تركيا تفرض نفسها على الإعلام الروسي

لم يعد ترامب «بطل الشاشات الروسية»، ولم تعد تداعيات نتائج الاستفتاء البريطاني «مسلسلا يوميا» يتكرر بحلقات مختلفة كل ساعة على تلك الشاشات وفي الصحف اليومية والمواقع الإلكترونية الروسية، فالأخبار حول التطبيع بين موسكو وأنقرة تطغى على كل شيء وفي كل مكان. وكما جرت الأمور بين البلدين بسرعة فائقة وكأن أحدهم «كبس زرًا» فتغير كل شيء، الأمر ذاته في الإعلام الروسي الذي اختفت منه الحملات ضد تركيا والاتهامات المباشرة وغير المباشرة لها بدعم الإرهابيين في سوريا. فجأة يتغير كل شيء، وبرز حرص في الإعلام الروسي على مواكبة الخطوات «فوق السريعة» التي اتخذتها موسكو للتطبيع مع تركيا، بعد رسالة وجهها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لنظيره الروسي، أكد الكرملين أنه اعتذر فيها عن حادثة إسقاط مقاتلات تركية لقاذفة روسية في سوريا خريف العام الماضي.
في التغطية الإعلامية الروسية للتطبيع مع تركيا، كان لافتًا بالدرجة الأولى الحرص الذي أظهرته قنوات التلفزة والصحف في التعامل بأكبر قدر من الاحترام مع «رسالة الاعتذار» التي وجهها إردوغان لبوتين، حيث كان متوقعًا بعد 7 أشهر من القطيعة، تناول خلالها الإعلام الروسي تركيا وقادتها بصورة سلبية جدًا، أن يعمد هذا الإعلام إلى التعامل مع رسالة إردوغان انطلاقًا من فكرة «أرأيتم، لقد خضع لنا، ذل نفسه واعتذر»، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث. حتى في تناول نص رسالة إردوغان لبوتين، وما إذا كانت قد تضمنت عبارة اعتذار مباشرة، كان الإعلام الروسي حذرًا، ولم يذهب إلى التشكيك، وهو ما قامت به، على سبيل المثال لا الحصر، وكالة «ريا نوفوستي» التي نشرت تقريرًا بعنوان «ما الذي أجبر إردوغان على الاعتذار»، ذكرت فيه واقعة تسلم بوتين لرسالة من إردوغان عن إسقاط تركيا للقاذفة الروسية «سو – 24» خريف العام الماضي في سوريا، وانتقلت الوكالة بعد ذلك للحديث عن العبارة التي جاءت في الرسالة وتدل على «الاعتذار»، وانطلقت في تناولها هذا الأمر من تصريحات دميتري بيسكوف السكرتير الصحافي للرئيس الروسي، الذي قال إن «الرئيس التركي رجب طيب إردوغان استخدم كلمة «اعذرونا»، وتضيف الوكالة، في مقال رأي أعده روستيسلاف إيشينكو، أن هذا التفسير الذي قدمه الكرملين «يدل على أن روسيا مستعدة للنظر إلى نص رسالة إردوغان على أنه ذلك (الاعتذار) الذي أصرت عليه موسكو كشرط لتطبيع العلاقات بين البلدين».
في غضون ذلك كان واضحا أن وسائل الإعلام الروسية عملت على تفادي القضايا الشائكة في حديثها عن «رسالة إردوغان»، إذ لم يظهر اهتمام كبير في الإعلام بتفاصيل النص، كما لم يتساءل أحد لماذا قرر بوتين بهذه السرعة أن يجري اتصالا مع إردوغان، رغم أنه كان قد وصف ما قامت به تركيا في وقت سابق بأنه «طعنة في الظهر»، وكان مستاء جدًا من الممارسات التركية، وبصورة خاصة عندما حمل الأتراك مسؤولية تدفق مقاتلين وعتاد عسكري إلى تنظيم داعش الإرهابي عبر الحدود التركية، بل وحتى إنه لمح إلى تعاون تجاري بين مسؤولين أتراك و«داعش» في مجال النفط، بينما اتهم الإعلام الروسي عائلة إردوغان وتحديدًا ابنه بشراء النفط من ذلك التنظيم الإرهابي. هذا كله وغيره أصبح من الماضي، والإعلام الروسي تلقى رسالة ورغبات بوتين في كيفية تغطية التطور الإيجابي الجديد في العلاقات بين موسكو وأنقرة، حين قال إن «رسالة إردوغان شكلت مقدمات لطي صفحة الخلاف بين البلدين»، وبالفعل أغلق الإعلام الصفحة «الأزماتية السوداء»، وأخذ يركز على جوانب أخرى في العلاقات الروسية - التركية.
وكالة «إنتر فاكس»، على سبيل المثال، ركزت على رد فعل سوق المال التركية على التقارب بين موسكو وأنقرة، وكتبت في تقرير لها إن «هبوط الليرة التركية مقابل الدولار تباطأ بعد الإعلان عن إرسال إردوغان رسالة يعتذر فيها من بوتين». وفي تقارير أخرى ركزت الوكالة على الخطوات التي انطلقت للتطبيع بين البلدين، إذ أشارت إلى التعليمات التي وجهها بوتين أو رئيس حكومته مدفيديف للوزارات بغية العمل على اتخاذ خطوات للتطبيع مع تركيا، وذكرت «إنتر فاكس» في هذا السياق أن الرئيس الروسي أصدر مرسومًا يقضي بإلغاء حظر سابق على سفر المواطنين الروس إلى تركيا، وكلف الحكومة باتخاذ الإجراءات الضرورية لإلغاء حظر الرحلات التجارية (تشارتر) بين البلدين. وقد تناولت كل وسائل الإعلام الروسية الخبر حول المرسوم الرئاسي، الذي يعني عمليا السماح من جديد للمواطنين الروس بالسفر بغرض السياحة إلى تركيا.
على ضوء تلك المستجدات دأب الإعلام الروسي على تقديم دراسات ومعطيات اقتصادية، تشير بما في ذلك إلى أهمية القرار بإلغاء حظر السياحة الروسية إلى تركيا. صحيفة «آر بي كا» ذكَّرت بهذا الصدد بأن دخل قطاع السياحة التركي تراجع في الربع الأول من عام 2016 بقدر 16.5 في المائة، وذلك بسبب الحظر الروسي الذي أدى إلى وقف تدفق ملايين السياح الروس إلى المنتجعات التركية. إلا أن خسائر تركيا نتيجة أزمتها مع روسيا لم تتوقف على السياحة، بل وشملت مجالات أخرى كثيرة، ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع حجم التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 45 في المائة، خلال الفترة من شهر يناير (كانون الثاني) وحتى شهر أبريل (نيسان) 2016، حسب «آر بي كا».
وأخذت النبرة الإيجابية في تغطية الإعلام الروسي للتطبيع بين روسيا وتركيا منحى تصاعديًا، وبينما كانت بعض الصحف تكتب حول الآفاق الواعدة للتعاون بين البلدين، منذ لحظة التطبيع، ذهبت صحيفة «كوميرسانت» إلى خطوة لافتة جدًا، حين نشرت على صفحاتها مقالا كتبه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، يستعرض فيه طبيعة وتاريخ العلاقات بين البلدين والشعبين، ويؤكد على أهمية التعاون بين موسكو وأنقرة، ويشير إلى أن «العالم أمام تحديات معقدة جدًا يصعب مواجهتها وحيدًا». أما وكالة الأنباء الروسية «إيتار تاس» فقد سارعت إلى الوقوف عند التطورات الاقتصادية المتسارعة في سياق خطوات التطبيع، وتناولت بإسهاب «استئناف بيع الرحلات السياحية للمواطنين الروس»، ونقلت الوكالة عن شركات سياحية استعدادها لإرسال أولى مجموعات السياح من روسيا إلى تركيا اعتبارًا من الثاني من يوليو (تموز)، أي بعد يومين فقط على مرسوم بوتين حول إلغاء الحظر السياحي على تركيا.
بشكل عام فإن تغطية التطورات في العلاقات بين روسيا وتركيا في الإعلام الروسي جاءت نسخة «إعلامية» عن الخطوات المتسارعة التي أقرها الكرملين للتطبيع مع أنقرة، مثال على ذلك تبقى السياحة في تركيا. حيث جاء إعلان الكرملين عن إلغاء حظر سفر المواطنين الروس إلى تركيا، وخلق تساؤلات كثيرة لدى المراقبين، الذين أعادوا للأذهان أن السبب الرئيسي الذي قال الكرملين إنه يقف خلف حظر سفر المواطنين الروس إلى تركيا هو «القلق على أمن وسلامة المواطنين الروس في تركيا التي تشهد أعمالا إرهابية من حين لآخر». إلا أن الإعلام الروسي لم يتوقف كثيرًا عند هذه النقطة، بل ركز على عبارات قالها رئيس الحكومة الروسية مدفيديف حول «ضرورة أن يقدم الجانب التركي ضمانات لأمن المواطنين الروس» قبل أن يتم استئناف الرحلات السياحية، ومن ثم نقلت القنوات الروسية تصريحات لافروف التي أكد فيها أن الجانب التركي قدم ضمانات في هذا المجال. وهكذا انطلق التطبيع بين تركيا على المستوى الرسمي، ما جعل أنقرة تطرق أبواب الإعلام الروسي لتدخله مجددًا بصفة الصديق والشريك الاستراتيجي المهم، وذلك بعد أشهر من قطيعة لم يرحم خلالها ذلك الإعلام تركيا وقياداتها.