، والفرنسي على وجه التحديد. وتبعا لذلك، لم يكن من الغريب أن يوسم فعل الشاب الفرنسي من أصل تونسي بالإرهاب، وأكثر من ذلك وصفه الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في كلمته للشعب الفرنسي «بالإرهاب الإسلامي»؟. وهو ما يعيد للأذهان حديث رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس عن «فاشية الإسلامية» في أعقاب أحداث «الجمعة الأسود» يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهي أسوأ هجمات إرهابية انتحارية استهدفت فرنسا وراح ضحيتها 130 قتيلا و300 جريح، وتبنّاها تنظيم داعش الإرهابي.
يبدو أن تطوّر الأحداث الإرهابية منذ 2015 إلى حادث 14 - 7 - 2016 يطرح تحديات نوعية جديدة على النخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ ذلك أن سلوك مرتكب «جريمة نيس» الفظيعة محمد لحويج بوهلال الإجرامي، سواء كان بدوافع دينية متطرفة، أم بدوافع انتقامية من الدولة جرّاء ما يعتبره حيفًا مارسته الدولة بتدخلها في علاقته الزواجية، يعني أن السياسات العمومية والتدابير الأمنية والقانونية التي اتخذتها الحكومة واعتبرتها استعجالية لم تستطع بعد الحد من تسارع الضربات الإرهابية بالمدن الأساسية للدولة.
هذا الهجوم الأخير كذلك يعني أن استراتيجية التنظيمات الإرهابية، تجاوزت في حربها مع باريس أسلوبها التقليدي المعتمد على خطف الفرنسيين في بعض بلدان الصحراء الأفريقية، أو الهجوم على بعض مصالح باريس في أفريقيا والشرق الأوسط. فلقد استطاعت الحركات الإرهابية خلق جو من التعبئة الفكرية والعاطفية في صفوف الجيل الرابع من مسلمي الغرب عمومًا، ووجهته للدخول في مواجهة شاملة مع فرنسا داخل أراضيها، وفي أفريقيا للحد من النفوذ الفرنسي هناك.
وهذا المسار نفسه يفسر طبيعة التطور، واستعمال أدوات جديدة في المعركة بين الإرهابيين الجدد وباريس، كما يفسر لماذا ينتقل الإرهابيون الشباب من بلجيكا، مثلا، إلى فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية. ورغم أن هجوم نيس قد لا تتبناه أي منظمة إرهابية فورا (تبناه «داعش» لاحقا)، وقد يكون فعلا تصرفا منفردا لا علاقة لمنفذه بالممارسة الدينية، والمرجعية الدينية المزعومة لـ«داعش» و«القاعدة» وغيرهما، فإنه استطاع بصفتها ممارسة إرهابية تجاوز الارتباط المعنوي بالفكر «الداعشي»، ودخل في استراتيجية تنظيم البغدادي في علاقته بالغرب وفرنسا على الخصوص؛ وهي علاقة تقوم على استعمال كل الوسائل الممكنة لتحقيق أكبر أذى ممكن بالفرد والجماعة والدولة، ولو كانت السكاكين والشاحنة.
وكما كان متوقعًا، عادت النقاشات الحادة التي دشنتها حادثة «شارلي إيبدو» داخل النخبة بخصوص طريقة التعاطي الفرنسي مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة. فبعد ساعات قليلة من هجوم نيس، خرج جيل كيبيل، وهو أستاذ جامعي فرنسي متخصّص في الحركات الإرهابية، وصاحب كتاب «الرعب يحوم على فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» (غاليمار ـــ 2015)، ليوجه نقدا حادا للنخبة السياسية الفرنسية ويتهمها بالعجز، مؤكدا أن المعوّل عليه هو قدرة الشعب الفرنسي على خلق شراكة متينة تدمّر التحدي الإرهابي. وفي حواراته مع وسائل الإعلام الفرنسية يوم الجمعة 15 - 07 - 2016 اتهم كيبيل النخبة السياسية اليمينية واليسارية، باللجوء للمهاترات والغرق فيها، معتبرا الإنتجينسيا الحالية عاجزة وغير قادرة على التعامل مع الإرهاب المعاصر. ويرى هذا العالم السوسيولوجي المتخصص في الظاهرة الإرهابية أن هناك تغييرا جوهريا حدث في «البرمجيات» والخطط التي يتبعها الإرهابيون، وهذا ما يمنحهم فرصة السبق والتأثير الدموي، تاركين وراءهم تقليدية الوسائل الرسمية للدولة الفرنسية. بالنسبة لكيبيل، فإن الإرهاب يتجه نحو مزيد من البساطة في العمل، ولم يعد منشغلا بالقيام بعمليات بوسائل كبيرة، والبحث عن الأسلحة والمتفجرات التي لم يتم استعمالها كما هو الشأن بالنسبة لعملية «استاد دوفرانس». والمشكلة بالنسبة لجيل كيبيل أن السلطة السياسية بعيدة عن فهم ما يجري؛ ولذلك فهي تستدعي الاحتياط، مع أن الجميع يعرف أن قوات من الجيش والشرطة لقوا حتفهم، وأنهم كانوا هدفا للجيل الثالث من الحركيين المتطرفين، وإذا استمر الوضع على هذه الشاكلة، فالدولة ستتجه لاستنفاد قوات حفظ النظام، وهذا يعني بدوره تفكك عرى الشراكة الداخلية «ومن ثم وجب الاستعداد لحرب أهلية بين جيوب منطقية من مختلف الأديان».
رغم غرابة هذا الطرح، فإن هناك أملا لتحدي الظاهرة الإرهابية، ذاك أن الحل الذي يتبناه كيبيل يتلخص في «تعبئة المجتمع، وليس فقط الدولة الفرنسية التي تعرّضت لهجوم، وهذا ما يخلق ويحافظ على الشراكة الفرنسية في جوهرها وتعدّد مكوناته». وفي الوقت نفسه، يرى أنه لا بد من إعادة تشخيص الحالة والعودة إلى السياسات التي توفر الإدراك الحقيقي لطبيعة المعركة، مع تجاوز ذهنية الصفقات السياسية التي تنشغل بالحدث سياسيا بعد وقوعه وتستثمره آيديولوجيًا وانتخابيا في معارك حزبية.
أما بالنسبة لكميل أكغو، مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، فإن هناك عوامل تغذّي الإرهاب، وهي أقوى من السياسات الفرنسية نفسها. والإرهاب ظاهرة عالمية، والقوى الكبرى والدول الفاعلة بالشرق الأوسط تلعب دورا مهما ومتباينا في مواجهته. وهذا التباين واختلاف الاستراتيجيات الدولية وتباين مصالحها، يخلق هامشا واسعا لانتشار الإرهاب واكتساب متعاطفين ومجندين جدد.
لهذا يؤكد أكغو على ضرورة تجاوز الانخراط المحدود للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب. ويقول: إنه لا مفر من تعاون فرنسي – روسي – أميركي وتركي – سعودي في هذا المجال، وبخاصة بعد تحولات «داعش» عامي 2013 و2014؛ وأن المواجهة يجب أن تكون داخل مناطق تجذُّر الإرهاب واستنباته في العراق وسوريا، وليس منطقة من مناطق التأثر به مثل فرنسا.
ولكن هذا التوجه يعارضه الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال أونفري؛ ففي مقابلة تلفزيونية على قناة «بي إف إم تي في» بعد أحداث باريس 2015، اعتبر أونفري أن ما تشهده فرنسا من تكرار الهجمات الإرهابية على أراضيها ناتج أساسًا من تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية لعدد من الدول التي تشهد العنف السياسي والصراع حول السلطة والثروة. وتساءل الفيلسوف الفرنسي «لماذا نختار دولا ضعيفة مثل مالي وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى للتدخل؟...المشكل ليس مشكل إسلام، بل هو مشكل عنصرية، ويجب أن نعترف أننا عنصريون. في حادثة شارلي إيبدو لماذا لم تقل الحكومة للصحافيين توقّفوا عن الإساءة لرسولهم في حين قالت لنفس الرسامين لما رسموا عن شعار اليهود إنه فعل مخجل لكم اعتذروا لإسرائيل؟؟».
من جهته، يعود بنا عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إمانويل تود للخوض في الوضع الداخلي الفرنسي، ليؤكد أن فرنسا تشهد انتشار الإسلاموفوبيا ومهاجمة الإسلام، نتيجة لما تعيشه من كآبة روحية ظهرت إثر التراجع الحاد للمسيحية؛ وما صاحب ذلك من ضمور واختفاء لأشكال الإيمان الميتافيزيقية الغيبية، وسيطرة الإلحاد، وانتشاره وسط النخب ومجالات تشكيل الوعي المجتمعي. ولذلك؛ يسهل مهاجمة الإسلام والحديث عن الإرهاب الإسلامي، والتخويف من المتدينين الفرنسيين. ذلك يقول عالم الاجتماع تود: «إن انحسار الدين يولد فراغا قاتلا وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حاليا في المجتمع الفرنسي». ويضيف تود في هذا الصدد: «إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا إلى توجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام».
عموما، تمثل العملية الإرهابية في مدينة نيس التي خلفت 84 قتيلا و100 جريح، حصيلة غير نهائية، واحدة من الانعطافات النوعية للأعمال الإجرامية ذات الصبغة السياسية. ورغم طابعها الفردي، فإن نتائجها السياسية، تجعل منها تحديا للنخبة السياسية الفرنسية، والمزاج العام الذي يميل لطروحات اليمين التي تؤمن بحتمية «الحرب مع الإسلام». فاستمرار محاولات استثمار الإرهاب لأغراض سياسية انتخابية سيكسب الفكر «الداعشي» وغيره أنصارا جددا في الجيلين الثالث والرابع من المسلمين الأوروبيين والفرنسيين، ويجعل من العنف السياسي والإرهاب ظاهرة غربية بامتياز.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».