تفجيرات القاع.. توحي بمشروع فتنة طائفية

تطور ملحوظ في مستوى تخطيط المتشددين

تفجيرات القاع.. توحي بمشروع فتنة طائفية
TT

تفجيرات القاع.. توحي بمشروع فتنة طائفية

تفجيرات القاع.. توحي بمشروع فتنة طائفية

في مطلع هذا الأسبوع، هزت ثمانية تفجيرات انتحارية قرية القاع المسيحية التي تقع في أقصى الشمال الشرقي من منطقة البقاع، بشمال شرقي لبنان على الحدود مع سوريا. وقد أدّت هذه التفجيرات إلى عدة انعكاسات مهمة على لبنان، إذ أظهرت أنّ الفصائل المتشددة بدأت تتكيّف مع حملة أجهزة المخابرات المتصاعدة والمتشدّدة في لبنان التي نجحت في المرحلة السابقة في تفكيك عدة خلايا مرتبطة بتنظيم داعش الإرهابي.
استهدفت موجة من التفجيرات الانتحارية يوم الاثنين الماضي بلدة القاع اللبنانية القريبة من الحدود السورية. ولقد بدأت التفجيرات صباحًا عندما شنت خلية أولى هجمات انتحارية، تلتها في وقت متأخر من المساء تفجيرات أخرى متعددة نفذتها خلية ثانية. ولقد ضمّت الخلية الأولى أربعة انتحاريين فجروا أحزمتهم الناسفة عند نحو الرابعة صباحًا بعدما كشفتهم عائلة مقلد المسلمة التي استفاقت باكرًا لتناول السحور قبل بداية يوم صوم جديد. وبعد وقوع أول انفجار، هرع سكان البلدة وعناصر الجيش اللبناني إلى موقع الانفجار واشتبكوا مع الانتحاريين الثلاثة الآخرين الذين فجّروا أنفسهم الواحد تلو الآخر على فترة عشر دقائق. «أسفرت التفجيرات الأربعة عن مقتل تسعة أشخاص من بينهم الانتحاريين، وجرح 15 آخرين»، بحسب رئيس بلدية القاع بشير مطر، في مقابلة أجرتها معه «الشرق الأوسط».
واستؤنفت موجة التفجيرات المميتة بعد بضع ساعات عند نحو الساعة العاشرة مساء، عندما استهدف أربعة انتحاريين آخرين ساحة البلدة ومركزًا للجيش اللبناني وآخر لجهاز المخابرات، أصيب على أثرها ستة أشخاص آخرين، أحدهم في حالة حرجة، بحسب ما جاء في حديث أجرته «الشرق الأوسط» مع ضابط في وحدة مكافحة الإرهاب.
هذا وتلا تفجيرات هذا الأسبوع، الإعلان عن إلقاء القبض على خليتين جديدتين تابعتين لـ«داعش». وصرّحت مخابرات الجيش يوم الخميس الماضي أنها «أحبطت عمليتين إرهابيتين خطيرتين كانت قد خطط لها (داعش)، وكان من المفترض أن تستهدف موقعًا سياحيا ومنطقة مكتظة بالسكان». كما تم اعتقال خمسة عناصر على علاقة بالعمليات المُنفّذة، ومن المحتمل أن يكون العقل المدبر بينهم. ولقد جاءت هذه العمليات الإرهابية لتؤكّد محاولة المنظمات الإرهابية التكيّف مع تصاعد التدابير الأمنية المفروضة من قبل مختلف أجهزة المخابرات اللبنانية.
في أغلب الأوقات، تألفت معظم المجموعات التابعة لتنظيم داعش التي ألقي القبض عليها في الأشهر الأخيرة من السوريين الذين تمكّن عدد كبير منهم من التسلل مؤخرًا عبر الحدود. وقد أكّد مصدر في وزارة الداخلية لـ«الشرق الأوسط» أنّ الخلايا الإرهابية تتألّف من السوريين بنسبة تتراوح بين 65 في المائة و90 في المائة. «ولكن لا ينتمي هؤلاء إلى اللاجئين المسجلين رسميًا لدى الحكومة أو المفوضية العليا للاجئين، بل دخلوا لبنان بطريقة غير شرعية». وأضاف المصدر أن بعض الذين نفذوا عملية القاع هم من مدينة الرقّة السورية، «وقد تعرف عليهم مقاتلون محتجزون من قبل قوى الأمن لتورطهم مع (داعش)، وبالتحديد الهجوم الإرهابي الذي استهدف منطقة برج البراجنة في بيروت في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي». في المقابل، أفاد مصدر أمني آخر أنّه «من السهل للمنظمات الإرهابية تجنيد المخبرين أو الداعمين لها من بين اللاجئين السوريين الذين يشعرون بالتهميش في لبنان». وللعلم، يقيم حاليًا في لبنان أكثر من 1.1 مليون لاجئ سوري، من بينهم نحو 400.000 في البقاع بشرق لبنان و250.000 في شمال لبنان. وأوضحت المصادر الأمنية أن المناطق الأكثر إثارة للقلق هي تلك الموجودة على الحدود السورية، مثل وادي خالد (شمال لبنان)، ومشاريع القاع (تقع بالقرب من بلدة القاع في شمال البقاع) وعرسال (شمال البقاع) التي - وفق المصادر - يمكن أن يتسلّل إليها المسلحون بسهولة.
من جهة أخرى، كانت مصادر إسلامية وأمنية قد تحدّثت في مقابلات سابقة مع «الشرق الأوسط» عن «انخفاض نشاط (داعش) على الساحة المحلية، نظرًا للحملة الواسعة النطاق التي تقودها القوى الأمنية». وقد يفسر هذا الأمر الصعوبات التي تواجهها الجماعات الإرهابية في التجنيد المكثّف على المستوى المحلي، وزيادة اعتمادها بالتالي على متشددين سوريين.
وبالإضافة إلى ذلك، تحاول المنظمات الإرهابية في لبنان حاليًا، وفق متابعين، التركيز بشكل أكبر على أهداف مدنية بغية تأجيج نيران الطائفية، وهو ما يظهر بشكل واضح في منطقة البقاع، خصوصا في مناطق مثل القاع ورأس بعلبك (بلدتان مسيحيتان) وعرسال (بلدة سنية) واللبوة (بلدة شيعية) بجانب مدينة بعلبك، التي تضم أقليتين مسيحية وسنية بجانب غالبية شيعية. وثمة من يشير إلى أنه منذ اندلاع الثورة السورية، ازدادت نقمة أهالي القاع تجاه بلدة عرسال القريبة واللاجئين السوريين الذين تستضيفهم، وذلك نظرًا لتفسير متناقض للأحداث التي تجري على بُعد بضعة كيلومترات، في الجانب الآخر من الحدود. فالسنة واللاجئون السوريون يدعمون الثوار السوريين، في حين تعتبرهم أغلبية سكان القاع المسيحية من الإرهابيين. وتزيد القرى الشيعية المجاورة الوضع تعقيدًا إذ يدعم سكانها ميليشيا ما يسمى «حزب الله» التي تقاتل إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد. وهكذا، سواءً كانت تقصد الفتنة الدينية والطائفية أم لا، يخشى أن تتسبب تفجيرات القاع في مزيد من الضغط على هذا الوضع غير المستقرّ.
وفي النهاية، ثمة من يؤكد أنّ الانتحاريين كانوا يخططون لعملية أضخم بكثير من تلك التي تمّ تنفيذها في القاع. إذ يقول لنا ضابط في الجيش اللبناني: «لم تكن القاع بالتأكيد الهدف المقصود»، وبحسب بعض المصادر الأمنية: «لربّما كانت الخلية الأولى التي نفذت التفجيرات صباح الاثنين تنتظر من ينقلها لتسهيل خروجها من القاع وتزويد أفرادها ببطاقات هوية تمكنهم من الوصول إلى مناطق أخرى، كبعلبك أو الهرمل مثلاً (اثنان من معاقل «حزب الله») أو حتى بيروت. وهذا يدل على دراية وتطور في قدرات الجماعات الإرهابية، التي باتت تسلك الآن طرقًا جديدة عوضًا عن طُرق عرسال في البقاع الأوسط، أو وادي خالد في شمال لبنان وذلك لأنّ هاتين تخضعان حاليًا للمراقبة الدقيقة والمتشددة».
ولكن، على الرغم من أنّ تفجيرات القاع قد أعادت مجددًا الشعور بالخوف من المنظمات المتشددة والإرهابية الرئيسية في لبنان، يرى كثيرون اليوم أن الوضع في البلد أفضل من غيره من الدول العربية والغربية، وذلك نتيجة الجهود التي تبذلها الأجهزة الأمنية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.