محمد القليني يسابق ظله في ديوانه «أركض طاويًا العالم تحت إبطي»

وضع الشعر على طاولة العائلة وفي «مخزن الملابس»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

محمد القليني يسابق ظله في ديوانه «أركض طاويًا العالم تحت إبطي»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

*يؤسس القليني وعيه بنصه على بديهيات الأشياء بكل مفارقاتها وحيواتها العادية البسيطة، يلتقطها من نثريات الواقع وعثرات الحياة، ويشتغل عليها في نصه
يفتتح الشاعر محمد القليني ديوانه الجديد «أركض طاويا العالم تحت إبطي» بعلاقة ملتبسة مع ظله تصل إلى حد تبادل الشفقة، فكلاهما متعب من ضغوط الحياة، يحتاج إلى مظلة تقيه انهمار الدموع، وإلى منديل يقيه رائحة الأحلام المحترقة، وأيضا إلى فنجان قهوة لا تتعثر أشلاؤه فيه.
لكن هذا الالتباس الفني الشيق الذي يتحول فيه الظل إلى قنبلة موقوتة مستعدة للتفجير في أي لحظة، ليس ابن مصادفة عشواء، وإنما يشي بوعي ثاقب، يحاول دائما أن يسبق الاثنين معا، الشاعر والظل، تاركا المسافة بينهما تتسع وتضيق بحيوية وتلقائية، وفي الوقت نفسه، مسكونة بسؤال الشعر بصفته ضرورة حياة ووجود.
الديوان الذي صدر حديثا عن دار العين بالقاهرة، وفاز به الشاعر بالجائزة الأولى في المسابقة الأدبية السنوية لصحيفة «أخبار الأدب» القاهرية، يطرح قضية أحسبها في غاية الأهمية، وهي: كيف يبني الشاعر وعيه بنصه أولا، ومن ثم وعيه بالعالم والواقع من حوله؟
يؤسس القليني وعيه بنصه على بديهيات الأشياء بكل مفارقاتها وحيواتها العادية البسيطة، يلتقطها من نثريات الواقع وعثرات الحياة، ويشتغل عليها في نصه، وكأنها طاقة حرية مستلبة، مقموعة ومعطلة، وأيضا طاقة حب، يجهل دائما الطريق إلى الحلم، الحلم بالمرأة، والوطن والجمال والسعادات الصغيرة. لذلك يحرص دائما على أن تبقى الصورة الشعرية هي حلقة الوصل والقطع بين مساحات الوعي واللاوعي، بين تراوحات ومراوغات الذات والظل والذاكرة والخيال.
فبومضة تأمل، تمتزج فيها إشراقات العقل، وحدوسات الروح يقبض الشاعر على صورته الشعرية، حريصا على ألا تسبق الفكرة الصورة المستدعاة، التي تمتح غالبا من غبار الواقع واللغة والتاريخ، وإنما جسد القصيدة هو الذي يشكل حركة الداخل والخارج، ويمنحهما ماهية مفارقة لنمط وجودهما وحياتهما التقليدية. يطالعنا هذا على نحو لافت في القصيدة الافتتاحية بالديوان، فالذات الشاعرة لا ترصد تحولات الظل ومفارقاته فحسب، ولا تكتفي بمساءلته بعين الشاعر، بل تمنحه ماهية أخرى مغايرة لوجوده وطبيعته المستقرة في الموروث المعرفي والوجدان العام، حيث يتوحد الظل بالحبيبة، متقمصا بشفافية روحَ الشاعر العاشق.. فها هو يخاطب ظله في القصيدة نفسها في حوار خاطف أشبه بالرجاء والمناجاة الداخلية قائلا:
«لا تقتربْ من حبيبتي التي تبكي
في السطر الأخير
أعرف أنك ستنتحب بشدة
حين تقص عليك حكايتها معي
وربما تفكر أن تقضي
بقية حياتك داخل القصيدة
لمجرد أن تجلس بجوارها وتواسيها!»
يرفد هذا الوعي الثاقب بالنص، خصيصة أخرى، تتناثر بتنويعات وحيل فنية مختلفة في أجواء الديوان، حيث يعمد الشاعر إلى الخلط بين فكرة المازحة والمفارقة، ليخفف أولا من ثقل الأخيرة وإيقاعها المباشر، وفي الوقت نفسه خلق صدى أشبه بالرنين لترديدات النص في الداخل، فإذا كانت المفارقة النابعة من فعاليات النص تضعه في أقواس من علامات الاستفهام والدهشة، فإن مزج كل هذا بأجواء من الممازحة، تشد حركة النص وبقوة من أقصى السطح إلى أقصى العمق، وتمنحه حيوية كثيرا ما تشارف الغرابة، سواء على مستوى التعامل مع اللغة بصفتها فعل حرية وطفولة، أو الخيال الجامح في فضائه الشعري المفتوح بألفة الغرابة نفسها على الداخل والخارج معا.
إن القصيدة تذهب إلى المطبخ، مثلما تذهب إلى الحب والحرب، تعبر بروح إنسانية مفعمة بالسؤال والرغبة الحميمة في المعرفة، كل حواجز التواطؤ والخيانة والقمع، لا سرير لها ووسائد سوى المقدرة على الحلم دائما، ولو على ساق زهرة شاردة.. هكذا يصرخ الشاعر في قصيدته «موسيقى ميتة فوق جدار مهشم» قائلا:
«أنا شاعر فقير جدا
حين يجوع أطفالي
أدس في حلوقهم قصائد طازجة
وحين تخاف زوجتي من المستقبل
أخبئها في هامش أحد النصوص الرديئة
لأني أعلم أن أعين الشياطين ملولة بطبعها
ولا تمر إلا على المتون».
هذه الصرخة الخافتة يؤكدها الشاعر بتنويعات مختلفة في عدد من نصوص الديوان، وكأنه يشير إلى أن حياته هي التي تحدد شكل الشعر ورائحته، بل أسلوب كتابته، كما أنه لا ينفصل عن هذه الحياة، لا يخجل من أن يعريها، ويحتفي حتى بلحظات ضعفها وهشاشتها، بل يرى في هذه اللحظات تحصينا للأنا، من السقوط في براثن والاغتراب والتشيؤ.. يقول الشاعر معرفا بنفسه، وكأنه يحتفي بنور الداخل وبراءته في مواجهة عتمة الحياة وصراعاتها القاسية:
«اسمي محمد القليني
أكتب الشعر
وأعمل في شركة ملابس
ليس بين الأمرين أي تعارض
فثمة مخزن كبير
أكدس فيه قمصانا مستوردة
يتهافت الناس على شرائها
وثمة قلب أكبر
أخزن داخله قصائد
لا تجد لها مشتريا».
وكما نلاحظ، يولي الشاعر اهتماما خاصا بعنصر المفاجأة، يغسله من غبار الشائع والمألوف، ليمتلك المقدرة على النفاذ فيما وراء الأشياء والعناصر، في أبسط فعالياتها الطبيعية، مكملا به أضلاع مثلثه الأثير، لنصبح إزاء ضفيرة شعرية شيقة ومغوية تجمع (المفارقة والممازحة والمفاجأة) في بوتقة جمالية شديدة النفاذ والجرأة والنبش في جسد الشعر والحياة معا؛ ما يجعل متعة الكتابة يتم تبادلها بشكل تلقائي فنيا وإنسانيا بين النص والقارئ، من ناحية، وبينه وبين الشاعر نفسه من ناحية أخرى.. بهذه الروح الشعرية العالية ينسج الشاعر هذا المشهد الخاطف على هذا النحو:
«مصمص خبراء الأرصاد خيبتهم
قالوا: غريب أن تمطر
في هذا الوقت من العام!
يا حمقى..
هذه دموع حبيبتي
تترجّى الطيار العودة!»
في هذا النبش في جسد اللغة وتداعياتها على أرض الواقع يجترح الشاعر ما يحبه وما يكرهه، فكلاهما إلى زوال، وتبقى القصيدة طافرة بالحرية والبحث الدائم عن السؤال بصفته يقينا لا يحد للمعرفة والحقيقة، مدركا أن نسبية الأشياء بكل مظاهرها الإنسانية تقاس دائما بمطلق الشعر؛ لأنه العطش الوحيد الذي يملكه، ويعرف جيدا كيف تكون العلاقة بين الإناء وما يحتويه.
فلا بأس إذن من أن يسخر حتى من الأصدقاء والشعراء.. «الشعراء الذين يضعون عقب كل علاقة حب فاشلة (،) ويستكملون الكتابة». ويمتد خيط الكراهية إلى الحرب والموت، إلى الشاعر نفسه، و«كرشه» الناتئ الطيب الذي ينمو كلص صغير في غفلة منه.. مثلما يقول مازحا في لطشة شعرية يمتزج فيها نزق الحسية بأناقة الخيال:
«دائما أحمل إبرة وخيطا
لأرقِّع قلبي كلما خرجت منه قصيدة
كرشي الصغير لا يمنعني من الاختلاط بالناس
وحدهم الشعراء يعايرونني به كثيرا
رغم أنه قد نشأ
بسبب التهامي لقصائدهم السمينة».
تمتد روح الممازحة الشعرية إلى عناصر حية من الطبيعة، كالبحر والسحب والقمر والشجر والماء والهواء، كما تمتد لمناخات الطفولة، حيث تتبلور قوة الوعي بالحلم والذاكرة، من خلال قدرة الشعر على أن يجعلنا نستعيد أشياءنا الجميلة في فضاء الأمكنة التي عشنا وولدنا فيها، مستثيرا مشاعرنا وعواطفنا تجاهها، وكأنها لم تنته بعد، بل لها زاويتها المستقرة ودبيبها الخاص في تقاطعات أحلامنا ورؤانا، وهواجسنا حول الماضي والحاضر والمستقبل.. من هذه الزاوية يشاكس الشاعر القمر في نص بعنوان «حكمة» قائلا:
«على عكس كل الشعراء
أنا لا أحب القمر
في صباي شاهدته
يكشف صدر جارتنا لمغتصبيها
ولا أحب السحب
فقد تقيأت إحداها على رأس جدي العجوز
وهو يهرول لشراء دواء
لأمي المسجاة على طاولة الموت.
لكنني أحب الله
وأعلم أن له حكمة في أن تمطر سحابة
في المكان الخطأ
ومن أن يضيء القمر
طريق أشخاص سيئين».
يبقى أن أقول في هذا المقال العابر، إن قصيدة محمد القليني تشبهه وتشبهنا في الوقت نفسه، كما أنها تؤكد شعرية المغايرة بوعي يدرك أن الشعر ابن الوجود الإنساني في كل حالاته وتقاطعاته، وفي مشهد قصيدة النثر التي أصبحت تجتر نفسها، أكثر من الحرص على التجديد والبحث عن الخصوصية، خصوصية الروح والمعرفة، وطرائق التشكيل والبناء.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.