مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الجدالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا العربية المعاصرة؟

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو
TT

مثقفون مغاربة: سجالات اليوم.. عنوان مشهد ثقافي معطوب

الموساوي -  الحجري - بلمو
الموساوي - الحجري - بلمو

بحسرة من يحن إلى زمن جميل مفتقد، يستعيد المثقفون المغاربة السجالات المضيئة، التي ميزت المشهد الثقافي العربي، خلال العقود الماضية، قبل أن ينخرطوا في محاكمة راهن ثقافي معطوب، طغت عليه «الأحقاد»، وسادت فيه «القيم البئيسة»، التي يتوسل أصحابها منطق «المجاملات المزيفة» و«النفاق»، لتترك تلك الصراعات المثمرة التي ميزت العقود الماضية مكانها لصراعات فارغة، مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، فيما تخضع لمنطق «اللوبيات» و«الشللية» و«الحسد» و«الكيد» و«سوء النوايا».
ويرى الشاعر المغربي محمد بلمو أن «التطرق لأسباب غياب السجال الثقافي، وطنيا وعربيا، اليوم، مهم للغاية، ليس، فقط، لأنه يتأسس على المقارنة مع ما كان حاصلا قبل عقود ما بين الأديبين المصريين عباس محمود العقاد وطه حسين، أو حديثا ما بين محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي وطيب تيزيني ومهدي عامل وغيرهم، ممن كان لهم دور مهم في النهوض بالفكر والثقافة العربيين وتحريك مياهها الراكدة، ولكن لأنه يؤشر بشكل واضح على مستوى الضحالة والانحطاط الذين انتهى إليهما الحوار أو الجدال في الساحة العربية في العقود الأخيرة».
يشدد شاعر «حماقات السلمون» على أن سبب غياب السجال الثقافي اليوم، لا يرجع، فقط، إلى غياب هذه الطينة من المثقفين، ولكن إلى اكتساح نوع آخر من «السجال» للساحة الثقافية والإعلامية، يتمثل في «السجال الآيديولوجي السياسي الذي ملأ الفراغ الحاصل بفعل انهيار المشاريع المجتمعية الليبرالية والديمقراطية والاشتراكية والقومية التي تبناها المثقفون العرب قبل أن يضطروا للتراجع إلى الوراء».
ويذهب بلمو إلى أن «المتأمل في السجال السياسي الآيديولوجي الذي يملأ، اليوم، الساحة ضجيجًا وصراخًا، لا بد أن ينتبه إلى فقره الفكري ووضاعة أساليبه. لذلك إذا كان السجال الثقافي الذي تابعنا بمتعة معرفية بين طه حسين ومحمود العقاد أو بين محمد عابد الجابري وجورش طرابيشي مثلا، أو بين الشاعرين الفلسطينيين محمود درويش وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة على صفحات مجلة (اليوم السابع) الباريسية، أو بين الشاعرين المغربيين أحمد المجاطي ومحمد بنيس، قد انبنى على الندية والاحترام بين طرفي السجال، وتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية، فإن السجال السائد اليوم، على العكس، تماما، من ذلك، ينبني على العداء والاحتقار المتبادل بين طرفيه أو أطرافه، وهو سجال يعادي العلم والعقل ويتسلح بأساليب التخوين والتكفير والشيطنة والشعوذة السياسية، واللغة المنحطة».
وختم بلمو وجهة نظره بالقول إن سجال، اليوم: «فارغ فكريًا ورديء لغويًا ومتخلف أخلاقيًا، ومتطرف عقائديًا، يؤشر على انحطاط فكري وثقافي يريد أن يهيمن على الساحة ويستحوذ على كل مفاصل المجتمع، من خلال ترهيب وقمع أصوات الحكمة والتنوير. والنتيجة، طبعًا، هي الدخول في مرحلة جديدة من التخلف الفكري والثقافي والاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي».
من جهته، يقر الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري بـ«تراجع الوظيفة السجالية بين المبدعين والنقاد والمفكرين عبر العالم العربي»، بعد أن «خفت صوت المثقف الذي كان يصول ويجول في ستينات وسبعينات القرن الماضي، فلم يعد معنيًا بما يحدث حوله في عالم متسارع الوتيرة، وكأنه استقال من وظيفته المجتمعية».
ويرجع الحجري أمر هذا التحول إلى عدد متداخل من الأسباب، أجملها في «الانعزالية التي دخل فيها المثقف بعد نكسة اليسار، واعتزاله العمل السياسي، فقل حضور ما كان يسمى بالكاتب الملتزم والمثقف الكاريزماتي الذي يخوض فيما حوله»؛ و«الهوة القائمة بين السياسي والمبدع والمثقف، والتي تتفاقم بالتدريج»؛ و«ظهور الوسائط الإلكترونية الجديدة التي أغرقت الكائن البشري في عزلة قاتمة، وذلك من انشغاله بالإثارة المتجددة للوسيط وانهماكه الكلي فيها، فلم يعد هناك مجال للتفاعل المباشر وتبادل النقاش المثمر والهادف والحاد أحيانًا، فالوسائط الجديدة بما فيها مواقع التفاعل الاجتماعي، لم تستطع الاستعاضة عن الفعل الثقافي في الساحات المعروفة والفضاءات التاريخية التي كان يشد إليها الرحال من مسافات لحضور لقاءات فكرية وسجالات ثقافية حول المواضيع الراهنة، مثل دور الشباب، المسارح، دور السينما، الجامعات، الحلقيات الخاصة بالنقاش، المناظرات التلفزيونية والإذاعية، المنتديات العامة التي يحضرها الجميع، وينشطها مثقفون ومفكرون من مختلف التخصصات والاتجاهات المتناقضة»، فضلا عن «تراجع صيت اللقاءات الثقافية والمهرجانات ومعها دور المثقف والمبدع في خلق دينامية مجتمعية»؛ و«تراجع دور الخطابة وحلول الصوت الفريد محلها، من خلال هيمنة وسائل الإعلام البصرية والوسائط التفاعلية».
لكن: «في ظل أفول شمس الخصومات المضيئة والنقاشات الحادة بين الأدباء والمفكرين»، يضيف الحجري «ظهر ما يسمى بالأحقاد والنيران الكيدية الصديقة التي تشتعل وتستعر في الخفاء تاركة وراءها قيما بئيسة في الوسط الثقافي، وفي الواجهة، يلوح منطق المجاملات، والطلاءات المزيفة والإفحامات المنافقة، التي تقوم الأشياء عن غير اقتناع ولا تأمل، وهي ظاهرة نتجت عنها صراعات مجانية لا علاقة لها بالفكر والأدب، وأفرزت لوبيات وشللية لا تحتكم إلى القيم الفنية والفكرية والثقافية، بل إلى منطق الحسد والكيد وسوء النوايا، للأسف الشديد».
من جهته، يرى الشاعر المغربي جمال الموساوي أن «السجال الثقافي هو علامة التعدد والاختلاف اللذين يصنعان الحياة. وفي غيابه يكون المجال مفتوحا للغة أخرى لسنا في حاجة للاستدلال عليها في هذه المنطقة التي ننتمي إليها». قبل أن يستحضر السجالات التي ميزت مغرب الستينات والسبعينات، فيقول: «في المغرب، كلنا نتذكر فترة، وإن كنت من جيل لم يعشها، كانت فيها الساحة الثقافية تشتعل بسجالات كبيرة عنيفة أحيانا بين (الفرقاء) الثقافيين. كان ذلك خلال سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي. لماذا الفرقاء ولماذا العنف؟ ببساطة لأن المغرب كان يعرف في تلك الفترة صراعا مزدوجا بين تيارات سياسية معينة وبين السلطة التي كانت تحاول إرساء جذورها وتكريس هيمنتها من جهة، ومن جهة أخرى بين التيارات السياسية نفسها بالنظر إلى تباين مرجعياتها الآيديولوجية. في خضم هذا الصراع كان المثقف فاعلا أساسيا. بمعنى آخر، كان من الصعب ترسيم الحدود بين السياسي والثقافي، وبشكل أدق، ربما كان السجال ثقافيا في الظاهر ولكن خلفيته كانت سياسية وآيديولوجية، ومن هنا الحدة والعنف التي ميزت تلك النقاشات».
يرى الموساوي أنه «بالرغم مما يمكن أن ينسب لتلك الفترة من سلبيات ومن مآسٍ، وبالرغم مما أوقعته من ضحايا سواء للموت أو للاعتقال، فإن لها علينا أن نعترف لها وللفاعلين فيها بأن ما يعرفه المغرب حاليا من انفتاح يعود الفضل فيه لهم ولسجالاتهم ونضالهم».
يقارن الموساوي بين الأمس واليوم، فيبدي أسفه على الوضع الراهن، فيقول: «للأسف، حاليا، ومع ما ذكرته من انفتاح، قد نختلف على قدره، فإن الأمور تغيرت. تغير منظور السلطة للأمور، وتغيرت أشياء كثيرة مما يساهم في تكوين المثقف وأصبح هذا الأخير متحررا بقدر أكبر من عباءة السياسة، وإن كان يمارسها بشكل غير نظامي (خارج الأحزاب والنقابات)، وهنا يمكن طرح أسئلة من قبيل هل لم يعد المثقف مؤمنا بفكرة ثابتة يدافع عنها؟ أو هل تخلت السياسة عن استقطاب المثقفين الذين هم أصل السجال كما سبقت الإشارة؟ أو هل باتت الثقافة والاشتغال بها مجرد طريق إلى أشياء أخرى؟ في هذا الإطار من الصعب الجزم بأن المثقف يشتغل خارج منظومة فكرية يؤمن بها ويصدر عنها».
يشدد الموساوي على أنه يبقى «من غير المستبعد أن يكون رجل السياسة، الذي استخدم بشكل ما المثقف في الماضي، قد زهد في استقطاب مثقفين حتى يخلو له الجو ويتخلص من أي إزعاج محتمل. إن انعكاس هذا التغييب أو الغياب واضح على مشهدنا السياسي من حيث انحطاط الخطاب، ومن حيث عدم قدرته على إنتاج الحلول للقضايا التي تشغل الرأي العام في مختلف المجالات. على الأقل كان المثقف في الماضي صاحب اقتراحات فيما يتعلق بتصور نوع المجتمع الذي ينبغي بناؤه».
يؤكد الموساوي على حقيقة أن «الكثير من المثقفين تصالحوا مع السلطة التي كانوا أعداءها بالأمس وهناك من يؤاخذهم على ذلك، وأنهم تخلوا عن قناعاتهم، ومن الممكن اعتبار هذا نوعا من السجال لكنه لا يرقى إلى حدة سجالات العقود الماضية». لذلك يرى الموساوي أنه «لا يمكننا حاليا أن نتغاضى عن وجود سجال يتخذ شكل صراع عنيف حول القيم التي ينبغي أن تسود بين منظومتين فكريتين ثقافيتين مختلفتين. هذا السجال موجود بشكل يومي في الجرائد وفي مواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية عموما». ويعتقد الموساوي أن «هذا السجال المكتوب والمسموع ضروري للحفاظ على سلامة المجتمع لأن الانتصار فيه رهين للقدرة على إقناع الناس بأفكار معينة أو بنقيضها، ومن الأفضل لهذا السجال أن يبقى ويتطور لأن في غيابه أو في عدم احترامه لقيم التعدد والاختلاف خطرَ أن يشرع الباب لسجال من نوع آخر لا أحد يريده، والأمثلة حوله لا تخفى».
وما بين الأمس واليوم، يكاد يتفق المتتبعون للمشهد الثقافي المغربي على أن الشعر يبقى أكثر الساحات التي شهدت صراعًا بين المثقفين، أفرادًا أو أجيالاً شعرية، حيث تبقى الصراعات، المعلنة والمضمرة، بين من ينتصرون لهذا الجيل أو ذاك، أبرز ما ميز مسيرة الشعر المغربي المعاصر. وهي صراعات وصلت، في كثير من الأحيان، حد التبرؤ من الآخر، السابق أو اللاحق، لكن من دون أن يفتقد، حسب عدد من المتتبعين، خصائص الندية والاحترام، والتسلح بالتراكمات والمناهج العلمية وأخلاقيات الحوار الحضاري واللغة الراقية.
ويبقى الصراع الذي جمع الشاعرين أحمد المجاطي ومحمد بنيس من أبرز السجالات التي يحتفظ بها المشهد المغربي خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي. ويذهب الناقد نجيب العوفي، في تبرير هذا الصراع، الذي جمع بين المجاطي وبنيس، إلى أن الأول لم يكن مرتاحًا إلى شعر وأدب الثاني ولا كان راضيًا عليه، ولذلك «كان (أي المجاطي) دائم الانتقاد له (أي لمحمد بنيس) والغمز من قناته، في جلساته وحواراته ومحاضراته».
ولم يملك العوفي إلا أن يتأسف لطبيعة هذا الصراع، الذي جمع المجاطي وبنيس، وهو الصراع الذي كان، حسب رأيه: «كتيمًا وكواليسيًا وجامعيًا، ولم يتسن له أن يرقى إلى مستوى المعارك الأدبية المكتوبة والموثقة».
ومن المؤكد أن هذا الصراع، المبني على خلاف واختلاف في الرؤية الشعرية، بين أفراد وأجيال التجربة الشعرية المعاصرة في المغرب، كان حافزًا لمزيد من العطاء، وعنوانًا لنوع من الحراك الإيجابي، على مستوى الممارسة الشعرية، بشكل عام، سوى أنه خف، أو توقف، كما لم يكتب له أن يكون في مستوى الخصومات النقدية التي ميزت (وأغنت) الشعرية العربية، قديمها وحديثها. ومن ذلك أن يكتب الشاعر ياسين عدنان، تحت عنوان «الشعراء في المغرب ليسوا أكثر من شائعات»، مستعيدًا، ما عاشه هو وأصدقاؤه من جيل التسعينات في المغرب، خاصة في «الغارة الشعرية»، في علاقة بما سبق تجربتهم من شعر ومن أجيال، قبل أن يتوقف عند حاضر الممارسة الشعرية ومكانة الشعر والشعراء في مجتمعهم: «كنا نتصور أنفسنا بديلا عن كل ما كتبه المغاربة، منذ ابن زنباع حتى محمد بنيس. اليوم، ربما بدأت الأمور تتغير. اكتشفتُ شخصيًا أننا خاصمنا الكثير من التجارب الشعرية قبل أن نقرأها ونتمثل، بعمق، أهمية منجزها الشعري»، قبل أن يتابع: «اليوم، صرت أكثر تواضعًا، كما أن أوهامي قلَّتْ. وحينما يتعلق الأمر بالشعر، خصوصا، أحس كما لو أن الحديث عن (السائد) مجرد كلام مقاه. الشعر لم يسُد قط في هذا البلد.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي