«داعش» في المطارات

أصبحت مصايد لها على طريقة أحداث «شرم الشيخ» و«شارل ديغول» و«أتاتورك»

«داعش» في المطارات
TT

«داعش» في المطارات

«داعش» في المطارات

سلط الاعتداء الدامي الأخير الذي تعرض له مطار أتاتورك الدولي في مدينة إسطنبول، العاصمة الاقتصادية والثقافية لتركيا، وتوجيه أصابع الاتهام في المسؤولية عنه لتنظيم داعش الإرهابي المتطرف، الضوء على نقلة نوعية في إرهاب الجماعات الإرهابية المسلحة. وحسب مراقبين فإن المطارات باتت الآن هدفًا بالنسبة لهذه الجماعات وعلى رأسها «داعش»، ولا سيما، بعد عدة حوادث شهدتها أو ارتبطت بها مطارات عالمية بينها مطار شارل ديغول في العاصمة الفرنسية باريس ومطار بروكسل - زافينتيم الدولي في بلجيكا ومطار شرم الشيخ الدولي في شبه جزيرة سيناء المصرية.
«داعش في المطارات». ليست هذه صيحة إنذار أو جرس تنبيه في عملية أمنية افتراضية يتم التدريب عليها أو تصورها، وإنما أصبحت حقيقة ماثلة على الأرض، خاصة، بعدما غيّرت المنظمات المتطرفة، وفي مقدمتها تنظيم داعش الإرهابي الذي يعد اليوم أكثر التنظيمات المتطرفة نشاطا خلال الفترة الماضية، توجهاتها وتقنيات استراتيجيتها الإرهابية. والحال أن مطارات العالم أصبحت تمثل الآن «مصايد» جديدة تصطاد من خلالها جماعات العنف المزيد من الضحايا الأبرياء، لبث عنف أكثر، وتأكيد قدرتها على اختراق المطارات التي هي عادة من الأماكن الأكثر تأمينا في دول العالم.
خبراء أمنيون معنيون في هذا الشأن قالوا لـ«الشرق الأوسط» إن «استهداف المطارات الدولية لأنها أكثر الأماكن مثالية، وتضم الكثير من الجنسيات، وبالتالي وقوع عدد أكبر من الضحايا»، موضحين أن «استهداف المطارات من قبل تنظيم داعش تغير نوعي في تكتيكات الجماعات المتطرفة لإحداث «فرقعة إعلامية» وإثبات فشل سلطات الدول في مواجهة التنظيمات الإرهابية. وتابعوا أن العمليات الإرهابية التي تقع في أي مطار بالعالم دائمًا ما تتسبب بتأثيرات ممتدة إلى كل المجالات الاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لطبيعة المكان الذي يستخدمه أصحاب مختلف الوظائف والمهن، فخسائر البورصة تكون فورية، والخسائر في قطاع السياحة تظهر آثارها سريعا، والأمر نفسه يصدق على باقي المجالات الأخرى التي لها علاقة بالمطارات.
جانب آخر مهم، هو أن الجماعات الإرهابية تضمن عبر إجرائها أي عملية في مطارات العالم، اهتماما إعلاميا عالميا بالحادث على أوسع مدى، نظرا لتعدد الجنسيات التي تكون موجودة في المطارات، بخلاف أي مكان آخر يكون الاهتمام به على النطاق المحلي فقط. ولقد جدد التفجير الانتحاري الذي وقع في مطار إسطنبول - أتاتورك بتركيا قبل أيام، الحديث عن مخطط «داعش» الإرهابي الجديد لاستهداف المطارات، ومن المرجح أن يتبنى التنظيم مسؤوليته عن الهجوم الذي سقط فيه نحو 50 قتيلاً ونحو 147 من الجرحى وإن كان لم يفعل في الهجمات السابقة. إذ لم ينس العالم كله حادثة طائرة «مصر للطيران» التي أقلعت من مطار شارل ديغول في باريس وانفجرت في مياه البحر المتوسط قبل وصولها للقاهرة، وسط ترجيحات بتورط «داعش».

بصمات «داعش»
مراقبون حاورتهم «الشرق الأوسط» قالوا إن «هجوم مطار تركيا يحمل بصمات (داعش) بسبب الموقع الذي اختاره المسلحون لتنفيذ التفجيرات الانتحارية والأسلوب الذي اتبعوه، وطريقة تنسيق الهجوم باستخدام الأسلحة والمتفجرات، وهي طرق متعارف عليها عند الدواعش». ويشار إلى أن مطار أتاتورك، الواقع في ضواحي إسطنبول، يمثل نقطة التلاقي الرئيسية لنحو 30 مليون شخص يزورون تركيا كل عام، كما أنه أيضا المركز الرئيسي لشركة الخطوط الجوية التركية، وهي العلامة التجارية الدولية الأكبر للنقل الجوي في البلاد، ناهيك من أنه بوابة الأعمال التجارية في إسطنبول. وللعلم، عملية إسطنبول التي استهدفت ساحة انتظار السيارات المقابلة للباب الخلفي للمطار، جعلت الكثير من دول العالم تفقد الثقة في تأمين مطارات تركيا وقامت بإلغاء رحلاتها الجوية من وإلى مطار أتاتورك، وسط مخاوف من استهدافات أخرى بأماكن متجددة في العالم.
اللواء أحمد رجائي عطية مؤسس الفرقة 777 لمكافحة الإرهاب الدولي في مصر، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «استهداف المطارات من قبل جماعات العنف لكونها أكثر مثالية في الضجة الإعلامية والعالمية، ولأنها تضم الكثير من الجنسيات وتوقع ضحايا أكثر»، موضحا أن «استهداف المطارات من قبل تنظيم داعش يُعد تغيرا نوعيا في تكتيكات الجماعات المتطرفة». ويشار إلى أن المطارات من أكثر الأماكن المكلفة ماديا لأي دولة في العالم، نظرا لصعوبة إنشائها وحاجتها إلى تقنيات عالية، خاصة أن خدمة الطيران هي الأعلى في القيمة المادية ما بين كل وسائل النقل، لذا فإن أي خسارة تحدث في تلك الأماكن تُسفر عن خسائر فادحة، حتى وإن كان الانفجار أو العملية – التي قد تكون في الغالب انتحارية - محدودة التأثير، وذلك بسبب حساسية المكان، وطبيعة رواده. وعلى سبيل المثال فإن العمليتين الانتحاريتين اللتين وقعتا في مطار بروكسل - زافينتيم الدولي العاصمة البلجيكية بروكسل مارس (آذار) الماضي، وأسفرت عن وقوع 16 قتيلا، تسببت في خسائر مادية وصلت إلى مئات ملايين اليوروات، وذلك وفقا لتقارير غير رسمية.
من جهته، قال اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «حوادث الطرق عندما تحدث في العالم لا تكون مؤثرة إلا في المكان الذي وقعت فيه، وسرعان ما تدخل في (دائرة النسيان) بعدها بفترة قصيرة؛ لكن حوادث الطائرات تسمع العالم كله. والجماعات الإرهابية توجه رسالة إلى العالم مفادها أننا موجودون ونمثل خطرا عليكم ووصلنا لأماكن أكثر حساسية وتأمينا»، لافتا إلى أن «الجماعات المتطرفة تهدف من عملها الإرهابي بث مزيد من الرعب والفزع، ومحاولة تأكيد فشل سلطات الدول بالوقوف في وجهها، حتى تصدر مبدأ عدم الثقة من المواطنين في سلطات دولهم»، مضيفا أن «استهداف المطارات بتفجيرات يهدف إلى عمل (فرقعة) كبيرة لكون هذه المواقع هامة جدا للدول».
لكن اللواء نور الدين، أوضح أنه «لا يجب أن نتخوف من تصرفات الجماعات الإرهابية، وألا ترعبنا تصرفات هذه التنظيمات باستهداف المطارات، وأن تراجع الدول من وقت لآخر خطط تأمين مطاراتها، فضلا عن تطوير خط التدريب على مواجهة أساليب الجماعات الإرهابية.

اهتمام «داعش» بالمطارات
على صعيد آخر، يشار هنا إلى أن «داعش» لا تهدف فقط إلى استهداف المطارات والطائرات بعمليات تفجيرية؛ بل إنها تمتلك مجموعة صواريخ متوسطة المدى بالإضافة إلى منظومة كاملة للدفاع الجوي من راميات وصواريخ مختلفة الاستعمال. ولديها الكوادر الأجنبية المدربة على استعمال كل أنواع الطائرات وإطلاق الصواريخ، وما ينقصها هو بعض المطارات التي تنطلق منها. لذلك كان التوجه السريع لأفضل وحداتها البرية نحو مطارات المناطق التي تسيطر عليها في سوريا والعراق، فسقط بيدهم مطار الطبقة العسكري قرب الرقّة رغم مزاعم النظام السوري أنه كان يحاربهم بسلاح الجو، ويخطط التنظيم أو تتجه نحو مطار دير الزور العسكري الذي يحوي نحو 12 في المائة من القدرة الجوية للنظام السوري، وإذا ما سيطرت عليه سيكون بإمكانها خوض حرب حقيقية مع جميع خصومها بمن فيهم سلاح الجو الأميركي وقوى التحالف الدولي – بحسب الخبراء.
وكانت طائرة تابعة لشركة «مصر للطيران» في مصر قد تحطمت وهي في طريقها من مطار شارل ديغول الدولي في باريس إلى القاهرة، مما أسفر عن مقتل كل من كانوا على متنها وعددهم 66 شخصا، بينهم 30 مصريا، و15 فرنسيا. وما زال يرجح مسؤولون مصريون فرضية أن يكون العمل الإرهابي وراء تحطم الطائرة، وحال ثبوت هذه الفرضية بأن الطائرة المصرية تم تفخيخها قبل إقلاعها من باريس.. فهذا يعني أن المتفجرات مرت على أجهزة التفتيش دون اكتشافها وهذا مؤشر خطير، مؤكدين أنه «لو صح هذا التصور فهذا يؤكد وجود خلايا للتنظيمات الإرهابية موجودة في فرنسا منذ أحداث نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد اخترقت مطار شارل ديغول، المطار الأشهر في أوروبا، مما قد يُنذر باختراقات مماثلة في مطارات أخرى في المستقبل، مشيرين إلى أن ذلك قد يتسبب في شلل العالم، عبر تنفيذ سلسلة من الهجمات في أكثر من مطار، وفي توقيتات متزامنة.
الخبير الأمني والاستراتيجي في مصر اللواء طلعت مسلم، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك احتمالا قائما أن العالم الآن أمام تقنية جديدة للتنظيمات الإرهابية تُصعب على الأجهزة الأمنية الكشف عن العبوات أو المتفجرات في المطارات»؛ لافتا إلى أنه لو توصلت سلطات الدول إلى أن المطارات التي وقعت بها التفجيرات وراءها قنابل وعبوات يدوية، فهذا يعني أن العبوات الناسفة قد مرت على أجهزة التفتيش في المطارات دون أن يلحظها أحد، وهذا مؤشر خطير من أن هذه المتفجرات قد مرت من أجهزة التفتيش من دون أن يتم اكتشافها أو رؤيتها، وهذا يدل على تطور خطير للجماعات الإرهابية. ومن جهة ثانية، قال خبراء ومراقبون معنيون بشأن التنظيمات الإرهابية إن تنظيم داعش يمتلك أساليب تصنيع قنبلة الدخان، المسماة علميا «القنبلة المجهرية». وكان خبير المتفجرات بالتنظيم إبراهيم العسيري – بحسب مزاعم التنظيم - أمر باستخدامها حينما كلف النيجيري عمر فاروق بتفجير طائرة تابعة لـ«نورثويست إيرلاينز» أثناء هبوطها في مطار ديترويت بولاية ميتشيغان الأميركية، واستطاع الأخير اختراق المطار، نظرا لأنه من الصعب على أجهزة الكشف عن المعادن والمتفجرات رصدها؛ لكنه أخفق في تفجيرها، بعدما أبلغ عنه أحد زملائه.
وفي السياق نفسه، يرجح الخبير الأمني والاستراتيجي بمصر اللواء خالد عكاشة أن يكون وراء حادث الطائرة المصرية الأخير، بعض خلايا التنظيمات الإرهابية، التي قامت من قبل بتنفيذ عمليات كبيرة في العاصمة الفرنسية باريس خلال الأشهر الماضية، لافتا إلى أنه «ربما تكون هذه الخلايا لديها اختراق للمطار، رغم أنه المطار الأشهر في أوروبا، وإن صح هذا التصور، فهو أمر خطير». وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يصعب تصنيف مرتادي أي مطار في العالم، رغم وسائل التكنولوجيا الحديثة، فالطبيعي أن المطار يستقبل أشخاصا من كل جنسيات العالم، ويمكن لأي شخص غير مطلوب لجهات أمنية السفر إلى أي مكان؛ لذا يكون مستحيلا تحديد هوية هؤلاء المسافرين أو ميولهم. لكن بعض الخبراء أكدوا أن «بعض سلطات المطارات قد أجرت فحصا أمنيا روتينيا على أطقم الموظفين في المطارات، في أعقاب الحوادث الإرهابية التي شهدها عدد من المطارات مؤخرا، وفي باريس مثلا تم فصل 12 موظفا بسبب صلاتهم بالتيار ببعض الجماعات المتطرفة، وذلك في أعقاب أحداث نوفمبر من العام الماضي. ويقول مراقبون إن «داعش» استطاع خلال عام 2015 تطوير نوعية القنابل والتي من الممكن وضعها في الملابس الداخلية، والقدرة التفجيرية للقنبلة الواحدة قوية جدا.

تداعيات العمليات
وقال اللواء أحمد رجائي إن «داعش» يتحرك بحسب السياسة العالمية، لافتا إلى أن ما حدث في مطار شرم الشيخ مع الطائرة التي سقطت في سيناء كان معدا مسبقا أن تنفجر الطائرة على الأراضي المصرية، حيث إن الطائرة كانت قادمة لمصر من دون ركاب وقد يكون تم وضع القنبلة لها قبل وصولها لمصر، بدليل أنها بمجرد إقلاعها من مطار «شرم الشيخ» انفجرت، وكان هذا التوقيت معمول حسابه جيدا.
أما اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق، فيرى أن تأمين المطارات في مصر والعالم على أعلى مستوى، وهي مؤمنة وبها أخطر نظم التأمينات، وصعب جدا اختراق أي منها. بينما يرى المراقبون أن هناك مخاوف الآن في الغرب من قيام «داعش» بهجمات مُتلاحقة، خاصة بعد أن طور التنظيم من قدراته القتالية بشكل يتيح له شن هجمات إرهابية كبيرة على الصعيد العالمي، خاصة بعد تهديدات «داعش» الأخيرة للغربيين بتنفيذ هجمات قد تنسيهم أحداث 11 سبتمبر في أميركا – على حد زعم التنظيم. ويلفت المراقبون إلى أن «ما توعد به التنظيم ضد الغربيين عقب تفجيرات بروكسل في مارس الماضي، كان مُؤشرا خطيرا جدا، وكان يتطلب أكثر اكتراثا واهتماما لتطور أسلوب التنظيمات الإرهابية، خاصة (داعش) الأخطر دموية في جميع التنظيمات المُتطرفة».
في سياق آخر، يشكل اكتساب «داعش» قدرة على استهداف الطائرات تطورا مثيرا، بالنظر إلى دقة النظام الذي طوره والذي يصيب أهدافه من الطائرات بنسبة 99 في المائة، كما استطاع خبراء «داعش» أن يطوروا سيارات مفخخة بمثابة قنابل متحركة بالقرب من المطارات، لتوجيهها عن بعد صوب الهدف المراد تفجيره. ويقول المراقبون إن التنظيم أنتج بطارية حرارية في الرقة لأجل الاستخدام في صواريخ أرض - جو، وهو أمر لم يكن واردا، بالنظر إلى غياب بنية عسكرية في المناطق التي يسيطر عليها بسوريا. وأكد المراقبون أنه بشأن المتفجرات التي يستخدمها «داعش» في استهداف المطارات، فإن هذه القنابل لا تتطلب سوى بضع عشرات من الغرامات من المواد الكيماوية التي يُمكن وضعها في الأحذية، أو زرعها في جسم أحد الانتحاريين خصوصا في الصدر والبطن أو في الملابس، لتفادي أجهزة الكشف على المعادن في المطارات، بهدف تفجير تلك القنابل على متن طائرات الركاب.
ويؤكد المراقبون أن القنابل «الجسدية» لا تستطيع الماسحات الضوئية في مطارات الغرب اكتشافها، وأن تفجير تلك القنابل يتم باستخدام عملية جراحية تجرى للانتحاري، الذي يفجر نفسه، أو عن طريق إخفائها بأي وسيلة أخرى، ما يتسبب في النهاية بعملية حريق كبير، داخل الطائرة المستهدفة.
ويقول اللواء محمد نور الدين، إن تنظيم داعش الإرهابي يعتمد تكتيكا جديدا يقوم على استهداف المطارات والمنشآت الحيوية المكتظة بالبشر بشكل متزامن، بهدف نشر الذعر وإيقاع أكبر عدد من الضحايا.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.