«الإنفوغراف».. وجه في الصحافة السعودية يتحدى أمواج الإعلام المتضخم

تاريخ الصحافة في السعودية مرّ عبر مرحلتين: صحافة الأفراد، وصحافة المؤسسات. ومن المؤرخين من يرى الصحافة السعودية مرّت بمراحل ثلاث، لكن كل ذلك بتفاصيله يحكي أشياء أخرى، بالنظر إلى الصحف التي صدرت في العهد السعودي، الذي سجلته صحيفة أم القرى كأول صحيفة قبل أكثر من ثمانين عاما، ووضعت حجر الأساس للانطلاقة الصحافية التي كانت شاملة، عكس ما أصبحت عليه اليوم (الجريدة الرسمية للدولة).
تلك مراحل مهمة، لكن قطار الإعلام أصبح ينطلق بسرعة الوقت، وقد يكون أسرع، فخلال هذه العقود الماضية، نمت صحف وكانت شبه رسمية، وأخرى تجارية، وفي حقليهما من سقط ومن تراجع، وكذلك من اندمج، وأيضًا هناك من غيّر من جلده ليوائم المراحل المتغيرة في السياسة والاقتصاد وبعض الجوانب الاجتماعية.
الصحافة هي الوجه الأهم والأكبر في عالم الإعلام، والصحف السعودية مرّت بتجارب ومراحل زاهية حتى اليوم، في عصر تتلاطم فيه الأمواج، ولم يعد للمراكب الصغيرة فيه أن تسعف نفسها ما لم تتطور، أو تحافظ على وقارها بالخطاب الإعلامي عالي المسؤولية الذي يجعلها في موقف الثقة أمام القراء بشتى صنوفهم.
في عالم الصحافة السعودية المحلية اليوم، تبرز الأدوات التحديثية بشكل كبير، وطغى أسلوب ترويجي على مجمل الصحف، فإن كانت صحيفة الوطن السعودية التي انطلقت في عام 2000، يعدها بعض المتخصصين في الإعلام السعودي أسست لمرحلة ثالثة في الصحافة في المملكة، عبر خطابها الجديد المعتمد على الاستقصاء وصفحات الرأي ذات السقف العالي وصفحات أولى تركز على المحتوى المحلي الاحترافي، وتبعتها غالبية الصحف السعودية بالقفز معها على ذات المضمار، فإن لصحيفة «مكة» الواثبة في بواكير العام 2014 من بركان صحيفة «الندوة» الخامد يصح القول عليها قياسا إنها فتحت مجالا لمرحلة رابعة، ليس بتركيز على الخبر فحسب، بل بتعزيز المحتوى بنوع مما يطلق عليه صحافة المعلومات.
صحيفة مكة بدأت العمل على هذا النوع لتعزز من حضورها في زمن دوران الأخبار، لتقدم وجبة صحافية سلسة وسهلة تصلح للنشر عبر تطبيقات الهاتف، وتسهل على قارئها الاطلاع في وقت قصير، خصوصا فيما يتعلق بالشؤون المحلية، وهو ما أصبح يسمى بصحافة «البيانات» أو «الإنفوغراف» بتقنيات احترافية عززت من حضور الصحيفة.
وحرصت بعض الصحف في السعودية على استنساخ تجربة «مكة» في عالم البيانات، بعيدا عن التحليل، وغصت صفحاتها الأولى ببعض ذلك، بل أصبح الصحافيون في عدد من الصحف المحلية على مقاعد الدرجة الثانية، بعد أن اتجهت بوصلة البحث والاستقطاب الأولى لدى تلك المعدودة في جذب والبحث عن فنيي (الإنفوغراف)، ووضعتهم في الدرجة الأولى في محاولة تجنب الهبوط الاضطراري الذي بدأت فيه بعض الصحف المحلية.
الحضور عبر «تويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح ملمح القياس وتوسعة انتشاره بالمحتوى الصحافي الذي يحاول تغطية السؤال المحتدم بالنقاش البيزنطي عن صراع الورقي والإلكتروني، لكن الفكرة ولو كانت بسيطة جعلت الصحيفة الأخيرة في الحضور في هذه السوق ذات بروز معرفي، فيما كانت بعض الصحف المتجددة والحديثة الأخيرة التي سبقت إعادة «مكة» في غيابة النسيان غالبا.
بدأت «مكة» نشاطها في زمن حيوية إعلامية وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، حينها كان على الصحيفة، وأي صحيفة وموقع إخباري، أن يواكب التغيرات ومتطلبات التطور في ذهنية القارئ العادي. محمد الصالحي، المدير التنفيذي لصحيفة «مكة» السعودية، يقول إنه عندما بدأنا في صحيفة مكة، وقبل صدورها، في وضع هوية المحتوى الذي ستقدمه للجمهور، كان هدفنا أن نقدم المعرفة كل يوم لجمهورنا، كالتزام مهني، وأن نشاركهم بها لنساعدهم في نهاية الأمر على تحسين حياتهم، واتخاذ قرارات صحيحة في ممارستهم اليومية.
وأضاف الصالحي، في حديث مع «الشرق الأوسط»: نعتقد أن الصناعة الصحافية في الوقت الحالي لا بد أن تراهن على مساعدة الجمهور في التعامل مع طوفان المعلومات الهائل الذي يصلهم كل يوم، مشيرا إلى أنه في الماضي كان الرهان على من يأتي بالمعلومة أولا، أما اليوم فالرهان على من يساعد الجمهور في التعامل مع هذا الكم من المعلومات وفهمها بالشكل الصحيح.
وعن الاتجاه إلى صحافة البيانات أو الإنفوغرافيك، ومحدودية النصوص مقارنة بالوسائط المساعدة، وهل هذا التركيز على ذلك وضع حدا على ضيق بدائل الصحافيين، يحكي الصالحي عن تلك القصة الصغيرة المؤثرة أنهم وجدوا منذ التأسيس أنه ليس هناك أي تجربة حقيقية في مجال صحافة البيانات عربيا لحداثة هذا التوجه، وتواضع التجارب عربيا في مجال الإنفوغرافيك، مضيفا: «اخترنا أن يكون لهذين المنهجين الصحافيين تمثيل أوسع ضمن المحتوى اليومي الذي نبثه للجمهور، لاعتقادنا أن هذا سيتقاطع مع سلوك الجمهور وتحولاته في التعامل مع المعلومات والأخبار. واعتمدنا في التعامل مع ذلك على خليط مع مهارات عدة، الصحافي جزء منها».
الحضور الشبابي في الصحافة السعودية، والجلد المتغير باستمرار منح لهم أن يعكسوا اهتمام جيلهم، والكيفية في عرض بضاعتهم على المنصات الاجتماعية كافة، ليصبح النبض أكثر تسارعا مع تضخم عرض المعلومات والأنباء، ويملأ الصفحات بالمعلومة واللغة الحديثة المعتمدة على الأسلوب الذي يشكل حقنة في إطالة عمر الصحافة الورقية لقصد التأثير.
طبيعة الصناعة الإعلامية بدأت تأخذ أشكالا مختلفة بفضل التقنيات الحديثة، وما تثبته التجارب في الصحافة عالميا، وهو ما ينطبق عربيا وسعوديا، وهو ما يتفق عليه كبار الصحافيين، من أن المحتوى هو ما يفرض نفسه ويتجاوز التقنيات، والبضاعة ذات المحتوى الفريد هي ما تدل على طريقها للقارئ الذي يبحث عنها أيضا.
فيما تظل الصحافة أساسا ذات بعد روحي للمجتمعات، وكذلك تتلمس الأوساط المجتمعية مرحلة التبسيط في المحتوى الإعلامي، وهو أمر يستلزم من الصحافيين والمؤسسات تقديم الجودة في سطور الصحف وإضفاء الرقمية لها أيضا، وكذلك تثبت التجارب حتى اليوم، وربما إلى الأبد، أن التميز والفكرة ذات المعرفة والجودة لم تفقد أثرها بعد، فيما منح العصر الرقمي تصنيفات جعلت هناك حدا بين الصحافة الجيدة والصحافة الرديئة.