كافكا وصيرورة الإنسان بين «التحول» و«المحاكمة»

يرسم في أعماله «لوحة عبثية» للوجود الإنساني ويجسد اللامعنى

غلاف الأعمال الكاملة
غلاف الأعمال الكاملة
TT

كافكا وصيرورة الإنسان بين «التحول» و«المحاكمة»

غلاف الأعمال الكاملة
غلاف الأعمال الكاملة

يعتقد البعض أن الروائي لا يخترع الرواية، لأنها موجودة في مكان ما منذ زمن بعيد، ولا يفعل سوى الكشف عنها. وعلى إيقاع هذا الكشف، سنقرأ أدب فرانز كافكا (1883 - 1924)، ونسبر عوالمه «الواقعية».
وصفت روايات كافكا بأنها نقد للمجتمع الصناعي، ولكل أشكال الاستغلال والاستلاب، والأخلاق البرجوازية، وبشكل عام، للرأسمالية وللمجتمع الحداثي. لكن المتصفح أعمال كافكا، يتجاوز هذا النمط من النقد إلى نقد أكثر جذرية للإنسان ذاته، الذي تعد الظواهر تلك، مفعولات له. بهذا المعنى، فالكافكوية تمثل، حسب ميلان كونديرا، قوة أولية كامنة في الإنسان وعالمه. وهي كامنة غير محددة تاريخيا، وترافق الإنسان حتى الأبد. على الرغم من أننا نعيش عصر القلق بامتياز، عصر اللامعنى، أو لنقل عصر غياب المعنى وانتشار العبث في كل علاقاتنا الوجودية. وهذا ما سنلمسه من خلال أدب كافكا، الذي خضع لتأويلات متعددة حد التناقض. إنه يقدم أبطال رواياته منفصلين وتائهين عما يحدث، وكأنهم داخل عالم مظلم أو متاهة، من جراء قوة الحدث وتأثيراته. ففي روايته «المحاكمة» مثلا، لا يعرف المتهم لماذا اتهم وبماذا. ومع ذلك، يتكيف مع اتهامه ويقبله. وهذا ما يجعلنا نميز بين عالمين: «عالم اليومي - الواقعي، وعالم التوجس» والتساؤل حول هذا الذي يحدث لأبطال رواياته (التحول الحيواني لغريغوار والمحاكمة العبثية لجوزيف كـ...)، إنه ينظر إليهم كإمكانية إنسانية أو طريقة في الوجود، وليس كنماذج خاصة يحتذى بها داخل المجتمع. بمعنى أن المغامرات التي تشكل المادة الأولية لرواياته، تنقلنا من «عالم واقعي مألوف» إلى «عالم غريب» ننشد إليه، وكأن الواقع يفجر ذاته كطاقة من الممكنات الوجودية التي يتغير معناها. وهذا هو عالم كافكا، حيث لم يعد الإنسان إنسانا، والحيوان حيوانا، والمحاكمة محاكمة، والعدالة عدالة، والعائلة عائلة. إنه عالم غامض معتم، تتساكن فيه المتناقضات وتتجاور، ما يجعل واقعيته جديرة بالمعرفة والاكتشاف.
في روايته «التحول» (في ترجمات أخرى: المسخ)، استيقظ «غريغوار سامسا» وقد تحول في فراشه إلى حشرة حقيقية (ظهر صلب كدرع، بطن بني، قائمتان نحيلتان، إحساس بانقباضات باردة، رجف على الظهر، حكة في أعلى البطن، تغير في الصوت، صعوبة في الكلام، وعدم التحكم أحيانا في القائمتين...). تساءل «غريغوار»: ماذا وقع لي ؟ ليس هناك اعتراض لهذا الذي حدث، التحول وقع ويجب التعامل معه بإيجاب. إلا أن ما يميز هذا التحول أنه تم إدراكه والوعي به، وأنه واضح للعيان ولا يمكن اعتباره «حلما» أو «خيالا» أو «وهما»، بل إنه «الواقع» وكل الواقع. بهذا المعنى، فهو يمتلك قوة وجوده وقدرة الاستمرار بشكل عادي. لكن بشكل مختلف وبمعان أخرى. إن «حدث التحول» أسس لعلاقة الإنسان - الحيوان مع ذاته ومع العالم. وفتح الحدود بين عالم الإنسانية وعالم الحيوانية. ووضع الإنسان أمام مرآة الطبيعة الإنسانية ومآلاتها ومصيرها، بحيث انصب اهتمام «غريغوار» على التفكير في معنى علاقاته، وفي معنى ما يقوم به، ومعنى عمله. ويتوج هذا التفكير، برفض هذا العمل وهذا الواقع. ويقول: «فليأخذ الشيطان هذا المتجر» (سفر دائم، الأكل الرديء، صعوبة خلق صداقات...). بينما ركزت أسرته اهتمامها على تبعات غيابه عن وظيفته، التي تمس وضعهم الاقتصادي وتهدد مصالحهم المادية فقط، بمعنى الحفاظ على وضعية الاستغلال واستمرارها. إن رواية «التحول» تفجر الرؤية المتعالية والمقدسة عن الإنسان. وتفتح جروحا أخرى أصابت كيانه، إلى جانب الجروح الكسمولوجية (الطبيعية) والبيولوجية والنفسية. إنه جرح المعنى وتشظيه، والانغماس في اللامعنى. ويتمظهر ذلك من خلال فعل التحول. إذ تكمن إنسانية الإنسان في حيوانيته، بينما تكمن حيوانية الحيوان في إنسانيته. بمعنى أنه كلما اتجهنا نحو الحيوانية، كلما اقتربنا من الإنسانية، وكلما اعتقدنا أننا في قلب الإنسانية كنا في قلب الحيوانية. مع كافكا كل شيء معكوس، بحيث يخرج المعنى من اللامعنى، والواقعي من الخيالي، والوجود من العدم. وهذه الثنائيات، لا يمكن عزلها عن بعضها فهي تحمل قوتها في ارتباطاتها، لتشكل ذلك الغموض الإنساني، الذي يتأسس من خلال العلاقات التي يحددها مع ذاته والعالم والآخرين. ففي حالة «غريغوار»، لا يأتي الأذى الحقيقي من التحول في حد ذاته، بل من مفعولاته، من المجتمع، من علاقات الناس المعقدة والمحكومة بالمصالح. لذلك فهو لم يخف مما حدث له. بل مما يحدث في المتجر، كمؤسسة أو كمتاهة لإنتاج اللامعنى. فـ «كافكا» لا ينظر إلى المؤسسة بوصفها مجالا لصراع المصالح الشخصية والاجتماعية، بل يعتبرها آلية للخضوع لا علاقة لها بالمصالح. وهذا ما يجعلها غامضة وعسيرة على الفهم. فالمتجر هو عالم «غريغوار» القبلي، الذي كان يعيش فيه مستلبا بقوانينه ومنفصلا عن ذاته. أما غرفته المظلمة، فهي عالمه الخاص الذي يفكر فيه في ذاته وفي إنسانيته. فهذا «الحيوان - الإنسان»، حول هذه الغرفة المظلمة إلى «غرفة مضيئة»، حيث جعلنا نسائل إنسانيتنا من خلاله. إن هذا «التحول»، عرى كل الادعاءات وكل العلاقات والقيم، وأسقط الأقنعة التي تغلف وجودنا «الإنساني - الحيواني». فالقريب لم يعد قريبا، والأب لم يعد أبا، والأم لم تعد أما، والأخت لم تعد أختا، والأنا لم تعد أنا. لنستمع إلى ما تقوله أخت «غريغوار» لأبويها في حق أخيها: «هذه الوضعية لا يمكن أن تستمر هكذا. وإذا لم تعوا خطورة الأمر. فأنا أعي ذلك. لا أريد أن أنطق اسم أخي وأنا أتحدث عن هذا الوحش الذي يوجد هنا. سأقول لكم فقط، يجب أن نبحث عن طريقة نتخلص بواسطتها من هذا الشيء. لقد قمنا بكل ما يمكن القيام به إنسانيا من أجل معالجته وتحمله. أعتقد لا أحد سوف يلومنا». ماذا ترك لنا كافكا على لسان «غريت» شقيقة «غريغوار»؟ كيف يمكن أن نقبل هذه العدائية، هذا التنكر، هذا التشيؤ، هذا اللامعنى المؤلم، هذه الأنانية الوقحة؟ إنه يكشف لنا عن الأنا وما تحمله من صراع وتصادم بين «إنسانية - الحيوان» و«حيوانية - الإنسان».
وفي روايته «المحاكمة»، يقدم كافكا وضعا إنسانيا غامضا ومعلقا، من خلال شخصية البطل «جوزيف ك»، المتهم من دون أن يعرف طبيعة التهمة الموجهة إليه، ولا أسبابها وحيثياتها. فاللامعنى يغمر صيرورة أحداث الرواية، ابتداء من التهمة والتوقيف والاعتقال إلى الإعدام. يقول: «جوزيف ك»: «أستنتج من هذه الواقعة، أنني متهم دون أن أتمكن من إيجاد أدنى خطأ يمكن تقديم اللوم لي بسببه». فحتى الموظفون الذين جاؤوا لتوقيفه، لا يعرفون شيئا عن أسباب الاعتقال. بل ينفذون الأوامر، وعليه فقط الامتثال. ومن بإمكانه تقديم توضيحات لـ«جوزيف ك» بصدد اعتقاله؟ وما طبيعة التهمة الموجهة إليه؟
ترسم المحاكمة «لوحة عبثية» للوجود الإنساني، وتجسد اللامعنى السافر الذي يخترق التجربة الإنسانية. إنه العدم الذي يتربص بالإنسان أثناء العلاقات التي يقيمها مع العالم. فـ«جوزيف ك» يعترف بأنه يجهل القانون، ويؤكد في الوقت نفسه، أنه غير مذنب. ويقول: «لست مذنبا هناك خطأ ما». إنه على يقين من وجود سلطة ما تتحمل مسؤولية ما يقع، أو أنه، كما أعتقد، ضحية جهاز بيروقراطي فاسد، يستعمل السلطة - القوة لإقامة واقع الاتهام والاعتقال والمحاكمة باسم «العدالة».
تفضح «المحاكمة» عبثية العدالة المتجسدة في لا معنى الاتهام. وتكشف عن كل أشكال الزيف التي تطبع المشتغلين في حقلها، من قضاة وموظفين ومحامين وشرطة... إنها تجعل كل إنسان يحمل في ذاته إمكانية اتهامه. أو لنقل، إنه ليس بريئا، وفي الوقت نفسه ليس مذنبا. إنه في المنزلة بين المنزلتين؟ فهذا الشرخ الوجودي للإنسان، ليس عابرا أو ظرفيا، بقدر ما هو بنية أنطولوجية تخص الكائن الإنساني في مختلف علاقات القوى التي ينسجها مع العالم، سواء أكان صالحا أو طالحا، جبانا أو قويا. فالإحساس بالذنب ملازم للكينونة الإنسانية. إن رواية «المحاكمة» ليست محاكمة لـ«جوزيف ك»، ولا هي محاكمة لوضع اجتماعي أو سياسي معين، ولا هي محاكمة لنمط فكري تم إنتاجه، ولا هي محاكمة لعصر بعينه أو ثقافة أو حضارة ما. بل هي محاكمة لـ«الإنسان» ولـ«إنسانية» الإنسان، ولصيرورته الإنسانية الحيوانية أو الحيوانية الإنسانية، التي تعري وجوده وتفضح أننا لا نعرف، ولم نعرف بعد ذواتنا.
ويلاحظ عند كافكا عموما، أنه لم يتناول المشكلات الإنسانية بشكل نظري تجريدي. أي أنه لم ينتج تصورات نظرية حول هذه القضايا، مثلما هو الأمر عند «جان بول سارتر» أو «ألبير كامو». بل كانت ورشته هي فن الرواية. فهذه الأخيرة، هي المجال العملي لكشف تناقضات الكائن الإنساني نفسه، والغموض الذي يسكنه، المتجسد في فقدان الإنسان إنسانيته، وإبراز الصيرورة الإنسانية الحيوانية، وعقم العدالة وعيبها، لكن مع ذلك قد يشكل هذا العمل أحد المفاتيح الأساسية لفهم عصرنا الراهن، أو لنقل فهم الإنسان فينا.



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.