نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

قراءة في {سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها}

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»
TT

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

نوح فيلدمان يثير قضية «الشريعة»

مثل كتاب نوح فيلدمان «سقوط وقيام الدولة الإسلامية»، (الصادر سنة 2014 عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر)، واحدة من المحاولات العلمية الغربية البارزة التي حاولت مناقشة تفكك واستعادة الدولة لقوتها في الجغرافية السياسية الإسلامية. وتدور أطروحته المركزية حول النظام الديمقراطي الدستوري، وارتباط الشريعة بسيادة القانون، وما يطرحه ذلك من تحديات تتعلق ببناء نظام مؤسساتي يحدد شكل الدولة الإسلامية، ويضفي عليه طابعا ديمقراطيا متجددا تسود فيه العدالة، ويتجاوز الهيكل التنظيمي الموروث، الذي يمنح الأولوية لسلطة تنفيذية مستبدة. ويتجاوز اختلال التوازن القائم بين السلطة الرقابية والتشريعية التي مارسها العلماء؛ وكذلك سلطة الحاكم التي توسعت، وأضعفت تاريخيا قدرات النزعة الدستورية الإسلامية الرامية لخلق منظومة مؤسساتية للحكم السياسي قائم على الشريعة.
يمكن القول: إن محاولات البروفسور نوح فيلدمان، أستاذ القانون في جامعة هارفارد الأميركية، ومؤلف لكتب ودراسات متعددة حول قضايا الشرق الأوسط، تتحدد في سؤال «هل يمكن أن تنجح الدولة الإسلامية الجديدة؟». علما بأنه يستحضر دور الإرث السياسي وإلغاء الخلافة، وما استتبعه من فقدان «الشريعة سموها الرسمي، وتم تنزيل رتبة العلماء الذين كانوا حماة الشرع وعزلهم، وأعلنت الدولة الجديدة التي حلت محل القديمة انفصالها عن سابقتها» (ص 42) من جهة. ومن جهة ثانية، يستحضر تجربة المجتمع، الذي عاش في ظل دستور عرفي يتطور على الدوام منذ العصر الأموي، والعباسي، والعثماني؛ وصولا إلى تاريخنا المعاصر، الذي ظهرت فيه الحركات الإسلامية، التي ينادي بعضها بدستور الشريعة، في ظل الدولة القُطرية.
يرى الكاتب، أن هناك فشلاً واضحًا للعلمانية وتجربتها في الحكم عربيًا، سواء ارتبطت العَلمنة باشتراكية الدولة وقوميتها أو ليبراليتها طيلة القرن العشرين. ومع ذلك لم يخف الصراع بين التيارات السياسية الوطنية، وصراع هذه الأخيرة مع الاستعمار؛ الدعوة إلى الإسلام باعتباره حلا للمشكلات السياسية في العالم الإسلامي. بل إن تفاعلات مسار التاريخ السياسي للدولة العربية المعاصرة، زاد من حدة المطالب الشعبية الرامية لاستعادة نموذج مثالي للسلطة يطلق عليه «الخلافة الإسلامية».
لا يعود بنا فيلدمان، ليشرح بالتفصيل مضمون الأطروحات الدستورية التقليدية، والحديثة أو المعاصرة، بالقدر الذي اهتم بالنظرية العامة للنظام السياسي. وليس من الغريب أن نجده يهمل، أطروحات حديثة لها بالغ الأثر في واقع الفكر الدستوري الإسلامي المعاصر. فلا نجد أن أستاذ القانون بهارفارد، يستحضر وهو يحلل التوجهات الدستورية المعاصرة ما طرحه الكثير من المنظرين الإسلاميين من مثل أبي الأعلى المودودي، في كتابه «نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور»، الذي شكل لفترة زمنية مهمة مرجعا نظريا لمحاولات الحركات السياسية الإسلامية لاستعادة المعنى والنموذج الإسلامي للدولة.
يميز المودودي بين الحاكمية القانونية والحاكمية السياسية، ويربط الأولى بحق الله في التشريع للمسلمين، بينما الثانية تخص تنفيذ الأحكام الربانية. فالدولة الإسلامية عند المودودي، دولة الحاكمية، و«الحاكمية بكل معنى من معانيها لله تعالى وحده، فإنه هو الحاكم الحقيقي في واقع الأمر»، (المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور، الدار السعودية، جدة، طبعة 1985، ص211). أما فيلدمان، بروفسور القانون، فإنه يسجل أن تطور التنظير السياسي الدستوري للإسلاميين، لا يستند إلى المنظومة التقليدية؛ بل يعمل على تجاوزها، وتجاوز استنادها إلى ركيزة العلماء، واعتبارهم الهيئة التشريعية والرقابة للحاكم. والإسلاميون كذلك لا يسعون لاستعادة النظام الشرعي الإسلامي القديم؛ بل إنهم من الناحية النظرية والعملية، انخرطوا في نظام الدولة الحديثة، التي جعلت من الدولة مؤسسة المؤسسات المتعددة، التي تشمل السلطة التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، وجعل من موظفيها جزءا من منظومة مدنية للحكم السياسي.
وعلى الرغم من أن الإسلاميين يعظّمون العلماء، فإنهم لا يعتبرونهم عصب الدولة، أو مصدر السلطة، أو الرقابة، أو رجال مؤسسات الدولة المعاصرة. بل إن التوجه الجديد يعتمد سياسة تعوض العلماء بمدنيين في الوظائف العامة، ولا تترك للعلماء غير الدور الاستشاري في نظام الحكم. إن الإسلاميين يطرحون ويتبنون، في الواقع، دعوة مستجدة، تأسيسية لدولة إسلامية جديدة: «والنتيجة أن اقتراحهم الدستوري القائم على الشريعة لا يمثل الدستور الإسلامي الكلاسيكي، بل شيئا مختلفا جدا، إنها مجموعة جديدة من الترتيبات الدستورية المُؤَسلمة»، (سقوط الدولة ونهوضها، ص 143).
من جهة أخرى، يظهر فيلدمان بمظهر المحامي المدافع عن الإسلاميين، وهو ينتقد التصورات الغربية المغلوطة حول الخبرة والتصورات الدستورية الإسلامية. ويعتبر أن كتّاب وفلاسفة من أمثال منتسكيو وماكس فايبر وغيرهم، كرسوا هذا الخطأ الفكري؛ وبالتالي يصعب على الغرب اليوم تصور عودة مؤسساتية ودستورية ديمقراطية للدولة الإسلامية. كذلك، يصعب عليه إدراك حقيقة «صعود الدعم الشعبي للشريعة الإسلامية في العالم الإسلامي مرة أخرى، وتأثير ذلك في الغرب وفي الشرق».
ولهذا لجأ فيلدمان في الدفاع عن وجهة نظره، إلى المنهجية التحليلية لتجربة التاريخية الإصلاحية العثمانية، وعرضه للتغيير الدستوري الذي أدى إلى تعويض العلماء بأجهزة تشريعية وإدارية حديثة تدور في إطار الإنتاج الغربي. وهنا لم يعد النظام السياسي المقنن في حاجة إلى العلماء لاكتساب الشرعية. وفي الإطار نفسه، يؤكد صاحب الكتاب أن الترتيب الدستوري العثماني الجديد، لم يعلن الانفصال التام عن الشريعة والقيم السياسية الإسلامية التي ترتكز على العدالة والمساواة، وإن كان يدور أساسا في مجال الأحوال الشخصية.
وبناءً على استقراء الخبرة التاريخية الدستورية، فإن «الدولة الإسلامية الحديثة يمكنها تقديم العدالة القضائية والسياسية لمسلمي العصر الحديث، ولكن فقط إذا تم إنشاء مؤسسات جديدة تستعيد التوازن الدستوري بين القوى والسلطات». هذه الإمكانية لم تعد بعيدة المنال، وبخاصة أمام التوسع السوسيولوجي لظاهرة المطلب الشعبي بالعودة لقيم الشريعة الإسلامية. وهي ظاهرة تستحق في نظر فيلدمان طرح إشكالية جديدة من الناحية السياسية والدستورية، يمكن تلخيصها في السؤال التالي «لماذا يطالب الناس الآن بعودة الشريعة وينجذبون إليها رغم أن أجدادهم في العصر الحديث نبذوها ووصفوها بأنها أثر من الماضي السحيق؟».
لقد حاول نوح فيلدمان الإجابة في هذا الكتاب عن هذا السؤال، وتقديمه للفكر الغربي المعاصر الذي أصيب بتشوش تصوري تجاه قضايا الشريعة والسياسة في العالم العربي الإسلامي. ولذلك تعمد تذكير القارئ: «إن القوى الغربية تعتبرها (أي الشريعة) تهديدا للديمقراطية، في حين أن الحركات الإسلامية تكسب الانتخابات بسببها، ويستخدمها الإرهابيون لتبرير جرائمهم. فما هي الشريعة؟ ولماذا لها هذه الشعبية الجارفة بين المسلمين رغم الأحكام الجنائية القاسية فيها؟ وهل يمكن لدولة إسلامية أخرى أن تنجح؟ بل هل ينبغي لها أن تنجح؟».
لتجاوز هذا الإشكال، يحيل فيلدمان على الواقع العربي بعد الحراك في 2011، وعاد في المقدمة الطويلة لطبعة الكتاب سنة 2012 لتقديم مزيد من المؤشرات الدالة على تطور فكر الإسلاميين الدستوري والديمقراطي، معتبرا «الدعوة إلى الشريعة هي دعوة إلى سيادة القانون». ومن جانب ثان، فإن الحكومات العربية الديكتاتورية التي اتسمت بعدم توازن السلطة تواجه اضمحلالاً متزايدا. غير أن الكاتب يشير إلى جانب ثالث في يرتبط مركزيا بأطروحة الكتاب، ويتعلق «بالتحديات الدستورية التي يواجهها الديمقراطيون الإسلاميون عندما تسنح لهم الفرصة حقا لتحديد شكل الدولة الجديدة: تحديات إضفاء الطابع الديمقراطي والمؤسساتي على الشريعة يقوم اليوم إصلاحيون دستوريون في تونس ومصر بحله» (ص 35).
غير أن الأكاديمي الأميركي عاد وسجل ملاحظة صدقتها التجربة الراهنة لما بعد 2011، حيث قال: «إذا وصل الإسلاميون للحكم، لكنهم لم يتمكنوا من خلق مؤسسات توازن بين القوى واستعادة حكم القانون، فإننا جميعا (بما فينا الغرب) سنمر بفترة عصيبة». في الواقع سبق للكاتب في كتابه «ما بعد الجهاد» أن ناقش هذه القضية؛ إضافة إلى أن واقع توسع «داعش» بالعراق وسوريا، وتمددها في أفريقيا والغرب، وقدرتها على التجنيد، تلخص ما يرمي إليه فيلدمان حينما يدعو إلى خلق تواصل، بل ومساعدة الحركات الإسلامية الديمقراطية المعتدلة، على بناء نموذج دستوري ديمقراطي جديد، حتى ولو كان في ظل دولة إسلامية حديثة. لكنه في نهاية كتابه، يعود بنا لطرح سؤال مركزي يتعلق بما «إذا كان الإسلاميون، وهم في الحكم، قادرين فعلا على تحقيق سيادة القانون؟» كما يطرح مسألة لا تقل أهمية على أطروحة الكتاب المركزية، وترتبط بالمصداقية «فإذا كان الإسلاميون غير قادرين على توفير العدالة السياسية، سيجدون أنفسهم يفقدون مصداقيتهم مثل سابقيهم» (ص 179).
* اساذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس ـ الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.