من التاريخ : تأملات تاريخية في البطولة الأوروبية

جان تيغانا
جان تيغانا
TT

من التاريخ : تأملات تاريخية في البطولة الأوروبية

جان تيغانا
جان تيغانا

تابعت كما تابع الملايين، بل المليارات حول العالم، نهائيات كأس الأمم الأوروبية التي أقيمت في فرنسا أخيرًا، وكانت محل اهتمام كل وسائل الإعلام والجماهير الغفيرة، خصوصًا فيما يتعلق بمباراة فرنسا وألمانيا ثم النهائي بين فرنسا والبرتغال. ولقد وجدت ومضات فكر تتناثر أمامي حول تاريخ كرة القدم وأنا أشاهد المباراة بتحمس شديد، وقد رأيت طرحها على القارئ العزيز على النحو التالي:
أولاً: أمعنت التدقيق في المنتخب الوطني الفرنسي أثناء عزف السلام الوطني المعروف باسم «لامارسييز»، ولاحظت على الفور كثافة عدد اللاعبين من أصحاب الوجوه السمراء وذوي الأصول الأفريقية ولقد غلب هؤلاء على الفريق الفرنسي بشكل يكاد يكون كاملاً. وعاد إلى ذاكرتي على الفور المنتخب الفرنسي المشارك في كأس العالم بإسبانيا عام 1982 بقيادة ميشال بلاتيني وديدييه سيس وألان جيريس وغيرهم، فمحصت في ذاكرتي هذا الفريق العملاق وتذكرت أن هذا الفريق لم يشمل إلا لاعبين اثنين من ذوي البشرة السمراء هما ماريوس تريزور وجان تيغانا اللذان أمتعانا جميعًا، وعندها أدركت أن العالم بالفعل تغير، وأن أبناء الأجيال الأفريقية أصبح لها دورها في تمثيل بلادها من دون أن تنسى جذورها.
ثانيًا: عدت بذاكرتي على الفور إلى عام 1974 خلال نهائيات كأس العالم الشهيرة في ألمانيا الغربية آنذاك، وتذكرت على الفور الفريق الألماني الذي كنت أشجعه بكل قوة وأنا طفل، الذي تضمن لاعبين عظماء مثل غيرد موللر وفرانتس بيكنباور والحارس العملاق سيب ماير. ثم عدت من رحلة الذاكرة على الفور لأراجع وجوه المنتخب الألماني المشارك في نهائيات فرنسا الأخيرة، الذي خرج منها بعد هزيمته أمام الفريق الفرنسي، ولقد ضم هو الآخر الكثير من أبناء المجنّسين الألمان وعلى رأسهم جيروم بواتانغ ومسعود أوزل وسامي خضيرة، وهذا أمر لم يكن متخيلاً في عام 1974. وعند هذا الحد أدركت مرة أخرى أن العالم بالفعل تغير، وأن العولمة صارت في كل شيء بما في ذلك كرة القدم. ففكرة الانصهار الإثني في كرة القدم أصبحت قاعدة أكيدة مع أنها ليست بالضرورة قاعدة مطبقة في كل المجالات، بطبيعة الحال. ولو تخيلنا فرنسا من دون الأسود من الأصول الأفريقية ما كنت أظن أنها كانت ستصل إلى النهائي. وأعتقد أن الشيء نفسه ينطبق على الفريق الألماني.
ثالثًا: واتصالاً بما سبق، أذكر الحوار الذي دار مع والدي - رحمات الله عليه - خلال نهائيات كأس العالم عام 1974 عن سبب عدم مشاركة مصر في البطولة، فأوضح لي أن الأماكن المخصصة لأفريقيا هي لمنتخبين فقط لا غير، ولا يسمح لها بأكثر من ذلك في الوقت الذي تشارك فيه قارات العالم بنصيب أوفر بكثير. وأذكر أنني كنت مستاءً للغاية لهذه الظاهرة وهي الظاهرة التي بدأت تتغير بعض الشيء مع مرور البطولات، فاليوم تشارك أفريقيا بخمسة منتخبات، وذلك في الوقت الذي يشارك أبناء هذه القارة العظيمة في أندية الدوري الأوروبي بشكل كبير للغاية. وحاليًا لا يمكن أن نتخيل فريقًا أوروبيًا ليس فيه ممثل عن القارة السمراء، إلى الحد الذي يمكن أن نرى فريقًا في الدوري الإنجليزي لا يتضمن إلا لاعبين أو ثلاثة لاعبين إنجليز أما الباقون فمن الدول المختلفة سواء الأوروبية أو الأفريقية أو الأميركية اللاتينية. وتقديري أن هذا نتاج طبيعي لتغير الموروث التاريخي ويأتي إعلانًا مرة أخرى عن ضغوط العولمة والمصلحة والعوامل الاقتصادية والربحية التي بدأت تغير شكل كرة القدم.
رابعًا: وجدت نفسي خلال مشاهدة المباراة أتأمل ما صارت إليه لعبة كرة القدم منذ أن بدأت متابعتها خلال أربعة حقب، فوجدت أن البطولات الدولية المختلفة مثل كأس العالم وكأس القارات وغيرها سيطرت على العالم كله. فاليوم يتابع العالم كله هذه البطولات، بل أصبحت تذاع حصريًا على قنوات بعينها تدفع الملايين بهدف الاستئثار بنقل هذه المناسبات لتحصل منها على ملايين إضافية. لقد أصبحت كرة القدم التي كنت أعرفها مرة أخرى «ظاهرة دولية» لها قواعد بدأت تترسخ تدريجيًا حتى أصبح الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» FIFA، وهو الجهاز المنظم لهذه اللعبة في العالم، إمبراطورية قائمة بذاتها، لها قواعدها وأسلوبها في إدارة شؤون اللعبة دون أي اعتبار لسيادة أو حدود قطرية. وعقب الانتهاء من المباراة اطلعت مرة أخرى على مراجع مادة العلاقات الدولية لأحاول توصيف «الفيفا» بعدما أصبح كيانًا قويًا للغاية يمكن أن يسهم في فرحة الملايين أو إتعاسهم على حد سواء، فوجدت أفضل تعريف له هو مفهوم «تنظيمات عابرة الحدود» Transnational Regimes، أي «تنظيم دولي خاص». فكل دولة لها اتحادها الذي يخضع لإشراف الاتحاد الدولي الذي يُنتخَب من قبل هذه الاتحادات. بل المدهش في الأمر أن القوانين المحلية لا تنطبق بالضرورة على عمل الاتحاد، ومن المستغرب له أن بعض الاتحادات القطرية لا تخضع للأحكام القضائية. وفي حال ما إذا أصرت الدولة على تطبيق الأحكام تخالف قرارات الاتحاد الدولي فقد تحرم هذه الدولة من المشاركة في البطولات الدولية، وبالتالي، يصبح اتحادها مارقًا أي خارجًا عن قواعد الاتحاد الدولي ويتعرض للعزل.
وختامًا، تيقنت أيضًا من أن اللعبة ذاتها دخلت عليها من المتغيرات الكثيرة على المستوى التكتيكي أو الشكلي، فبجانب التغير الطبيعي المتوقع في شكل ملابس اللاعبين عبر الحقب لاحظت المتغيرات التي دخلت على طريقة لعب كرة القدم. وعدت على الفور إلى بعض المباريات القديمة، فلاحظت تغيّر استراتيجيات اللعبة وديناميكياتها بشكل مخيف. ففي الماضي كانت المباريات تدار بوسيلة 4 - 2 - 4، أما اليوم فهي تدار بـ4 - 4 - 2 أو ما شابه ذلك، وهو ما يحتاج إلى انصهار تكتيكي كبير للغاية بين أعضاء الفريق. والقصد أنه في يومنا هذا لا يلعب أي فريق بجناح، لكن هذا الدور يقوم به لاعب خط الوسط الأيمن أو الأيسر في مناسبات كثيرة أو المدافع الأيمن أو الأيسر، وبالفعل هناك ديناميكية غريبة غيّرت من تاريخ طريقة هذه اللعبة، فالفكر تغير، ومعه المضمون ومعه أيضًا انصهار الأعراق.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.