«صدمة» هنا.. و«صدمة» هناك!

«صدمة» هنا.. و«صدمة» هناك!
TT

«صدمة» هنا.. و«صدمة» هناك!

«صدمة» هنا.. و«صدمة» هناك!

السعوديون في «صدمة»، والبريطانيون في «صدمة» أخرى. لكن ليست كل صدمة سيئة. بعض المجتمعات تحتاج إلى صدمات توقظ إحساسها بالذات، وتشعل الوعي بالمخاطر الكامنة، وربما أمكنها تحسس الطريق نحو الأحسن.
صدمة السعوديين كانت قوية ومحيرة، حين تجرأ شابان توأمان على قتل أمهما العجوز طعنًا بالسكاكين والسواطير، وإصابة والدهما وشقيقهما. لم تكن جريمة عادية تحدث بفعل تعاطي المخدرات أو نتيجة لمرض عصبي. وقعت الجريمة تحت دافع ديني وفكري متشدد. فالتوأمان اللذان وُصِفَا بأنهما ينتميان إلى فكر «داعش» تبرءا من أمهما وأبيهما، ثم أشهرا السكاكين والسواطير في وجهيهما. سبق هذه الجريمة وتلاها قيام متشددين بقتل أقاربهم أو حتى إخوانهم، لكن الوصول إلى الأم والأبّ كانت الصدمة الأشد عنفًا على ضمير المجتمع.
على وقع تلك الصدمة الدامية المرعبة التي وقعت في شهر رمضان، تساءل السعوديون: من المسؤول..؟، كيف نشأ هذا الفكر «الداعشي» المتطرف المشحون حقدًا وكراهية ونكرانًا للجميل؟، من المسؤول عن تغذية أبنائنا بهذا الفكر التدميري الذي يستبيح الدماء حتى الأبوين..؟. راح السعوديون في حماة الصدمة يفتشون عن السبب؛ أول المتهمين كانت «المناهج»، والنمط الفكري المتعصب وغير المتسامح الذي يتلقاه الشباب من المدرسة والمسجد والبيت والشارع ووسائل الإعلام. وصولاً لتفتيش الكتب والفتاوى القديمة المحرضة على القتل والكراهية.
آخرون أقاموا حائط دفاع لمنع الولوج إلى ما يعتبرونه ثوابت ومسلمات. وقاموا بحفر الخنادق حول الحصون الفكرية التي يحرسونها لمنع التسلل إليها أو كشف ثغراتها. لكنّ مجرد نقد الذات ونقد الفكر والثقافة التي نحملها ونزع رداء القداسة عنها أمرٌ في غاية الأهمية، وطريق ضروري للإصلاح، جريمة التوأمين «الداعشيين» جعلت الجميع يعرف خطورة التكفير والتحريض على العنف والكراهية، وإلى أين يمكن أن يصل بالدولة والمجتمع.
في نفس الأسبوع، أصيب البريطانيون بصدمة مختلفة، حين أدى الاستفتاء إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقعت نتيجة الاستفتاء على بريطانيا كالصاعقة، «كأن من صوتوا لصالح هذا الخيار لم يتوقعوا بل لم يريدوا أن يحدث ذلك»، على حد تعبير الـ«صنداي تايمز». صُدِمَ البريطانيون حين اكتشفوا أن حفنة من عجائزهم ومتقاعديهم فرضوا رؤيتهم على الشباب وحددوا مصير مستقبلهم. أظهر التصويت أن الفئات العمرية من 50 حتى 64 كانت الأكثر تصويتًا لصالح الخروج من الاتحاد على حساب الشباب الذين يملكون عمرًا أطول لمواجهة ثمرات هذا الخيار. أصيب الشباب بالخيبة، لأن كبار السنّ غلبوا هواجسهم ومخاوفهم من تأثيرات الهجرة القادمة من بلدان مثل بولندا ورومانيا وبلغاريا على الطبيعة الديمغرافية لمجتمع كان في الأساس يستعمر أكثر من نصف الكرة الأرضية.
عشية إعلان النتائج استيقظ البريطانيون على صدمة الحقيقة بأنهم ليس فقط سيكونون معزولين في أوروبا، بل أن بلادهم العريقة مهددة بالانقسام والتفكك. على الصعيد الفكري طرح الاستفتاء السؤال عن جدوى الشارع، الحامل الرئيسي للنظام الديمقراطي. صحيفة «الإندبندنت»، قالت إن «خروج بريطانيا يذكرنا بأن بعض القرارات يجب أن لا تقرر من قبل الشارع».
في كتابه المهم «سيكولوجية الجماهير» الصادر عام 1895 يصف المؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع الشهير جوستاف لوبون الجماهير في بعض صورها بالكثرة اللاواعية والعنيفة والبربرية، والتي يتم على يدها الانحلال النهائي لعصر ما، أو مجتمع ما، بعد أن تفقد القوى الأخلاقية أو الهياكل الرسمية التي تحكم، زمام المبادرة من يدها. بدت بريطانيا تحت تأثير التجييش العاطفي الانفعالي، وبدا هذا الشعب العريق بقيمه الديمقراطية كأي شعب آخر يمكن التأثير عليه حيث – كما يقول لوبون: «لا شيء مدروس لدى الجماهير، فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، وذلك تحت تأثير المحرضات السائدة».
ما يجمع الصدمتين أنهما طرحا السؤال الأهم: أين نحن وإلى أين نتجه؟



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.