مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الجدالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا العربية المعاصرة؟

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو
TT

مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو

بحسرة من يحن إلى زمن جميل مفتقد، يستعيد المثقفون المغاربة السجالات المضيئة، التي ميزت المشهد الثقافي العربي، خلال العقود الماضية، قبل أن ينخرطوا في محاكمة راهن ثقافي معطوب، طغت عليه «الأحقاد»، وسادت فيه «القيم البئيسة»، التي يتوسل أصحابها منطق «المجاملات المزيفة» و«النفاق»، لتترك تلك الصراعات المثمرة التي ميزت العقود الماضية مكانها لصراعات فارغة، مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، فيما تخضع لمنطق «اللوبيات» و«الشللية» و«الحسد» و«الكيد» و«سوء النوايا».
ويرى الشاعر المغربي محمد بلمو أن «التطرق لأسباب غياب السجال الثقافي، وطنيا وعربيا، اليوم، مهم للغاية، ليس، فقط، لأنه يتأسس على المقارنة مع ما كان حاصلا قبل عقود ما بين الأديبين المصريين عباس محمود العقاد وطه حسين، أو حديثا ما بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وطيب تيزيني ومهدي عامل وغيرهم، ممن كان لهم دور مهم في النهوض بالفكر والثقافة العربيين وتحريك مياهها الراكدة، ولكن لأنه يؤشر بشكل واضح على مستوى الضحالة والانحطاط الذين انتهى إليهما الحوار أو الجدال في الساحة العربية في العقود الأخيرة».
يشدد شاعر «حماقات السلمون» على أن سبب غياب السجال الثقافي اليوم، لا يرجع، فقط، إلى غياب هذه الطينة من المثقفين، ولكن إلى اكتساح نوع آخر من «السجال» للساحة الثقافية والإعلامية، يتمثل في «السجال الآيديولوجي السياسي الذي ملأ الفراغ الحاصل بفعل انهيار المشاريع المجتمعية الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والقومية التي تبناها المثقفون العرب قبل أن يضطروا للتراجع إلى الوراء».
ويذهب بلمو إلى أن «المتأمل في السجال السياسي الآيديولوجي الذي يملأ، اليوم، الساحة ضجيجًا وصراخًا، لا بد أن ينتبه إلى فقره الفكري ووضاعة أساليبه. لذلك إذا كان السجال الثقافي الذي تابعنا بمتعة معرفية بين طه حسين ومحمود العقاد أو بين محمد عابد الجابري وجورش طرابيشي مثلا، أو بين الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة على صفحات مجلة (اليوم السابع) الباريسية، أو بين الشاعرين المغربيين أحمد المجاطي ومحمد بنيس، قد انبنى على الندية والاحترام بين طرفي السجال، وتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية، فإن السجال السائد اليوم، على العكس، تماما، من ذلك، ينبني على العداء والاحتقار المتبادل بين طرفيه أو أطرافه، وهو سجال يعادي العلم والعقل ويتسلح بأساليب التخوين والتكفير والشيطنة والشعوذة السياسية، واللغة المنحطة».
وختم بلمو وجهة نظره بالقول إن سجال، اليوم: «فارغ فكريًا ورديء لغويًا ومتخلف أخلاقيًا، ومتطرف عقائديًا، يؤشر على انحطاط فكري وثقافي يريد أن يهيمن على الساحة ويستحوذ على كل مفاصل المجتمع، من خلال ترهيب وقمع أصوات الحكمة والتنوير. والنتيجة، طبعًا، هي الدخول في مرحلة جديدة من التخلف الفكري والثقافي والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي».
من جهته، يقر الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري بـ«تراجع الوظيفة السجالية بين المبدعين والنقاد والمفكرين عبر العالم العربي»، بعد أن «خفت صوت المثقف الذي كان يصول ويجول في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فلم يعد معنيًا بما يحدث حوله في عالم متسارع الوتيرة، وكأنه استقال من وظيفته المجتمعية».
ويرجع الحجري أمر هذا التحول إلى عدد متداخل من الأسباب، أجملها في «الانعزالية التي دخل فيها المثقف بعد نكسة اليسار، واعتزاله العمل السياسي، فقل حضور ما كان يسمى بالكاتب الملتزم والمثقف الكاريزماتي الذي يخوض فيما حوله»؛ و«الهوة القائمة بين السياسي والمبدع والمثقف، والتي تتفاقم بالتدريج»؛ و«ظهور الوسائط الإلكترونية الجديدة التي أغرقت الكائن البشري في عزلة قاتمة، وذلك من انشغاله بالإثارة المتجددة للوسيط وانهماكه الكلي فيها، فلم يعد هناك مجال للتفاعل المباشر وتبادل النقاش المثمر والهادف والحاد أحيانًا، فالوسائط الجديدة بما فيها مواقع التفاعل الاجتماعي، لم تستطع الاستعاضة عن الفعل الثقافي في الساحات المعروفة والفضاءات التاريخية التي كان يشد إليها الرحال من مسافات لحضور لقاءات فكرية وسجالات ثقافية حول المواضيع الراهنة، مثل دور الشباب، المسارح، دور السينما، الجامعات، الحلقيات الخاصة بالنقاش، المناظرات التلفزيونية والإذاعية، المنتديات العامة التي يحضرها الجميع، وينشطها مثقفون ومفكرون من مختلف التخصصات والاتجاهات المتناقضة»، فضلا عن «تراجع صيت اللقاءات الثقافية والمهرجانات ومعها دور المثقف والمبدع في خلق دينامية مجتمعية»؛ و«تراجع دور الخطابة وحلول الصوت الفريد محلها، من خلال هيمنة وسائل الإعلام البصرية والوسائط التفاعلية».
لكن: «في ظل أفول شمس الخصومات المضيئة والنقاشات الحادة بين الأدباء والمفكرين»، يضيف الحجري «ظهر ما يسمى بالأحقاد والنيران الكيدية الصديقة التي تشتعل وتستعر في الخفاء تاركة وراءها قيما بئيسة في الوسط الثقافي، وفي الواجهة، يلوح منطق المجاملات، والطلاءات المزيفة والإفحامات المنافقة، التي تقوم الأشياء عن غير اقتناع ولا تأمل، وهي ظاهرة نتجت عنها صراعات مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، وأفرزت لوبيات وشللية لا تحتكم إلى القيم الفنية والفكرية والثقافية، بل إلى منطق الحسد والكيد وسوء النوايا، للأسف الشديد».
من جهته، يرى الشاعر المغربي جمال الموساوي أن «السجال الثقافي هو علامة التعدد والاختلاف اللذين يصنعان الحياة. وفي غيابه يكون المجال مفتوحا للغة أخرى لسنا في حاجة للاستدلال عليها في هذه المنطقة التي ننتمي إليها». قبل أن يستحضر السجالات التي ميزت مغرب الستينات والسبعينات، فيقول: «في المغرب، كلنا نتذكر فترة، وإن كنت من جيل لم يعشها، كانت فيها الساحة الثقافية تشتعل بسجالات كبيرة عنيفة أحيانا بين (الفرقاء) الثقافيين. كان ذلك خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لماذا الفرقاء ولماذا العنف؟ ببساطة لأن المغرب كان يعرف في تلك الفترة صراعا مزدوجا بين تيارات سياسية معينة وبين السلطة التي كانت تحاول إرساء جذورها وتكريس هيمنتها من جهة، ومن جهة أخرى بين التيارات السياسية نفسها بالنظر إلى تباين مرجعياتها الآيديولوجية. في خضم هذا الصراع كان المثقف فاعلا أساسيا. بمعنى آخر، كان من الصعب ترسيم الحدود بين السياسي والثقافي، وبشكل أدق، ربما كان السجال ثقافيا في الظاهر ولكن خلفيته كانت سياسية وآيديولوجية، ومن هنا الحدة والعنف التي ميزت تلك النقاشات».
يرى الموساوي أنه «بالرغم مما يمكن أن ينسب لتلك الفترة من سلبيات ومن مآسٍ، وبالرغم مما أوقعته من ضحايا سواء للموت أو للاعتقال، فإن لها علينا أن نعترف لها وللفاعلين فيها بأن ما يعرفه المغرب حاليا من انفتاح يعود الفضل فيه لهم ولسجالاتهم ونضالهم».
يقارن الموساوي بين الأمس واليوم، فيبدي أسفه على الوضع الراهن، فيقول: «للأسف، حاليا، ومع ما ذكرته من انفتاح، قد نختلف على قدره، فإن الأمور تغيرت. تغير منظور السلطة للأمور، وتغيرت أشياء كثيرة مما يساهم في تكوين المثقف وأصبح هذا الأخير متحررا بقدر أكبر من عباءة السياسة، وإن كان يمارسها بشكل غير نظامي (خارج الأحزاب والنقابات)، وهنا يمكن طرح أسئلة من قبيل هل لم يعد المثقف مؤمنا بفكرة ثابتة يدافع عنها؟ أو هل تخلت السياسة عن استقطاب المثقفين الذين هم أصل السجال كما سبقت الإشارة؟ أو هل باتت الثقافة والاشتغال بها مجرد طريق إلى أشياء أخرى؟ في هذا الإطار من الصعب الجزم بأن المثقف يشتغل خارج منظومة فكرية يؤمن بها ويصدر عنها».
يشدد الموساوي على أنه يبقى «من غير المستبعد أن يكون رجل السياسة، الذي استخدم بشكل ما المثقف في الماضي، قد زهد في استقطاب مثقفين حتى يخلو له الجو ويتخلص من أي إزعاج محتمل. إن انعكاس هذا التغييب أو الغياب واضح على مشهدنا السياسي من حيث انحطاط الخطاب، ومن حيث عدم قدرته على إنتاج الحلول للقضايا التي تشغل الرأي العام في مختلف المجالات. على الأقل كان المثقف في الماضي صاحب اقتراحات فيما يتعلق بتصور نوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه».
يؤكد الموساوي على حقيقة أن «الكثير من المثقفين تصالحوا مع السلطة التي كانوا أعداءها بالأمس وهناك من يؤاخذهم على ذلك، وأنهم تخلوا عن قناعاتهم، ومن الممكن اعتبار هذا نوعا من السجال لكنه لا يرقى إلى حدة سجالات العقود الماضية». لذلك يرى الموساوي أنه «لا يمكننا حاليا أن نتغاضى عن وجود سجال يتخذ شكل صراع عنيف حول القيم التي ينبغي أن تسود بين منظومتين فكريتين ثقافيتين مختلفتين. هذا السجال موجود بشكل يومي في الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عموما». ويعتقد الموساوي أن «هذا السجال المكتوب والمسموع ضروري للحفاظ على سلامة المجتمع لأن الانتصار فيه رهين للقدرة على إقناع الناس بأفكار معينة أو بنقيضها، ومن الأفضل لهذا السجال أن يبقى ويتطور لأن في غيابه أو في عدم احترامه لقيم التعدد والاختلاف خطرَ أن يشرع الباب لسجال من نوع آخر لا أحد يريده، والأمثلة حوله لا تخفى».
وما بين الأمس واليوم، يكاد يتفق المتتبعون للمشهد الثقافي المغربي على أن الشعر يبقى أكثر الساحات التي شهدت صراعًا بين المثقفين، أفرادًا أو أجيالاً شعرية، حيث تبقى الصراعات، المعلنة والمضمرة، بين من ينتصرون لهذا الجيل أو ذاك، أبرز ما ميز مسيرة الشعر المغربي المعاصر. وهي صراعات وصلت، في كثير من الأحيان، حد التبرؤ من الآخر، السابق أو اللاحق، لكن من دون أن يفتقد، حسب عدد من المتتبعين، خصائص الندية والاحترام، والتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية.
ويبقى الصراع الذي جمع الشاعرين أحمد المجاطي ومحمد بنيس من أبرز السجالات التي يحتفظ بها المشهد المغربي خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ويذهب الناقد نجيب العوفي، في تبرير هذا الصراع، الذي جمع بين المجاطي وبنيس، إلى أن الأول لم يكن مرتاحًا إلى شعر وأدب الثاني ولا كان راضيًا عليه، ولذلك «كان (أي المجاطي) دائم الانتقاد له (أي لمحمد بنيس) والغمز من قناته، في جلساته وحواراته ومحاضراته».
ولم يملك العوفي إلا أن يتأسف لطبيعة هذا الصراع، الذي جمع المجاطي وبنيس، وهو الصراع الذي كان، حسب رأيه: «كتيمًا وكواليسيًا وجامعيًا، ولم يتسن له أن يرقى إلى مستوى المعارك الأدبية المكتوبة والموثقة».
ومن المؤكد أن هذا الصراع، المبني على خلاف واختلاف في الرؤية الشعرية، بين أفراد وأجيال التجربة الشعرية المعاصرة في المغرب، كان حافزًا لمزيد من العطاء، وعنوانًا لنوع من الحراك الإيجابي، على مستوى الممارسة الشعرية، بشكل عام، سوى أنه خف، أو توقف، كما لم يكتب له أن يكون في مستوى الخصومات النقدية التي ميزت (وأغنت) الشعرية العربية، قديمها وحديثها. ومن ذلك أن يكتب الشاعر ياسين عدنان، تحت عنوان «الشعراء في المغرب ليسوا أكثر من شائعات»، مستعيدًا، ما عاشه هو وأصدقاؤه من جيل التسعينات في المغرب، خاصة في «الغارة الشعرية»، في علاقة بما سبق تجربتهم من شعر ومن أجيال، قبل أن يتوقف عند حاضر الممارسة الشعرية ومكانة الشعر والشعراء في مجتمعهم: «كنا نتصور أنفسنا بديلا عن كل ما كتبه المغاربة، منذ ابن زنباع حتى محمد بنيس. اليوم، ربما بدأت الأمور تتغير. اكتشفتُ شخصيًا أننا خاصمنا الكثير من التجارب الشعرية قبل أن نقرأها ونتمثل، بعمق، أهمية منجزها الشعري»، قبل أن يتابع: «اليوم، صرت أكثر تواضعًا، كما أن أوهامي قلَّتْ. وحينما يتعلق الأمر بالشعر، خصوصا، أحس كما لو أن الحديث عن (السائد) مجرد كلام مقاه. الشعر لم يسُد قط في هذا البلد.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.