الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

الاستراتيجيات الجديدة تجاوزت «التقليدية» في العمليات

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
TT

الفكر والممارسات الإرهابية في أوروبا تحت مجهر الباحثين

رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)
رجال شرطة فرنسيون يفتشون الشاحنة التي استخدمها إرهابي نيس في دهس ضحاياه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني في 15 الحالي (أ.ف.ب)

أعاد الهجوم الإرهابي المروّع الذي ضرب مدينة نيس الفرنسية وهي تعيش أجواء الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، خلط أوراق السلطات الأمنية؛ كما أثار حفيظة الباحثين المختصين في تطور الفكر والممارسة الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط. ذلك أن محمد لحويج بوهلال منفذ العملية، لم يختر الساحة العامة لممارسة الفعل الإجرامي فقط، بل اختار قبل ذلك زمنا سياسيا يتعلق بذكرى تحيل على الثورة الفرنسية، وما تمثله من رمزية تاريخية وسياسية وآيديولوجية في الفكر الغربي عامة، والفرنسي على وجه التحديد. وتبعا لذلك، لم يكن من الغريب أن يوسم فعل الشاب الفرنسي من أصل تونسي بالإرهاب، وأكثر من ذلك وصفه الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند في كلمته للشعب الفرنسي «بالإرهاب الإسلامي»؟. وهو ما يعيد للأذهان حديث رئيس الحكومة الفرنسي مانويل فالس عن «فاشية الإسلامية» في أعقاب أحداث «الجمعة الأسود» يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهي أسوأ هجمات إرهابية انتحارية استهدفت فرنسا وراح ضحيتها 130 قتيلا و300 جريح، وتبنّاها تنظيم داعش الإرهابي.
يبدو أن تطوّر الأحداث الإرهابية منذ 2015 إلى حادث 14 - 7 - 2016 يطرح تحديات نوعية جديدة على النخبة السياسية والثقافية الفرنسية؛ ذلك أن سلوك مرتكب «جريمة نيس» الفظيعة محمد لحويج بوهلال الإجرامي، سواء كان بدوافع دينية متطرفة، أم بدوافع انتقامية من الدولة جرّاء ما يعتبره حيفًا مارسته الدولة بتدخلها في علاقته الزواجية، يعني أن السياسات العمومية والتدابير الأمنية والقانونية التي اتخذتها الحكومة واعتبرتها استعجالية لم تستطع بعد الحد من تسارع الضربات الإرهابية بالمدن الأساسية للدولة.
هذا الهجوم الأخير كذلك يعني أن استراتيجية التنظيمات الإرهابية، تجاوزت في حربها مع باريس أسلوبها التقليدي المعتمد على خطف الفرنسيين في بعض بلدان الصحراء الأفريقية، أو الهجوم على بعض مصالح باريس في أفريقيا والشرق الأوسط. فلقد استطاعت الحركات الإرهابية خلق جو من التعبئة الفكرية والعاطفية في صفوف الجيل الرابع من مسلمي الغرب عمومًا، ووجهته للدخول في مواجهة شاملة مع فرنسا داخل أراضيها، وفي أفريقيا للحد من النفوذ الفرنسي هناك.
وهذا المسار نفسه يفسر طبيعة التطور، واستعمال أدوات جديدة في المعركة بين الإرهابيين الجدد وباريس، كما يفسر لماذا ينتقل الإرهابيون الشباب من بلجيكا، مثلا، إلى فرنسا لتنفيذ أعمال إرهابية. ورغم أن هجوم نيس قد لا تتبناه أي منظمة إرهابية فورا (تبناه «داعش» لاحقا)، وقد يكون فعلا تصرفا منفردا لا علاقة لمنفذه بالممارسة الدينية، والمرجعية الدينية المزعومة لـ«داعش» و«القاعدة» وغيرهما، فإنه استطاع بصفتها ممارسة إرهابية تجاوز الارتباط المعنوي بالفكر «الداعشي»، ودخل في استراتيجية تنظيم البغدادي في علاقته بالغرب وفرنسا على الخصوص؛ وهي علاقة تقوم على استعمال كل الوسائل الممكنة لتحقيق أكبر أذى ممكن بالفرد والجماعة والدولة، ولو كانت السكاكين والشاحنة.
وكما كان متوقعًا، عادت النقاشات الحادة التي دشنتها حادثة «شارلي إيبدو» داخل النخبة بخصوص طريقة التعاطي الفرنسي مع هذه الظاهرة المركبة والمعقدة. فبعد ساعات قليلة من هجوم نيس، خرج جيل كيبيل، وهو أستاذ جامعي فرنسي متخصّص في الحركات الإرهابية، وصاحب كتاب «الرعب يحوم على فرنسا، نشأة الجهاد الفرنسي» (غاليمار ـــ 2015)، ليوجه نقدا حادا للنخبة السياسية الفرنسية ويتهمها بالعجز، مؤكدا أن المعوّل عليه هو قدرة الشعب الفرنسي على خلق شراكة متينة تدمّر التحدي الإرهابي. وفي حواراته مع وسائل الإعلام الفرنسية يوم الجمعة 15 - 07 - 2016 اتهم كيبيل النخبة السياسية اليمينية واليسارية، باللجوء للمهاترات والغرق فيها، معتبرا الإنتجينسيا الحالية عاجزة وغير قادرة على التعامل مع الإرهاب المعاصر. ويرى هذا العالم السوسيولوجي المتخصص في الظاهرة الإرهابية أن هناك تغييرا جوهريا حدث في «البرمجيات» والخطط التي يتبعها الإرهابيون، وهذا ما يمنحهم فرصة السبق والتأثير الدموي، تاركين وراءهم تقليدية الوسائل الرسمية للدولة الفرنسية. بالنسبة لكيبيل، فإن الإرهاب يتجه نحو مزيد من البساطة في العمل، ولم يعد منشغلا بالقيام بعمليات بوسائل كبيرة، والبحث عن الأسلحة والمتفجرات التي لم يتم استعمالها كما هو الشأن بالنسبة لعملية «استاد دوفرانس». والمشكلة بالنسبة لجيل كيبيل أن السلطة السياسية بعيدة عن فهم ما يجري؛ ولذلك فهي تستدعي الاحتياط، مع أن الجميع يعرف أن قوات من الجيش والشرطة لقوا حتفهم، وأنهم كانوا هدفا للجيل الثالث من الحركيين المتطرفين، وإذا استمر الوضع على هذه الشاكلة، فالدولة ستتجه لاستنفاد قوات حفظ النظام، وهذا يعني بدوره تفكك عرى الشراكة الداخلية «ومن ثم وجب الاستعداد لحرب أهلية بين جيوب منطقية من مختلف الأديان».
رغم غرابة هذا الطرح، فإن هناك أملا لتحدي الظاهرة الإرهابية، ذاك أن الحل الذي يتبناه كيبيل يتلخص في «تعبئة المجتمع، وليس فقط الدولة الفرنسية التي تعرّضت لهجوم، وهذا ما يخلق ويحافظ على الشراكة الفرنسية في جوهرها وتعدّد مكوناته». وفي الوقت نفسه، يرى أنه لا بد من إعادة تشخيص الحالة والعودة إلى السياسات التي توفر الإدراك الحقيقي لطبيعة المعركة، مع تجاوز ذهنية الصفقات السياسية التي تنشغل بالحدث سياسيا بعد وقوعه وتستثمره آيديولوجيًا وانتخابيا في معارك حزبية.
أما بالنسبة لكميل أكغو، مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، فإن هناك عوامل تغذّي الإرهاب، وهي أقوى من السياسات الفرنسية نفسها. والإرهاب ظاهرة عالمية، والقوى الكبرى والدول الفاعلة بالشرق الأوسط تلعب دورا مهما ومتباينا في مواجهته. وهذا التباين واختلاف الاستراتيجيات الدولية وتباين مصالحها، يخلق هامشا واسعا لانتشار الإرهاب واكتساب متعاطفين ومجندين جدد.
لهذا يؤكد أكغو على ضرورة تجاوز الانخراط المحدود للولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب. ويقول: إنه لا مفر من تعاون فرنسي – روسي – أميركي وتركي – سعودي في هذا المجال، وبخاصة بعد تحولات «داعش» عامي 2013 و2014؛ وأن المواجهة يجب أن تكون داخل مناطق تجذُّر الإرهاب واستنباته في العراق وسوريا، وليس منطقة من مناطق التأثر به مثل فرنسا.
ولكن هذا التوجه يعارضه الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشال أونفري؛ ففي مقابلة تلفزيونية على قناة «بي إف إم تي في» بعد أحداث باريس 2015، اعتبر أونفري أن ما تشهده فرنسا من تكرار الهجمات الإرهابية على أراضيها ناتج أساسًا من تدخل فرنسا في الشؤون الداخلية لعدد من الدول التي تشهد العنف السياسي والصراع حول السلطة والثروة. وتساءل الفيلسوف الفرنسي «لماذا نختار دولا ضعيفة مثل مالي وليبيا والنيجر وأفريقيا الوسطى للتدخل؟...المشكل ليس مشكل إسلام، بل هو مشكل عنصرية، ويجب أن نعترف أننا عنصريون. في حادثة شارلي إيبدو لماذا لم تقل الحكومة للصحافيين توقّفوا عن الإساءة لرسولهم في حين قالت لنفس الرسامين لما رسموا عن شعار اليهود إنه فعل مخجل لكم اعتذروا لإسرائيل؟؟».
من جهته، يعود بنا عالم الاجتماع الفرنسي الكبير إمانويل تود للخوض في الوضع الداخلي الفرنسي، ليؤكد أن فرنسا تشهد انتشار الإسلاموفوبيا ومهاجمة الإسلام، نتيجة لما تعيشه من كآبة روحية ظهرت إثر التراجع الحاد للمسيحية؛ وما صاحب ذلك من ضمور واختفاء لأشكال الإيمان الميتافيزيقية الغيبية، وسيطرة الإلحاد، وانتشاره وسط النخب ومجالات تشكيل الوعي المجتمعي. ولذلك؛ يسهل مهاجمة الإسلام والحديث عن الإرهاب الإسلامي، والتخويف من المتدينين الفرنسيين. ذلك يقول عالم الاجتماع تود: «إن انحسار الدين يولد فراغا قاتلا وظواهر عنيفة تحاول ملء هذا الفراغ، وهذا ما يحدث حاليا في المجتمع الفرنسي». ويضيف تود في هذا الصدد: «إن التركيز على الإسلام يعكس في الحقيقة وجود حاجة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا إلى توجيه سهام الكُره في اتجاه ما، وليس فقط خوفا من تهديد الطبقات الفقيرة. إن كره الأجانب الذي كان حِكرا في الماضي على الشرائح الشعبية صار الآن شعار النخبة والطبقات الميسورة التي تبحث عن كبش فداء من خلال الإسلام».
عموما، تمثل العملية الإرهابية في مدينة نيس التي خلفت 84 قتيلا و100 جريح، حصيلة غير نهائية، واحدة من الانعطافات النوعية للأعمال الإجرامية ذات الصبغة السياسية. ورغم طابعها الفردي، فإن نتائجها السياسية، تجعل منها تحديا للنخبة السياسية الفرنسية، والمزاج العام الذي يميل لطروحات اليمين التي تؤمن بحتمية «الحرب مع الإسلام». فاستمرار محاولات استثمار الإرهاب لأغراض سياسية انتخابية سيكسب الفكر «الداعشي» وغيره أنصارا جددا في الجيلين الثالث والرابع من المسلمين الأوروبيين والفرنسيين، ويجعل من العنف السياسي والإرهاب ظاهرة غربية بامتياز.
*أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟