دمشق ذات مساء رمضاني حار.. «في البيت خنقة وفي السوق حرقة»

العامة بالكاد يتفرجون وأثرياء الحرب الجدد يمتلكون القدرة الشرائية

شباب من محافظة درعا جنوب سوريا يبحثون عن تبريد أنفسهم من حرارة الصيف في نهر جلين أول من أمس (رويترز)
شباب من محافظة درعا جنوب سوريا يبحثون عن تبريد أنفسهم من حرارة الصيف في نهر جلين أول من أمس (رويترز)
TT

دمشق ذات مساء رمضاني حار.. «في البيت خنقة وفي السوق حرقة»

شباب من محافظة درعا جنوب سوريا يبحثون عن تبريد أنفسهم من حرارة الصيف في نهر جلين أول من أمس (رويترز)
شباب من محافظة درعا جنوب سوريا يبحثون عن تبريد أنفسهم من حرارة الصيف في نهر جلين أول من أمس (رويترز)

ما إن ينتهي وقت الإفطار ويحين موعد صلاة التراويح حتى يخرج سكان دمشق إلى الشوارع بحثًا عن نسمة هواء رطبة تلطف موجة الحر اللاهبة، التي تجتاح البلاد منذ عدة أيام، وتحرم الناس من النوم في ظل انقطاع الكهرباء وغياب وسائل التبريد الكهربائية. وتعود الأسواق لتفتح أبوابها أملاً في انتعاش حركة البيع التي دخلت في غيبوبة مع بداية شهر رمضان، جراء موجة ارتفاع أسعار عالية، على خلفية قرار حكومة تسيير الأعمال برفع أسعار المحروقات.
العشر الأخيرة من رمضان في دمشق: صخب اختناقات مرورية، الناس زرافات تسير بتباطؤ على الأرصفة، غالبيتهم نساء يتفرجن على واجهات محلات الألبسة التي تبدأ بالإضاءة تباعًا مع اقتراب الساعة من العاشرة ليلاً، بالتزامن مع خروج المصلين من صلاة التراويح مثقلين بأعباء حرب لا تبقي ولا تذر، فلا تعرفهم مهمومين بسبب فقد أحبة أو لضيق ذات اليد، أم أعيتهم حرارة تجاوزت 40 درجة مئوية. سيارات إسعاف تطلق أبواقها لتجاوز الازدحام عند الحواجز باتجاه أقرب مشفى قد تقل جنودًا مصابين من جبهات القتال بمحيط العاصمة، أو مريضًا أنهكته موجة الحرّ فتذكر القدر أمانته وجاء يأخذها، وفي الخلفية أصوات قصف مدفعي متقطع من جبل قاسيون لا تعرف وجهته، ويبدو زائرًا ثقيلاً في أيام هدنة هيمنت عليها الخروقات، أصوات انفجارات عميقة مقبلة من الريف الغربي، حيث تتواصل المعارك وهطول البراميل المتفجرة، فيما تواصل الأخبار تواردها من محطات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي عن مجازر في مناطق عدة من البلاد.
الطيران الحربي الروسي والسوري يقصف ريف دير الزور وأكثر من مائة ضحية في بلدة القورية معظمهم من الأطفال، وأنباء عن استخدام سلاح الجو الروسي أسلحة فوسفورية محرمة في أرياف حلب وإدلب ودير الزور. تسريبات عن تشكيلة الحكومة الجديدة مطعمة بمعارضين مرضي عنهم من قبل النظام، كالشيوعي فاتح جاموس والناصري محمود مرعي. لكن لا أحد يهتم، فالوزير أمير العتمة (وزير الكهرباء السابق عماد خميس) كلف بتشكيل الحكومة وسيحرم السوريين كل شيء وليست الكهرباء فقط. وعجلة ما تشبه الحياة لا تزال تتحرك في شوارع دمشق نحو أقدار مجهولة، تدفع حركتها موجة حر قاتلة بعد يوم صيام مضنٍ، فتمتلئ المطاعم المتوسطة والصغيرة ودكاكين العصير والآيس كريم بالناس لشراء الأرخص ثمنًا، من طيبات الشام التي كانت لسنوات خلت تتدفق بسخاء على الفقير قبل الغني. عساكر تشويهم شمس بعرقهم وقد سئموا تفتيش مئات السيارات يوميًا، فجلسوا يتكئون على بنادقهم يراقبون الطيور في أقفاص علقت إلى جانب الحواجز مع زرع وأزهار، وأريكة كانت فاخرة منهوبة من مناطق الحرب، كأن الحواجز بيوتهم المستقرة إلى أجل غير مسمى. وعساكر آخرون يروّحون عن أنفسهم باللغو مع فتيات عابرات قذفت بهن الحرب إلى الشوارع يتيمات، حيث لا رحمة ولا شفقة. متسولون فيهم المشرد من بيته وجار عليه الزمن، وفيهم المنظم في عصابة تحترف التسول، والجميع إلى جانب بعضهم بعضًا على أرصفة ليالي دمشق الحزينة.
سامر وكان معه أقرباؤه من 6 أشخاص قصدوا مقهى في مول تجاري بدمشق لقضاء بعض الوقت قبل السحور، يقول: «هي المرة الأولى التي نخرج فيها من البيت خلال شهر رمضان الذي ننتظره بفارغ الصبر لتخلص قليلاً من حالة الكآبة التي تخيم على حياتنا.
في المقهى حاولنا أن نقتصد قدر الإمكان ولم نطلب سوى العصير، إلا أن الفاتورة فاجأتنا كانت نحو 12 ألف ليرة سوريا، وتفاصيلها كانت أكثر مفاجأة، إذ وضع على الطاولة دون أن نطلبه، صحن مسليات رمضانية من أرخص أنواع السكاكر السورية، أي أن ثمنه الحقيقي لا يتجاوز 500 ليرة، إلا أنه في الفاتورة كان ثمنه 3500 ليرة، إضافة إلى رسم الإنفاق الاستهلاكي ورسم إعادة الإعمار ورسم الإدارة المحلية. في الحقيقة ثلث المبلغ كان عبارة عن سرقة مقننة». والذي يحز في قلب سامر ورفاقه رؤيته العشرات من رواد تلك الأماكن ينفقون أموالاً طائلة. يقول: «في الوقت الذي نزداد فيه كسوريين عمومًا فقرًا وقهرًا، هناك فئة من السوريين تزداد فحشًا وثراء». ويقصد سامر بكلامه الطبقة الجديدة من السوريين التي نشأت على هامش الأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، «وتحاول أن تجد مكانًا لها ضمن طبقة أثرياء الحرب دون أن تمتلك أي مقومات سوى القدرة على التشبيح».
أما دارين، وهي أم لثلاثة أولاد وتنتظر لم شملها وشملهم مع زوجها الذي هاجر إلى ألمانيا قبل عامين، فتلخص الوضع بقولها: «في البيت خنقة وفي السوق حرقة». وتضيف: «خلال النهار صيام والأولاد محبوسون في البيت بسبب الحرارة المرتفعة، وفي المساء أخرج معهم إلى الحديقة لأني أخشى عليهم من أولاد الحرام وصاروا كثرًا». وتشير إلى أنها تجلب المأكولات الخفيفة معها من البيت، لأنها غير قادرة على تلبية طلبات الأولاد من عصائر وآيس كريم وخبز ناعم، فملعقة واحدة من الآيس كريم 100 ليرة، وتسع ملاعق بألف ليرة، وهكذا.
ويعبر رامز صاحب محل أحذية في الصالحية عن تفاؤله بعودة الحركة إلى شوارع دمشق بعد الساعة العاشرة ليلاً، ويعتبر هذا طبيعيًا بعد منتصف شهر رمضان المبارك و«هذا العام تأخرت الحركة بسبب ارتفاع الأسعار، إلا أن موجة الحر أجبرت الناس على الخروج إلى الأماكن العامة، ومع أنه خروج لا يؤتي ثماره من حيث حجم الشراء والاستهلاك، فإنه أفضل من عدمه».



انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
TT

انخفاض شديد في مستويات دخل الأسر بمناطق الحوثيين

فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)
فتاة في مخيم مؤقت للنازحين اليمنيين جنوب الحُديدة في 4 يناير الحالي (أ.ف.ب)

بموازاة استمرار الجماعة الحوثية في تصعيد هجماتها على إسرائيل، واستهداف الملاحة في البحر الأحمر، وتراجع قدرات المواني؛ نتيجة الردِّ على تلك الهجمات، أظهرت بيانات حديثة وزَّعتها الأمم المتحدة تراجعَ مستوى الدخل الرئيسي لثُلثَي اليمنيين خلال الشهر الأخير من عام 2024 مقارنة بالشهر الذي سبقه، لكن هذا الانخفاض كان شديداً في مناطق سيطرة الجماعة المدعومة من إيران.

ووفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، فقد واجهت العمالة المؤقتة خارج المزارع تحديات؛ بسبب طقس الشتاء البارد، ونتيجة لذلك، أفاد 65 في المائة من الأسر التي شملها الاستطلاع بانخفاض في دخلها الرئيسي مقارنة بشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي والفترة نفسها من العام الماضي، وأكد أن هذا الانخفاض كان شديداً بشكل غير متناسب في مناطق الحوثيين.

وطبقاً لهذه البيانات، فإن انعدام الأمن الغذائي لم يتغيَّر في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية، بينما انخفض بشكل طفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين؛ نتيجة استئناف توزيع المساعدات الغذائية هناك.

الوضع الإنساني في مناطق الحوثيين لا يزال مزرياً (الأمم المتحدة)

وأظهرت مؤشرات نتائج انعدام الأمن الغذائي هناك انخفاضاً طفيفاً في صنعاء مقارنة بالشهر السابق، وعلى وجه التحديد، انخفض الاستهلاك غير الكافي للغذاء من 46.9 في المائة في نوفمبر إلى 43 في المائة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وضع متدهور

على النقيض من ذلك، ظلَّ انعدام الأمن الغذائي في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية دون تغيير إلى حد كبير، حيث ظلَّ الاستهلاك غير الكافي للغذاء عند مستوى مرتفع بلغ 52 في المائة، مما يشير إلى أن نحو أسرة واحدة من كل أسرتين في تلك المناطق تعاني من انعدام الأمن الغذائي.

ونبّه المكتب الأممي إلى أنه وعلى الرغم من التحسُّن الطفيف في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، فإن الوضع لا يزال مزرياً، على غرار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، حيث يعاني نحو نصف الأسر من انعدام الأمن الغذائي (20 في المائية من السكان) مع حرمان شديد من الغذاء، كما يتضح من درجة استهلاك الغذاء.

نصف الأسر اليمنية يعاني من انعدام الأمن الغذائي في مختلف المحافظات (إعلام محلي)

وبحسب هذه البيانات، لم يتمكَّن دخل الأسر من مواكبة ارتفاع تكاليف سلال الغذاء الدنيا، مما أدى إلى تآكل القدرة الشرائية، حيث أفاد نحو ربع الأسر التي شملها الاستطلاع في مناطق الحكومة بارتفاع أسعار المواد الغذائية كصدمة كبرى، مما يؤكد ارتفاع أسعار المواد الغذائية الاسمية بشكل مستمر في هذه المناطق.

وذكر المكتب الأممي أنه وبعد ذروة الدخول الزراعية خلال موسم الحصاد في أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر، الماضيين، شهد شهر ديسمبر أنشطةً زراعيةً محدودةً، مما قلل من فرص العمل في المزارع.

ولا يتوقع المكتب المسؤول عن تنسيق العمليات الإنسانية في اليمن حدوث تحسُّن كبير في ملف انعدام الأمن الغذائي خلال الشهرين المقبلين، بل رجّح أن يزداد الوضع سوءاً مع التقدم في الموسم.

وقال إن هذا التوقع يستمر ما لم يتم توسيع نطاق المساعدات الإنسانية المستهدفة في المناطق الأكثر عرضة لانعدام الأمن الغذائي الشديد.

تحديات هائلة

بدوره، أكد المكتب الإنمائي للأمم المتحدة أن اليمن استمرَّ في مواجهة تحديات إنسانية هائلة خلال عام 2024؛ نتيجة للصراع المسلح والكوارث الطبيعية الناجمة عن تغير المناخ.

وذكر أن التقديرات تشير إلى نزوح 531 ألف شخص منذ بداية عام 2024، منهم 93 في المائة (492877 فرداً) نزحوا بسبب الأزمات المرتبطة بالمناخ، بينما نزح 7 في المائة (38129 فرداً) بسبب الصراع المسلح.

نحو مليون يمني تضرروا جراء الفيضانات منتصف العام الماضي (الأمم المتحدة)

ولعبت آلية الاستجابة السريعة متعددة القطاعات التابعة للأمم المتحدة، بقيادة صندوق الأمم المتحدة للسكان، وبالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي و«اليونيسيف» وشركاء إنسانيين آخرين، دوراً محورياً في معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة الناتجة عن هذه الأزمات، وتوفير المساعدة الفورية المنقذة للحياة للأشخاص المتضررين.

وطوال عام 2024، وصلت آلية الاستجابة السريعة إلى 463204 أفراد، يمثلون 87 في المائة من المسجلين للحصول على المساعدة في 21 محافظة يمنية، بمَن في ذلك الفئات الأكثر ضعفاً، الذين كان 22 في المائة منهم من الأسر التي تعولها نساء، و21 في المائة من كبار السن، و10 في المائة من ذوي الإعاقة.

وبالإضافة إلى ذلك، تقول البيانات الأممية إن آلية الاستجابة السريعة في اليمن تسهم في تعزيز التنسيق وكفاءة تقديم المساعدات من خلال المشاركة النشطة للبيانات التي تم جمعها من خلال عملية الآلية وتقييم الاحتياجات.