مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الجدالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا العربية المعاصرة؟

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو
TT

مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو

بحسرة من يحن إلى زمن جميل مفتقد، يستعيد المثقفون المغاربة السجالات المضيئة، التي ميزت المشهد الثقافي العربي، خلال العقود الماضية، قبل أن ينخرطوا في محاكمة راهن ثقافي معطوب، طغت عليه «الأحقاد»، وسادت فيه «القيم البئيسة»، التي يتوسل أصحابها منطق «المجاملات المزيفة» و«النفاق»، لتترك تلك الصراعات المثمرة التي ميزت العقود الماضية مكانها لصراعات فارغة، مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، فيما تخضع لمنطق «اللوبيات» و«الشللية» و«الحسد» و«الكيد» و«سوء النوايا».
ويرى الشاعر المغربي محمد بلمو أن «التطرق لأسباب غياب السجال الثقافي، وطنيا وعربيا، اليوم، مهم للغاية، ليس، فقط، لأنه يتأسس على المقارنة مع ما كان حاصلا قبل عقود ما بين الأديبين المصريين عباس محمود العقاد وطه حسين، أو حديثا ما بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وطيب تيزيني ومهدي عامل وغيرهم، ممن كان لهم دور مهم في النهوض بالفكر والثقافة العربيين وتحريك مياهها الراكدة، ولكن لأنه يؤشر بشكل واضح على مستوى الضحالة والانحطاط الذين انتهى إليهما الحوار أو الجدال في الساحة العربية في العقود الأخيرة».
يشدد شاعر «حماقات السلمون» على أن سبب غياب السجال الثقافي اليوم، لا يرجع، فقط، إلى غياب هذه الطينة من المثقفين، ولكن إلى اكتساح نوع آخر من «السجال» للساحة الثقافية والإعلامية، يتمثل في «السجال الآيديولوجي السياسي الذي ملأ الفراغ الحاصل بفعل انهيار المشاريع المجتمعية الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والقومية التي تبناها المثقفون العرب قبل أن يضطروا للتراجع إلى الوراء».
ويذهب بلمو إلى أن «المتأمل في السجال السياسي الآيديولوجي الذي يملأ، اليوم، الساحة ضجيجًا وصراخًا، لا بد أن ينتبه إلى فقره الفكري ووضاعة أساليبه. لذلك إذا كان السجال الثقافي الذي تابعنا بمتعة معرفية بين طه حسين ومحمود العقاد أو بين محمد عابد الجابري وجورش طرابيشي مثلا، أو بين الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة على صفحات مجلة (اليوم السابع) الباريسية، أو بين الشاعرين المغربيين أحمد المجاطي ومحمد بنيس، قد انبنى على الندية والاحترام بين طرفي السجال، وتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية، فإن السجال السائد اليوم، على العكس، تماما، من ذلك، ينبني على العداء والاحتقار المتبادل بين طرفيه أو أطرافه، وهو سجال يعادي العلم والعقل ويتسلح بأساليب التخوين والتكفير والشيطنة والشعوذة السياسية، واللغة المنحطة».
وختم بلمو وجهة نظره بالقول إن سجال، اليوم: «فارغ فكريًا ورديء لغويًا ومتخلف أخلاقيًا، ومتطرف عقائديًا، يؤشر على انحطاط فكري وثقافي يريد أن يهيمن على الساحة ويستحوذ على كل مفاصل المجتمع، من خلال ترهيب وقمع أصوات الحكمة والتنوير. والنتيجة، طبعًا، هي الدخول في مرحلة جديدة من التخلف الفكري والثقافي والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي».
من جهته، يقر الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري بـ«تراجع الوظيفة السجالية بين المبدعين والنقاد والمفكرين عبر العالم العربي»، بعد أن «خفت صوت المثقف الذي كان يصول ويجول في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فلم يعد معنيًا بما يحدث حوله في عالم متسارع الوتيرة، وكأنه استقال من وظيفته المجتمعية».
ويرجع الحجري أمر هذا التحول إلى عدد متداخل من الأسباب، أجملها في «الانعزالية التي دخل فيها المثقف بعد نكسة اليسار، واعتزاله العمل السياسي، فقل حضور ما كان يسمى بالكاتب الملتزم والمثقف الكاريزماتي الذي يخوض فيما حوله»؛ و«الهوة القائمة بين السياسي والمبدع والمثقف، والتي تتفاقم بالتدريج»؛ و«ظهور الوسائط الإلكترونية الجديدة التي أغرقت الكائن البشري في عزلة قاتمة، وذلك من انشغاله بالإثارة المتجددة للوسيط وانهماكه الكلي فيها، فلم يعد هناك مجال للتفاعل المباشر وتبادل النقاش المثمر والهادف والحاد أحيانًا، فالوسائط الجديدة بما فيها مواقع التفاعل الاجتماعي، لم تستطع الاستعاضة عن الفعل الثقافي في الساحات المعروفة والفضاءات التاريخية التي كان يشد إليها الرحال من مسافات لحضور لقاءات فكرية وسجالات ثقافية حول المواضيع الراهنة، مثل دور الشباب، المسارح، دور السينما، الجامعات، الحلقيات الخاصة بالنقاش، المناظرات التلفزيونية والإذاعية، المنتديات العامة التي يحضرها الجميع، وينشطها مثقفون ومفكرون من مختلف التخصصات والاتجاهات المتناقضة»، فضلا عن «تراجع صيت اللقاءات الثقافية والمهرجانات ومعها دور المثقف والمبدع في خلق دينامية مجتمعية»؛ و«تراجع دور الخطابة وحلول الصوت الفريد محلها، من خلال هيمنة وسائل الإعلام البصرية والوسائط التفاعلية».
لكن: «في ظل أفول شمس الخصومات المضيئة والنقاشات الحادة بين الأدباء والمفكرين»، يضيف الحجري «ظهر ما يسمى بالأحقاد والنيران الكيدية الصديقة التي تشتعل وتستعر في الخفاء تاركة وراءها قيما بئيسة في الوسط الثقافي، وفي الواجهة، يلوح منطق المجاملات، والطلاءات المزيفة والإفحامات المنافقة، التي تقوم الأشياء عن غير اقتناع ولا تأمل، وهي ظاهرة نتجت عنها صراعات مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، وأفرزت لوبيات وشللية لا تحتكم إلى القيم الفنية والفكرية والثقافية، بل إلى منطق الحسد والكيد وسوء النوايا، للأسف الشديد».
من جهته، يرى الشاعر المغربي جمال الموساوي أن «السجال الثقافي هو علامة التعدد والاختلاف اللذين يصنعان الحياة. وفي غيابه يكون المجال مفتوحا للغة أخرى لسنا في حاجة للاستدلال عليها في هذه المنطقة التي ننتمي إليها». قبل أن يستحضر السجالات التي ميزت مغرب الستينات والسبعينات، فيقول: «في المغرب، كلنا نتذكر فترة، وإن كنت من جيل لم يعشها، كانت فيها الساحة الثقافية تشتعل بسجالات كبيرة عنيفة أحيانا بين (الفرقاء) الثقافيين. كان ذلك خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لماذا الفرقاء ولماذا العنف؟ ببساطة لأن المغرب كان يعرف في تلك الفترة صراعا مزدوجا بين تيارات سياسية معينة وبين السلطة التي كانت تحاول إرساء جذورها وتكريس هيمنتها من جهة، ومن جهة أخرى بين التيارات السياسية نفسها بالنظر إلى تباين مرجعياتها الآيديولوجية. في خضم هذا الصراع كان المثقف فاعلا أساسيا. بمعنى آخر، كان من الصعب ترسيم الحدود بين السياسي والثقافي، وبشكل أدق، ربما كان السجال ثقافيا في الظاهر ولكن خلفيته كانت سياسية وآيديولوجية، ومن هنا الحدة والعنف التي ميزت تلك النقاشات».
يرى الموساوي أنه «بالرغم مما يمكن أن ينسب لتلك الفترة من سلبيات ومن مآسٍ، وبالرغم مما أوقعته من ضحايا سواء للموت أو للاعتقال، فإن لها علينا أن نعترف لها وللفاعلين فيها بأن ما يعرفه المغرب حاليا من انفتاح يعود الفضل فيه لهم ولسجالاتهم ونضالهم».
يقارن الموساوي بين الأمس واليوم، فيبدي أسفه على الوضع الراهن، فيقول: «للأسف، حاليا، ومع ما ذكرته من انفتاح، قد نختلف على قدره، فإن الأمور تغيرت. تغير منظور السلطة للأمور، وتغيرت أشياء كثيرة مما يساهم في تكوين المثقف وأصبح هذا الأخير متحررا بقدر أكبر من عباءة السياسة، وإن كان يمارسها بشكل غير نظامي (خارج الأحزاب والنقابات)، وهنا يمكن طرح أسئلة من قبيل هل لم يعد المثقف مؤمنا بفكرة ثابتة يدافع عنها؟ أو هل تخلت السياسة عن استقطاب المثقفين الذين هم أصل السجال كما سبقت الإشارة؟ أو هل باتت الثقافة والاشتغال بها مجرد طريق إلى أشياء أخرى؟ في هذا الإطار من الصعب الجزم بأن المثقف يشتغل خارج منظومة فكرية يؤمن بها ويصدر عنها».
يشدد الموساوي على أنه يبقى «من غير المستبعد أن يكون رجل السياسة، الذي استخدم بشكل ما المثقف في الماضي، قد زهد في استقطاب مثقفين حتى يخلو له الجو ويتخلص من أي إزعاج محتمل. إن انعكاس هذا التغييب أو الغياب واضح على مشهدنا السياسي من حيث انحطاط الخطاب، ومن حيث عدم قدرته على إنتاج الحلول للقضايا التي تشغل الرأي العام في مختلف المجالات. على الأقل كان المثقف في الماضي صاحب اقتراحات فيما يتعلق بتصور نوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه».
يؤكد الموساوي على حقيقة أن «الكثير من المثقفين تصالحوا مع السلطة التي كانوا أعداءها بالأمس وهناك من يؤاخذهم على ذلك، وأنهم تخلوا عن قناعاتهم، ومن الممكن اعتبار هذا نوعا من السجال لكنه لا يرقى إلى حدة سجالات العقود الماضية». لذلك يرى الموساوي أنه «لا يمكننا حاليا أن نتغاضى عن وجود سجال يتخذ شكل صراع عنيف حول القيم التي ينبغي أن تسود بين منظومتين فكريتين ثقافيتين مختلفتين. هذا السجال موجود بشكل يومي في الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عموما». ويعتقد الموساوي أن «هذا السجال المكتوب والمسموع ضروري للحفاظ على سلامة المجتمع لأن الانتصار فيه رهين للقدرة على إقناع الناس بأفكار معينة أو بنقيضها، ومن الأفضل لهذا السجال أن يبقى ويتطور لأن في غيابه أو في عدم احترامه لقيم التعدد والاختلاف خطرَ أن يشرع الباب لسجال من نوع آخر لا أحد يريده، والأمثلة حوله لا تخفى».
وما بين الأمس واليوم، يكاد يتفق المتتبعون للمشهد الثقافي المغربي على أن الشعر يبقى أكثر الساحات التي شهدت صراعًا بين المثقفين، أفرادًا أو أجيالاً شعرية، حيث تبقى الصراعات، المعلنة والمضمرة، بين من ينتصرون لهذا الجيل أو ذاك، أبرز ما ميز مسيرة الشعر المغربي المعاصر. وهي صراعات وصلت، في كثير من الأحيان، حد التبرؤ من الآخر، السابق أو اللاحق، لكن من دون أن يفتقد، حسب عدد من المتتبعين، خصائص الندية والاحترام، والتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية.
ويبقى الصراع الذي جمع الشاعرين أحمد المجاطي ومحمد بنيس من أبرز السجالات التي يحتفظ بها المشهد المغربي خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ويذهب الناقد نجيب العوفي، في تبرير هذا الصراع، الذي جمع بين المجاطي وبنيس، إلى أن الأول لم يكن مرتاحًا إلى شعر وأدب الثاني ولا كان راضيًا عليه، ولذلك «كان (أي المجاطي) دائم الانتقاد له (أي لمحمد بنيس) والغمز من قناته، في جلساته وحواراته ومحاضراته».
ولم يملك العوفي إلا أن يتأسف لطبيعة هذا الصراع، الذي جمع المجاطي وبنيس، وهو الصراع الذي كان، حسب رأيه: «كتيمًا وكواليسيًا وجامعيًا، ولم يتسن له أن يرقى إلى مستوى المعارك الأدبية المكتوبة والموثقة».
ومن المؤكد أن هذا الصراع، المبني على خلاف واختلاف في الرؤية الشعرية، بين أفراد وأجيال التجربة الشعرية المعاصرة في المغرب، كان حافزًا لمزيد من العطاء، وعنوانًا لنوع من الحراك الإيجابي، على مستوى الممارسة الشعرية، بشكل عام، سوى أنه خف، أو توقف، كما لم يكتب له أن يكون في مستوى الخصومات النقدية التي ميزت (وأغنت) الشعرية العربية، قديمها وحديثها. ومن ذلك أن يكتب الشاعر ياسين عدنان، تحت عنوان «الشعراء في المغرب ليسوا أكثر من شائعات»، مستعيدًا، ما عاشه هو وأصدقاؤه من جيل التسعينات في المغرب، خاصة في «الغارة الشعرية»، في علاقة بما سبق تجربتهم من شعر ومن أجيال، قبل أن يتوقف عند حاضر الممارسة الشعرية ومكانة الشعر والشعراء في مجتمعهم: «كنا نتصور أنفسنا بديلا عن كل ما كتبه المغاربة، منذ ابن زنباع حتى محمد بنيس. اليوم، ربما بدأت الأمور تتغير. اكتشفتُ شخصيًا أننا خاصمنا الكثير من التجارب الشعرية قبل أن نقرأها ونتمثل، بعمق، أهمية منجزها الشعري»، قبل أن يتابع: «اليوم، صرت أكثر تواضعًا، كما أن أوهامي قلَّتْ. وحينما يتعلق الأمر بالشعر، خصوصا، أحس كما لو أن الحديث عن (السائد) مجرد كلام مقاه. الشعر لم يسُد قط في هذا البلد.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.