من التاريخ: فرانكو.. حقبة «الديكتاتورية» في إسبانيا

فرانكو والملك خوان كارلوس
فرانكو والملك خوان كارلوس
TT

من التاريخ: فرانكو.. حقبة «الديكتاتورية» في إسبانيا

فرانكو والملك خوان كارلوس
فرانكو والملك خوان كارلوس

وقعت إسبانيا فريسة للحرب الآيديولوجية خلال عقد العشرينات من القرن الماضي كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ويومذاك تناحرت القوى السياسية في البلاد إلى أن تنحى الملك الإسباني عن العرش تاركًا البلاد لآليات الانتخابات التي أسفرت عام 1933 عن تولي اليمين والوسط الإسبانيين الحكم؛ ما دفع اليساريين والقوميين المتشددين من ذوي التوجهات الفاشية للتكاتف نحو تأسيس «الجبهة الشعبية» لمواجهة المتغيرات الجديدة التي أدخلتها الحكومة اليمينية. ولاحقًا نجحت «الجبهة» بتولّي الحكم إثر فوزها في انتخابات عام 1936 فغيّرت مجرى السياسية في البلاد. ومن ثم، اشتعلت الحرب الأهلية التي تدخل فيها الجنرال فرانشيسكو فرانكو على رأس غالبية الجيش بعدما سعت «الجبهة الشعبية» لعزل هذه القيادات.
القيادات العسكرية استولت، بالتالي، على الحكم في إسبانيا تحت قيادة فرانكو الذي أعلن قيام الديكتاتورية وسيطر على مقاليد الحكم تحت شعار الحزب الواحد ومبادئ الكنيسة الكاثوليكية، مع إيمان راسخ بالملكية. وهكذا بدأ مرحلة جديدة في تاريخ إسبانيا استطاع خلالها أن يحافظ على الحياد غير الإيجابي إبان الحرب العالمية الثانية نظرًا لتعاطفه الشديد مع دول «المحوَر»، تحديدًا ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، التي دعمت قواته أثناء الحرب الأهلية ضد اليساريين.
كانت لدى فرانكو، الذي اشتهر بلقب «الكودييو»، أي القائد أو الزعيم، قناعاته الفكرية والعقائدية المحافظة المتشددة. فالرجل كان مؤمنًا إيمانًا مطلقًا بدور المسيحية في بلاده بصفتها جزءا من نسيج هذه الأمة، تمامًا كما كان مؤمنًا بفكرة الملكية باعتبارها أساس الحكم، إلا أن الظروف لم تكن تسمح بذلك آنذاك لأنه كان يعتبر الملك ضعيفًا والدولة متفسخة ما بين يساري ويميني وليبرالي، ويرى أقاليم تسعى للانفصال عن الدولة.
وواقع الأمر أن بقاء الدولة الإسبانية كان في مهب الريح عندما بدأ فرانكو عهده الديكتاتوري، فما كان منه إلا أن فرض نظامًا صارمًا بحكم القوة، فألغى عددًا من القوانين كانت مثار جدل داخلي في البلاد، وبخاصة المتعلقة منها بالكنيسة التي أعاد إليها رونقها إلى حد كبير، فجعل المسيحية الكاثوليكية الدين الرسمي للدولة، ومنع الطلاق والزواج المدني، وأعاد أملاك الكنيسة بعد مصادرتها. غير أنه أصر في المقابل على حق الدولة في تعيين الأساقفة، وهو ما كان سابقًا حقًا تاريخيًا للكنيسة في روما. أما السبب فهو تخوفه من الأفكار التي قد يجلبونها للبلاد، ثم إنه أنهى تمامًا «الحكم الذاتي» لإقليمي قطالونية (كاتالونيا) والباسك اللذين كانا يعدان للاستقلال عن المملكة الإسبانية، بل زاد في الأمر من خلال منعهم من التكلّم بلغتهم الأصلية وفرض اللغة الإسبانية عليهم فرضًا.
على صعيد السياسة الخارجية، واجه فرانكو مشكلات كثيرة، على رأسها اندلاع الحرب العالمية الثانية بين «الحلفاء» ودول «المحور» التي، كما سبق، كانت تربطه بدوله علاقات قوية وبخاصة إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية اللتان قدمتا له المساعدات إبان الحرب الأهلية. عند هذه النقطة تبنى فرانكو سياسة حصيفة بعيدة المدى إلى حد كبير، ذلك أنه على الرغم من تعاطفه مع «المحوَر»، قرر وضع ثمن عالٍ مقابل انضمامه إلى دوله رسميًا؛ إذ طلب من الزعيم النازي أدولف هتلر تسليم المغرب لإسبانيا ومعها جبل طارق الواقع تحت السيادة البريطانية وأجزاء من الجزائر. وعندما رفض هتلر هذا المطلب اختار فرانكو تثبيت وضعه بصفته «متعاطفا غير منضم للمحوَر» Pro - Axis Non - belligerent كما وصفه أحد المؤرخين، وذلك على الرغم من أن الجيش الإسباني كان يدفع نحو انخراط إسبانيا في الحرب بجانب «المحور».
حصافة فرانكو وحكمته ورؤيته السياسية الاستراتيجية كانت أوسع، وآتت ثمارها فعلاً. فلقد ضمن تعاطف «المحور» لكن من دون أن يكلف بلاده ثمن الانخراط في حلف رسمي معه سيكون ثمنه باهظًا في حالة هزيمتهم، وهو ما حدث بالفعل. فبعد هزيمة «المحور» في الحرب العالمية الثانية، خرج فرانكو بكراهية الغرب بقيادة الولايات المتحدة ولكن ليس بصفته عدوا مهزوما. كذلك على الرغم من تعدّد محاولاته للتقارب مع «الحلفاء» ظل الغرب نافرا منه، وبخاصة بريطانيا التي كانت ترى فيه عدوًا مستترًا، وهنا اضطر فرانكو للجوء إلى عمليات إصلاح سياسي داخلي أتت في مجملها شكلية، فقد أطلق في مايو (أيار) 1945 صكوك الحريات التي كفل من خلالها الحقوق الفردية والجماعية للأفراد، إضافة إلى حرية العقيدة والتعبير. ولكن واقع الأمر أن النظام السياسي في إسبانيا ظل على نهجه الديكتاتوري البحت بوجود حزب واحد يختصر عقيدة الأمة دون غيره، وكانت الكاثوليكية تمثل فيه الوعاء الثقافي للبلاد وجزءًا أساسيا من الهوية الإسبانية.
من ناحية ثانية، انتهج فرانكو سياسة خارجية تهدف للتقارب مع «الحلفاء» المنتصرين في الحرب، ولكن لبعض الوقت باءت كل محاولاته بالفشل. ومنذ اجتماع الثلاثة الكبار في «قمة بوتسدام» بألمانيا ودعوتهم للتغيير في إسبانيا بقي النظام السياسي على وضعه مقاومًا كل الضغوط الخارجية، وبخاصة البريطانية والأميركية، وازداد الوضع صعوبة عندما رفضت الأمم المتحدة عضوية إسبانيا وأصدرت توصية بسحب السفراء الأجانب من مدريد طالما بقي حكم فرانكو. ومع ذلك ظل النظام ثابتًا مقاومًا للضغوط الغربية حتى اندلاع «الحرب الباردة» بين المعسكرين الغربي والشرقي، عندما استغل فرانكو حاجة الغرب إليه من أجل ضم إسبانيا إلى الكتلة الغربية ضد الاتحاد السوفياتي. وفي نهاية المطاف اضطرت الولايات المتحدة لتقبّله أمرا واقعا، بل بدأ تقارب بين فرانكو وواشنطن إلى أن فرض الديكتاتور نفسه على السياسة الغربية تدريجيًا من خلال سياسة متوازنة وغير مستفزة للغرب، ومنها إصداره مرسومًا يقضي بأنه في حالة موته أو عجزه عن الاضطلاع بمهام وظيفته فإن الحكم في إسبانيا سيؤول إلى أسرة «البوربون» الملكية باعتبار أن فترة حكمه هدفها في النهاية وضع إسبانيا على الطريق الصحيحة، إضافة إلى إيمانه الشديد بالملكية.
لقد استطاع فرانكو أن يستميل واشنطن له ويدخل في تحالف معها لمواجهة الخطر الشيوعي على القارة الأوروبية، وهو ما بدأ يسمح لباقي أوروبا بتطبيع العلاقات معه، فلم تعد إسبانيا دولة «مارقة» على المستوى الأوروبي. وسرعان ما رفعت كل العقوبات ضدها في عام 1953 وانضمت إلى «خطة مارشال» التي حصلت بمقتضاها على دعم مالي مثل أي دولة أوروبية خارجة من الحرب العالمية الثانية. كذلك استطاع فرانكو بمرور السنوات إدخال إسبانيا ضمن الأسرة الأوروبية، بل إنه بحلول مطلع الستينات بدأت إسبانيا تستقبل الاستثمارات والسياحة الأوروبية، وهكذا استطاع أن يحافظ على حكمه ويطبّع العلاقات مع باقي الدول.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد تسلم فرانكو البلاد وهي في حالة مالية واقتصادية سيئة بعدما خرجت من الحرب الأهلية متفتتة الأوصال، وزاد من حدة المشكلات المرتبطة بذلك فرض الغرب العقوبات الدولية على بلاده. إلا أنه استطاع استغلال العقوبات بصفتها أداة لتقوية الاقتصاد الإسباني والاعتماد على الذات. وهكذا وضع فرانكو نظامًا كثيرًا ما يوصف في كتب الاقتصاد بـ«الأوتاركية» Autarky، أي «تحكم الدولة في المسيرة الاقتصادية بحيث تكون هذه الأنشطة تحت سيطرة الدولة». ومن ثم، نظم النشاط الاقتصادي في الدولة من خلال تنظيم العلاقة بين رأس المال والنقابات المختلفة عبر الحفاظ على علاقة متوازنة بين قطبي الإنتاج، كما فتح المجال أمام تكامل إسبانيا مع الاقتصاديات الأوروبية والتركيز على المزايا التنافسية لبلاده، وبخاصة في المجال الزراعي والصناعي، إلى أن حدث ما أطلق عليه «المعجزة الإسبانية». وبالفعل، حقق الاقتصاد الإسباني أعلى معدلات نمو وصلت لأعلى من 10 في المائة منافسة بذلك اليابان، كما أخذ يستغل السياحة تدريجيًا ويجعلها قاطرة أساسية للاقتصاد، قبل أن تتسبب أزمة البترول العالمية في 1973 إلى تراجع نسب النمو بشكل كبير.
ولكن مع مرور الزمن، كما هو شأن كل الديكتاتوريات، بدأ نظام فرانكو يدخل مرحلة الكهولة فالشيخوخة السياسية تدريجيًا وبخاصة في منتصف الستينات؛ إذ أخذت صحة الديكتاتور العجوز تضعف تدريجيًا، إلى أن دخل في غيبوبته الأخيرة وتوفي يوم 20 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1975. ولعل من مفارقات القدر أن تركة هذا الديكتاتور لبلاده كانت الديمقراطية متمثلة في الملك خوان كارلوس الذي خلفه (تنازل عن العرش لاحقًا عام 2014 لابنه الملك فيليبي). وفي عهد خوان كارلوس استعادت الديمقراطية بعد فشل التجربة مرارًا، ومع ذلك يظل تقييم فرانكو حتى اليوم مثار خلاف في إسبانيا ما بين مؤيد ومعارض.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.