الواقع الافتراضي.. تقنيات مطورة تتيح للعقل التجوال في آفاق رحبة

ربما يبدو ما سأقوله هنا غريبًا بالنسبة للكثيرين، لكن الحقيقة أنك لا تقدر حقيقة حجم ما تحتاج إليه كي ترى يديك، حتى يصبح من المتعذر عليك رؤيتهما.
يداك ـ إنهما موجودتان باستمرار. وحتى في خضم أكثر التجارب الإعلامية كثافة، مثل مشاهدة فيلم من نوعية «آيماكس» ـ يبقى لديك دومًا شعور بالمكان الذي توجد فيه يداك تحديدًا، ما يمثل مصدرا لشعور كبير بالراحة بداخلك. ولأن باستطاعتك رؤية يديك، تجد باستطاعتك مدهما لتناول حبات الذرة المقلية من دون صعوبة. ولأن عينيك بمقدورهما التحول بعيدًا عن الشاشة، يبقى بإمكانك تفقد هاتفك للتأكد من عدم ورود رسالة طارئة.
ومع ذلك، فإنه بمجرد ارتدائك نظارات الواقع الافتراضي تختفي يداك، وكذلك العالم بأسره من حولك. وبطبيعة الحال، يتملكك حينها شعور بالهلع.
* عالم خيالي منفصل
تبدو الفكرة هنا واضحة تمامًا؛ ذلك أن مجمل الفكرة وراء تقنيات الواقع الافتراضي، هي خلق وجود خيالي منفصل عن العالم المحيط لك. ومن خلال الواقع الافتراضي، تهرب من واقع كئيب وفان، نحو تجربة مختلفة تمامًا، حيث تجد نفسك تتسلق جانب أحد الجبال أو تستكشف متحفًا بعيدًا أو تطير عبر الفضاء أو تمر بتجربة عاطفية تفوق حدود أحلامك على أرض الواقع.
بيد أنه في الكثير من جوانبه، تبدو تجربة المحاكاة مكثفة للغاية. وبعد قضائي بضعة أسابيع مع اثنين من أقوى أجهزة الواقع الافتراضي المتوافرة بالأسواق: «أوكيولوس ريفت» Oculus Rift و«إتش تي سي فيف HTC Vive»، تولد داخلي اعتقاد بأن الجماهير الغفيرة ستستخدم الواقع الافتراضي يومًا ما، لكن ليس قريبًا. وفي الواقع، فإني لست واثقا من أننا مستعدون لدمج الواقع الافتراضي في حياتنا، بغض النظر عن مدى الشعور بالإثارة الذي يبديه خبراء وادي السليكون حيال الأمر.
الواضح أن الانغماس تمامًا في تجربة محاكاة أمر جيد لأمور مثل الألعاب، لكن بالنسبة لغالبية المواد الإعلامية، فإن الانغماس الكامل يبدو وكأنه تجربة قديمة الطراز. نظرًا لأنه يترك جسدك محصورًا داخل العالم المادي بينما يجول عقلك في آفاق لا حدود لها، لا يتوافق الواقع الافتراضي مع الكيفية التي يعمل بها غالبية الأفراد على الكومبيوتر أو يشاهدون التلفزيون أو يواجهون الكثير من التجارب الرقمية الأخرى.
ويعتبر الواقع الافتراضي مناقضًا للهاتف الذكي، وهو جهاز يوفر لك لمحات سريعة من العالم الرقمي أثناء تجولك عبر العالم الحقيقي. بدلاً من ذلك، يعد الواقع الافتراضي في أفضل صوره محاولة من جانب المرء للانسحاب إلى داخل الكهف الخاص به ـ أو الانغماس في تجربة يسيطر عليه خلالها الشعور بالوحدة لا تسمح له بالقيام بمهام متنوعة، ولا تفسح مجالاً للتداخل بين العالمين الحقيقي والرقمي.
ويقول جيرمي بيلينسون، مدير مختبر «فيرتشوال هيومان إنتراكشن» في ستانفورد عن الواقع الافتراضي: «إنني من الداعين بقوة إلى ضرورة توخي الحذر حيال استخدامنا لهذه التقنية؛ ذلك أن الانغماس فيها ليس مجانًا، وإنما له كلفته، فهو يستخلصك بعيدًا عن البيئة المحيطة بك، بجانب فرضه أعباء على إدراكنا بعض الأحيان. والواضح أنه من المتعذر استخدام الواقع الافتراضي على النحو الذي تستخدم فيه الوسائط الإعلامية الأخرى لساعات وساعات يوميًا».
* تقنيات ناشئة
ويكمن جزء من المشكلة في أن تقنية الواقع الافتراضي لا تزال غير جيدة بما يكفي. ويقارن العاملون لدى «أوكيولوس»، الشركة الناشئة في مجال تقنيات الواقع الافتراضي التي اشترتها شركة «فيسبوك» مقابل ملياري دولار عام 2014، جهاز «أوكيولوس ريفت» الذي ابتكروه، بكومبيوتر «آبل 2» الشخصي ـ إحدى النسخ الأولى من جهاز غير وجه العالم ـ.
جدير بالذكر أن «آبل 2» جرى طرحه في الأسواق عام 1977، لكن الأمر تطلب مرور عقدين كاملين قبل أن تصبح الكومبيوترات الشخصية من المنتجات المألوفة. وبالمثل، كانت النسخ الأولى من الكومبيوترات الشخصية باهظة الكلفة (كان يجري بيع «آبل 2» مقابل ما يعادل اليوم قرابة 5000 دولار)، ولا تختلف أجهزة الواقع الافتراضي على هذا الصعيد، حيث يبلغ سعر «أوكيولوس ريفت» 599 دولارا، بينما يبلغ سعر «فيف» 799 دولارا. علاوة على ذلك، يتطلب كلاهما كومبيوترا مكتبيا قويا؛ الأمر الذي يرفع إجمالي التكلفة إلى 1000 دولار على الأقل.
وقد أخبرني مندوب من شركة «أوكيولوس» بأن واحدًا من بين أهداف الشركة إضافة مزيد من أعضاء الجسم إلى تجربة المحاكاة، بحيث لا تشعر بأن عقلك وأطرافك في عالمين مختلفين. وفي وقت لاحق من العام، من المقرر أن تطلق «أوكيولوس» جهازي تحكم حساسين للمس. وعندما تحمل الجهازين معك إلى داخل الواقع الافتراضي، مثلما فعلت أنا خلال تجربة داخل مقر شركة «فيسبوك»، سيصبح بمقدورك مشاهدة تصوير ليديك داخل الفضاء الافتراضي، وتمكنك أجهزة التحكم من التعامل مع أجسام افتراضية على نحو يجعلك تشعر بأن التجربة حقيقية للغاية. داخل غرفة التجارب لدى «أوكيولوس»، قذفت الكرة ثلاث مرات في شبكة كرة سلة، وضربت شابًا مرارًا خلال مباراة هوكي، ومررت بعض الألعاب الرقمية ذهابًا وإيابًا مع أحد موظفي «أوكيولوس» كان يرتدي الجهاز على رأسه هو الآخر. ومقارنة بالنسخة الحالية من إمكانية استخدام اليدين في «أوكيولوس» المتاحة حاليًا بالأسواق، فإن هذه النسخة التي تعاملت معها خلال التجربة تنطوي على قدر أقل من الانفصال عن بين ما يفعله جسمي في العالم الحقيقي وما تراه عيني في العالم الواقعي.
على هذا الصعيد، يعتبر جهاز «فيف» من إنتاج شركة «إتش تي سي»، متقدمًا على «أوكيولوس»، حيث يأتي الجهاز مزودًا بأدوات تحكم تشعر بحركة اليد وتسمح باستخدام أجسام رقمية، كما يضم الجهاز الذي يجري ارتداؤه على الرأس كاميرا يسهل استخدامها توفر خريطة للغرفة من حولك؛ ما يمكنك من الوصول لمقعدك ولوحة المفاتيح الخاصة بالكومبيوتر من دون البحث عنهم من دون هدى.
بيد أنه رغم تحسن التقنية، يبقى الواقع الافتراضي أمرًا يحتاج إلى مجهود للاعتياد عليه؛ فهو تجربة استثنائية، خصوصا في ظل عصرنا الراهن القائم على فكرة القيام بمهام متنوعة في وقت واحد، فربما تشعر بالرغبة في كتابة رسالة عبر «تويتر» أثناء مشاهدتك مناظرة بين مرشحين في الانتخابات الرئاسية، أو مباراة النهائي بمسابقة رياضية. وربما تميل أكثر للقيام بمهام متعددة أثناء مشاهدتك مادة أطول وأكثر جدية، مثل فيلم.
إلا أن تجارب الواقع الافتراضي الحالية، على الجانب الآخر، لا تمكنك من تحويل ناظريك لما وراء تجربتك الآنية. وبمجرد دخولك لتجربة واقع افتراضي، تصبح بداخلها تمامًا، لدرجة أن مجرد تناول وجبة خفيفة تصبح مهمة تنطوي على قدر كبير من التحدي. الحقيقة أنه كلما زادت كثافة تجربة الواقع الافتراضي التي تعايشها، تضاءل اندماجك في العالم الحقيقي.
من جانبه، أوضح بيلينسون أنه: «بوجه عام، فإننا لا ندع شخصًا يرتدي جهاز الرأس لأكثر من 20 دقيقة تقريبًا، ونحرص على منحه استراحات متكررة. إن الانفصال الإدراكي عن العالم لمدة أطول من ذلك ربما لا يكون أمرًا يرغب الكثيرون في معايشته».
أيضًا، تحمل أجهزة الواقع الافتراضي معها القلق من أنك ربما تبدو كالأحمق لدى استخدامها. وخلاصة القول، إنه إذا لم تكن من البارعين في الألعاب الرقمية، فإن أجهزة الواقع الافتراضي بصورتها الراهنة ربما لا تكون مناسبة لك لأنها تحمل قدرًا مفرطًا من الانغماس بها بعيدًا عن العالم الحقيقي.

*خدمة «نيويورك تايمز»