حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

مساعٍ لتجفيف مصادر المتطرفين المالية من تجارة السلاح والمخدرات

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية
TT

حي مولنبيك.. «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا

حي مولنبيك حيث غالبية من السكان  من أصول عربية وإسلامية
حي مولنبيك حيث غالبية من السكان من أصول عربية وإسلامية

في أعقاب تفجيرات العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والبلجيكية بروكسل في مارس (آذار) الماضي، وتورّط عدد من الشبان من سكان حي مولنبيك في بروكسل في هذه الهجمات - سواءً بالتخطيط أو التنفيذ أو تقديم المساعدة لمرتكبي التفجيرات - اكتسب الحي سمعته السيئة في جميع أنحاء العالم، وبات يوصف بأنه «نواة» أو «الأرض الخصبة» للتشدد والإرهاب في أوروبا.
في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» قالت فرنسواز سكيبمانس، عمدة بلدية مولنبيك، وهي بلدية معروفة بأن غالبية السكان من أصول إسلامية «إن الوضع في مولنبيك له خصوصية. ونريد أن نظهر للمؤسسات الأوروبية وضعية بروكسل بشكل عام وبلدية مولنبيك بالذات، وبخاصة أن الأخيرة تتمتع بظروف ووضعية خاصة، ونريد نشرح هذه الأمور للمسؤولين الأوروبيين، ولا سيما عقب توجيه انتقادات وإشارات بالاتهامات إلى هذه البلدية خلال الأشهر الماضية». وأضافت سكيبمانس «الجميع تألم وكانت هناك حالة من الحزن في أعقاب تفجيرات مارس الماضي، وتحديدًا، هنا في مولنبيك.. لكننا في أمس الحاجة إلى المزيد من التضامن، ونريد لكل سكان مولنبيك بصرف النظر عن عقيدتهم أن يتقاسموا الأنشطة والاحتفالات ويظهروا التضامن».
حاليًا يعيش في مولنبيك غالبية من المسلمين، الأبرز بينهم المغاربة والأتراك إلى جانب جنسيات أفريقية. وقالت سارة تورين، مسؤولة ملف الحوار بين الثقافات في مولنبيك خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»: إن «الحل الوحيد لمواجهة العنف والإرهاب يكمن في التعايش السلمي بين الجميع، وأن تلتقي بالآخر والتصدي للأفكار الخاطئة عن الآخر. نحن نستطيع أن نعيش معا رغم الاختلاف الثقافي، ونجعل من التنوع والاختلاف شيئا إيجابيًا. وفي ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي أعلنت الحكومة البلجيكية بعض تفاصيل خطتها التي قالت عنها إنها تهدف إلى (تنظيف) بلديات عدة في العاصمة بروكسل، ومنها بلدية مولنبيك، التي وصفها البعض بأنها (بؤرة للتطرف)».
ولكن على الرغم من أن هذه البلدية ليست الوحيدة في البلاد التي تطرح مشكلة للسلطات بسبب تصاعد نسبة البطالة والأنشطة غير القانونية، فإن ارتباط اسم مولنبيك ببعض منفذي ومخططي هجمات إرهابية عدة جعلها تحتل مكان الأولوية بالنسبة لوزير الداخلية يان جامبون، الذي ينتمي إلى التيار اليميني المتشدد. وكان جامبون قد قال في تصريحات لوسائل إعلام محلية: إن مخططه يتضمن بالدرجة الأولى العمل على محاربة الاقتصاد الموازي المستشري فيها، فـ«المتطرفون من سكان البلدية هم رسميًا عاطلون عن العمل، لكنهم يحصلون على الأموال بفضل تجارة»، ثم تحدث عن نيته «زيادة الدعم للسلطات الإدارية البلدية ليتسنى لها القيام بعملها من ناحية ضبط عدد السكان وفرز القاطنين على أراضيها بشكل غير قانوني».
وشدّد الوزير البلجيكي على أن مخططه يتضمن زيادة عدد قوات الشرطة في البلدية ودعم إمكانياتها من أجل تفعيل عملها في التصدي للجريمة والمخالفات، وكذلك التحري حول شبكات التطرف والأشخاص الذين يعتزمون الذهاب إلى أماكن الصراعات للقتال إلى جانب مجموعات إرهابية. وتابع جامبون «عبر خطة مولنبيك، أرغب في معالجة الوضع المحلي في مجال الأمن، الذي تطور على مر السنين، والذي له تأثير التهديد في المستويين الوطني والدولي، في ارتباطه بالإرهاب والتطرف». وبالفعل، تشاورت أجهزة الداخلية مع عمدة مولنبيك، ودوائر الشرطة المحلية، والشرطة الفيدرالية ودائرة الأجانب ومختلف المكاتب الوزارية من أجل إعداد هذه الخطة. وأظهرت هذه الخطة أن مقاربة الظاهرة لا يمكن أن تتحدد في هذه البلدية وحدها، بل ينبغي أن تشمل منطقة أكبر تضم أحياء، منها سان جيل واندرلخت ولاكن (بروكسل المدينة) وكوكلبرغ وسكاربيك وسان جوس وفيلفورد (بارابانت فلامان).
من ناحية أخرى، توجّهت «الشرق الأوسط» إلى مقر بلدية مولنبيك، وسألنا عضو المجلس المحلي آناليزا جادليتا، عما تردد في وسائل الإعلام البلجيكية من أن السلطات المحلية والأمنية في مولنبيك تدرس مقترحًا لوزير الداخلية يتعلق بحملة تفتيش وتدقيق واسعة على كل مساكن الحي؛ للتأكد من عدم وجود أشخاص غير مسجلين في السجلات الرسمية، وهو الأمر الذي يفسره البعض بأنه محاولة للقبض على مطلوبين أمنيًا. وكانت المفاجأة في رد المسؤولة في السلطة المحلية، التي قالت: «اقتراح وزير الداخلية غير ملائم لنا حاليًا، فنحن لدينا خطوات أخرى أهم، وتتعلق بمواجهة الفكر المتشدد، وتفادي تأثر الشباب بهذا التشدد. وأنا أعتقد أن تفتيش كل المنازل هنا أمر صعب تحقيقه، ولا سيما إذا ما علمنا أن الحي يضم 38 ألف وحدة سكنية». ثم تساءلت «كيف سندقق في كل منزل على حدة؟ وكم عدد الموظفين والأمنيين المطلوبين لهذا الأمر».
«البعض من سكان الحي لا ينظرون إلى القضية من هذه الزاوية، بل لهم حسابات أخرى» كما يقول مراد، الشاب المغربي المقيم في الحي، ثم يضيف «أنا ضد مثل هذه الخطط، وأعتقد أن السلطات لو أقدمت على تنفيذ المقترح ستتعرض لانتقادات شديدة، وأنا أول من سينتقد هذه الخطوة». ويبرر مراد موقفه بالقول: «الواحد يكون مع زوجته وأولاده في البيت وفجأة يأتي من يفتش المنزل. هذا أمر غير مقبول؛ لأنهم إذا كانوا يبحثون عن شخص مطلوب أمنيًا، فهذا عملهم ولا بد لهم أن يحددوا في البداية المنزل الموجود فيه، ثم يقومون بالتفتيش.. وليس تفتيش كل المنازل».
وحقًا، واجهت خطة الحكومة القاضية بإجراء عملية تفتيش على كل منازل بلدية مولنبيك مصاعب وخلافات بين وزارة الداخلية والإدارة المحلية في البلدية - الحي. وحسب الوزير جامبون، تعد الحكومة لإرسال أعداد من الموظفين المدنيين في الوزارة لمساعدة السلطات المحلية في تنفيذ عملية تفتيش وتدقيق في كل المنازل؛ وذلك للتأكد من وجود فعلي للسكان المسجلة أسماؤهم في السجلات الرسمية في البلدية، والتحقق من وجود أشخاص آخرين من غير المسجلين بشكل رسمي.
وللعلم، كان الوزير قد صرح عقب تفجيرات باريس بأنه «يعيش في بعض بيوت مولنبيك عشرة أشخاص، بينما المسجلون رسميًا في البلدية يقل عن نصف هذا العدد، وهو وضع غير مقبول، وعلينا أن نعرف مَن يعيش على التراب البلجيكي». وأوضح جامبون في تصريحات على هامش ندوة حزبية ما يتداول يتعلق «بعنصر طارئ لخطة شاملة» من أجل هذه البلدية التي كانت تضم الكثير من منفذي هجمات الجمعة 13 نوفمبر بباريس أو المشتبه بهم.
وبعد يومين من وقوع هذه الهجمات، أعلنت الحكومة البلجيكية عن تطوير خطة منهجية تستهدف مولنبيك على وجه الخصوص. وبعد بضعة أيام عيّنت وزير الداخلية منسّقًا للوضع بفي مولنبيك، ويومذاك أعلن عن نيته تفتيش كل عنوان بالبلدة من طرف الشرطة المحلية، مضيفًا أنه يرغب في «القيام بالتنظيف». وعلى الأثر، علقت عمدة مولنبيك على تصريحات الوزير، بأنها تتحفظ عن كلمة «تنظيف»، واعتبرت أن عرض الوزير ليس الأنسب، أضافت: «العرض ليس ضروريًا لأن هذه مسؤولية رجال الشرطة وليس الموظف المدني... ومواجهة التشدد من صميم عمل الشرطة، وفور هجمات باريس بدأت شرطة مولنبيك بالفعل في إعداد قوائم بالعناوين التي ستقوم بزيارتها للتدقيق والتفتيش عن سكان هذه المنازل». ولفتت إلى أن هذه الزيارات يجب أن تضع في الحسبان وضعية سكان مولنبيك وظروفهم.
ويذكر هنا أن الوزير كان تحدث أيضا عن ضرورة اتخاذ تدابير في مجال التعليم وتطوير التخطيط الترابي وتكافؤ الفرص من أجل «إعطاء مستقبل للشباب ما بين 15 و16 سنة». ووافق مجلس الوزراء على مشروع مرسوم ملكي للمشروعات الرائدة التي تستهدف السيطرة على التطرف العنيف ومكافحة التطرف في عشر بلديات، من بينها مولنبيك بمبلغ إجمالي وصل إلى مليون يورو. وحول هذا قالت العمدة سكيبمانس «إننا نعيش في بلدية كبيرة الحجم، وفيها تنوع ثقافي، ولم نتخيل أن نصل إلى هذه الدرجة من التخوف بعد ظهور الراديكالية العنيفة. ولقد حذرت منذ سنوات طويلة من مشكلة تتعلق بالتعايش السلمي في هذه البلدية، وكان التحدي كبيرا نتيجة تراكمات وصعوبات اجتماعية في قطاع التربية، وكذلك سوق العمل والسكن غير اللائق والعائلات الكبيرة العدد».
مما يستحق الإشارة، أن ثلاثة أشخاص من بين المشاركين في هجمات باريس هم من سكان مولنبيك. بل إن تقارير إعلامية أفادت بأن شخصًا رابعًا ربما شارك في التخطيط للهجمات وهو مطلوب في بلجيكا على ذمة قضايا أخرى. وكلها هذه مسائل ربما تثير مخاوف البلجيكيين. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قالت سيدة بلجيكية تعيش بالقرب من السوق الشعبية التي تقام في البلدية كل يوم خميس إنها «لا تتوقع حدوث هجمات في مولنبيك»، مضيفة «لا أعتقد أن هجمات يمكن أن تقع هنا لأنهم لن يقتلوا مواطنين من الأصول نفسها. وأنا أتعامل مع كل جيراني، لكن لا أستطيع أن أعرف ما في تفكير الجار من شر أو طيبة. وبعد ما حدث، من الممكن أن يحدث تصادم بين المسلمين والبلجيكيين». بينما قال رجل في العقد الخامس من عمره «الإرهاب يمكن أن يحدث في أي مكان في العالم، كما أن ».
في المقابل، في أعقاب حملات مداهمة شنت لاعتقال أحد المطلوبين، وفرض الشرطة طوقًا أمنيًا تباينت ردود الأفعال بشأنها من جانب سكان الحي. فقال أحدهم وهو من أصول مغاربية اسمه مصطفى «لا يمكن أن يكون الأمن وحده حلاً للإرهاب... وبالنسبة للشباب يجب أن نتعامل معهم كما نتعامل مع الشيوخ كبار السن، وأيضا مع الأطفال؛ لأن هذه الشريحة الإنسانية لم تجد من يستمع ويتفهم لمطالبها، مع أن هناك حاجة إلى تكوين شخصيتها». ويقول خليل زجندي، وهو رئيس إحدى الجمعيات في بروكسل، إن الشرطة والسلطات «تقاعستا عن مساعدة هؤلاء الشباب وفهم مطالبهم واكتشاف المتشددين منهم، والآن تقومان بعمليات مداهمة وتضييق أمني على السكان الذين هم في الأصل ضحايا، ورغم ذلك، يشير إليهم البعض بأصابع الاتهام».
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» رأى الشيخ نور الدين الطويل، وهو أحد أبرز القيادات الدينية في بروكسل ورئيس جمعية المسلمين الجدد، أن «بلجيكا لم تكن يومًا مرتعًا للتطرف والإرهاب، ولكن هناك فئة قليلة جدا انحرفت عن الطريق وسارت في طريق الانحراف لفترة من الوقت، ثم وقعت فريسة في أيدي من يستغلون ظروفهم». وحول انحراف هؤلاء وما ترتب عليه قال الشيخ نور الدين «هناك تقصير من جانب الحكومة البلجيكية ومن جانب أولياء الأمور، وأيضا من جانب المدارس. وفضلا عن كل ذلك هناك شيء خطير جدًا هو خطاب الكراهية الذي يظهر من وقت لآخر. ومن هنا يجب أن يعاد النظر في الخطاب الديني ويكون هناك خطاب معتدل كما يجب أيضا أن يكون هناك اهتماما بتكوين الأئمة وإعدادهم».
الشارع البلجيكي، إذن، بدا رافضًا في مجمله لما تردده وسائل إعلام غربية بأن بلجيكا أصبحت «حاضنة للتطرف والإرهاب». وإذ أكد البعض أن الأمر يقتصر على فئة قليلة جدًا من المسلمين وفي أحياء معروفة ومحددة داخل العاصمة البلجيكية، أشار آخرون إلى فشل الحكومة في دمج الأجانب في المجتمع ما قد يساهم في توفير أرضية للتطرف.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.