«الذئاب المنفردة».. ضريبة الأصولية على الإنترنت

من أورلاندو إلى مونت لا جولي

«الذئاب المنفردة».. ضريبة الأصولية على الإنترنت
TT

«الذئاب المنفردة».. ضريبة الأصولية على الإنترنت

«الذئاب المنفردة».. ضريبة الأصولية على الإنترنت

فجع العالم أخيرًا بالحادث الأليم الذي وقع في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأميركية، عندما أقدم شخص اسمه عمر متين، ينتمي إلى ما بات يُعرف آيديولوجيًا وحركيًا باسم «الذئاب المنفردة» بفتح نيران أسلحته الآلية على بعض من الشباب الأميركي داخل أحد ملاهي المدينة، التي تجمع المثليين جنسيًا.
والمؤكد أن الحادث على بشاعته يحمل لنا بعدا آخر مغايرا للأبعاد الإرهابية التقليدية، ويتصل بشخصية القاتل هنا. فهو لم يكن أحد أفراد خلية عنقودية تنتمي إلى تنظيمين معروفين مثل «داعش» أو «القاعدة»، ولم يتلقَّ تدريبات عسكرية في تورا بورا بأفغانستان، بل إنه من مواليد مدينة نيويورك الأميركية الشهيرة، ذات المقدرة الكبيرة والواضحة على دمج المهاجرين من مختلف الملل والنحل والطوائف والأعراق. وعليه، بات السؤال «هل أصبحنا أمام ظاهرة انتشار للأصولية التي تتجاوز الحدود الجغرافية أو السدود البشرية...أصولية تستغل أدوات التكنولوجية الحديثة ووسائط التواصل الاجتماعي، لتجعل من العالم كما نعرفه رقعة ملتهبة، تعيش تحت التهديدات الإرهابية لمنظمات إرهابية تعمل على تجنيد البشر، دون شرط أو شروط العمل الجماعي التقليدي، أي وجود رأس منظم ومساعدين، وخطط لوجستية، ومساعدات عملانية لتنفيذ أي عمل كحادثة أورلاندو؟».

في أعقاب جريمة عمر متين في أورلاندو، أعرب مدير مكتب التحقيقات الاتحادي (FBI) جيمس كومي، عن اقتناعه بأن الجاني «اعتنق التطرف عبر الإنترنت». وأشار إلى أن هناك مؤشرات تطرف قوية لديه، وتأثرا محتملا بمنظمات إرهابية أجنبية، في إشارة لا تخطئها العين لـ«داعش» وإخوانه، ولا سيما، أن هذا التنظيم المتطرف سارع إلى إصدار بيان وصفت فيه القاتل بأنه «أحد جنود الخلافة». وقد لا يكون عمر متين، بالفعل، جنديا منتظمًا في الصفوف الحركية لـ«داعش»، غير أنه يبقى منتسبا في كل الأحوال، وآية ذلك اتصاله الهاتفي بالشرطة الأميركية لحظة وقوع الجريمة، وإقراراه رسميا بهذا الانتماء، خلال حديثه مع خدمة الطوارئ الأميركية علي الرقم الشهير (911).
لم تكن حادثة عمر متين هي الأولى التي يقوم بها شخص ما من أصحاب الانتماء عن بعد من جماعة «الذئاب المنفردة»؛ إذ سبقه إلى ذلك سيد فاروق وزوجته تاشفين مالك في سان برناردينو، بولاية كاليفورنيا؛ ما يعني أن الأمر مرشح لأن يكون ظاهرة شديدة الخطورة والوعورة، بسبب استحالة توقع ما سيحصل مستقبلا من قبل أطراف ينتمون فكريًا وذهنيًا لأصوليات ضاربة جذورها في التعصب والتشدّد عطفا على الكراهية.
ومن أورلاندو الحزينة في الولايات المتحدة، إلى أوروبا، حيث فرنسا المنكوبة من جديد، تشهد جريمة مروعة؛ إذ ارتكب العروسي عبد الله في محيط مدينة مانت لا جولي القريبة من العاصمة باريس جريمة قتل شرطي فرنسي رفيع الرتبة وصديقته. والمثير، بل العجيب، الذي يعد سابقة مروعة هي إقدامه على بث جريمته مباشرة على الهواء عبر موقع «فيسبوك» بهدف ترويع الآمنين من الذين سيقدّر لهم رؤية هذا العمل الإجرامي عن بعد. ولقد عاين بعض المتخصصين في شؤون الحركات المتطرفة التسجيل المصوّر للعروسي، ونقلوا بعضا من مشاهداتهم وردود أفعالهم التي اتسمت بخوف بالغ من أن يكون الأمر بداية لتقنية جديدة تواكب العمليات الإرهابية، أي تقنية البث المباشر عبر الأثير في التو واللحظة، وهذه مسألة كارثية بلا شك.
قبل أورلاندو ومانت لا جولي، شهدنا في مطار ومترو العاصمة البلجيكية والأوروبية بروكسل حادثين مشابهين، نفذهما نفر قليل من تلك «الذئاب». وفي تحذيرات لأجهزة استخبارية، نقرأ عن مشهد كارثي - إرهابي عولمي، يتصل بوجود عدد وافر من الإرهابيين على دراية عالية بالتقنيات الحديثة المرشحة للاستخدام في عمليات إرهابية جديدة، على الأراضي الأوروبية خاصة.
نحن إذن أمام ظاهرتين متصلتين: أفراد تتملكهم أفكار من بعيد جغرافيًا ومن القرب القريب ذهنيًا وقلبيًا، ثم براعة هؤلاء في تسخير أدوات التكنولوجيا الحديثة لتدبير مخططاتهم الآثمة وإخراجها إلى حيّز الواقع.
ولقد جاءت حادثة أورلاندو الأخيرة لتضع الأميركيين، والعالم برمّته، أمام استحقاقات جديدة لأفراد لا يقيمون مكانيًا أو زمانيًا في دول يسيطر عليها تنظيم داعش، بل ينتشرون في كل البقاع والأصقاع، وعبر الأفكار المنتشرة التي يروجها «داعش» يحدث الالتقاء الفكري والنفسي، وتحدّث عملية «التطوع الذاتي» دون الحاجة إلى أداء القسم، كما كان الحال في عهد الجماعات السرية المتباينة التي عرفتها البشرية في العهود الماضية.
والثابت أنه حال حدوث «التجنيد الذاتي» عبر الإنترنت تحديدًا، يضحّي الباقي من أعمال الفتك والقتل يسيرا، ولا سيما في ظل إمكانية الحصول على أسلحة بسهولة في مجتمع كالمجتمع الأميركي، حيث مسألة حمل السلاح «ثقافة محلية» وكامنة في جذور النفس الأميركية. كما أن الدستور الأميركي لا يجرّمه، بل يعطي الحق للبعض في عدد من الولايات بحمله، أو عن طريق الاستعانة بما هو قائم من معلومات على الشبكة العنكبوتية لإعداد أسلحة تتراوح منا بين المتفجرات البدائية، وصولاً إلى القنبلة النووية، نظريًا، في حال وجدت المواد اللازمة لذلك.
كارثية «الذئاب المنفردة» تتصل بالصعوبة الكبيرة جدًا في تتبعهم ومراقبتهم، والتعاطي معهم بقوة القانون، وبمواده وبنوده. وبخاصة أنه لا توجد مواد قانونية ما تدين النوايا غير المعروفة، أو تستطيع تشخيصها والحد منها. وقد يحاجج البعض هنا بأن الأمر على هذا النحو يعود إلى مهارة «داعش» في تجنيد عناصره النائمة، وتحديد أهدافه بدقة، واختيار أماكن عملياته بمهارة لوجستية، ويحرص على أن تكون تلك العناصر من الخلايا غير المرصودة أمنيًا، والتي لديها ولاء وانتماء آيديولوجي لأفكار التنظيم الواردة في كتاب «إدارة التوحش»، الذي ينهل منه «الدواعش» جوانب كثيرة من معتقداتهم ويقع في 113 صفحة ضمّنها الكتاب ستة مباحث و10 فصول ومجموعة من المقالات.
ويذهب البعض الآخر، مثل مسؤول أمني سابق في مدينة سياتل الأميركية، إلى «أن السبب الرئيس وراء الإخفاق في إفشال حادث أورلاندو قبل حدوثه وقطع الطريق على عمر متين ومذبحته، يتصل بما يعرف قانونيًا بـ(السبب المحتمل) لفتح تحقيق كامل نص عليه التعديل الرابع في الدستور الأميركي»، ويعد السبب المحتمل معتقدًا قائمًا على حقائق تؤدي بأي شخص عادي إلى الاعتقاد بأن شخصا ما قد اقترف أو يعتزم ارتكاب جريمة، وهو المعيار الذي يجري من خلاله الحصول على كل صلاحيات الشرطة في الولايات المتحدة.
والمؤكد في كل الأحوال، أن غالبية من ارتكبوا هجمات إرهابية في الغرب خلال السنوات الأخيرة كانوا خاضعين للمراقبة والاستجواب، ومنهم عمر متين الذي خضع للاستجواب بسبب إدلائه بآراء مؤيدة للمتطرفين، وجرى وضعه رهن الاعتقال، لكنه أفرج عنه لاحقًا. والقصة ذاتها تكرّرت مع الأخوين البكراوي منفذي هجمات بروكسل في مارس (آذار) الماضي، ومن قبل مع «خلية باريس» صلاح عبد السلام وصديقه عبد الحميد أبا عود، وقد كانا معروفين لأجهزة الاستخبارات الأوروبية.
وبناءً عليه، هنا منازلة خطيرة بين العناصر الإرهابية وبين أجهزة الأمن حول العالم؛ إذ يستغل «داعش» وأخواته العالم الافتراضي والفضاء الإلكتروني من أجل الترويج لأفكاره لجذب أعضاء جدد، ومضاعفة المنتمين إليه. وساهم في نجاح ذلك صعوبة المتابعة الدقيقة واللصيقة لملايين الملايين من متابعين الإنترنت، بعدما وجد التنظيم عبرها «كعب أخيل» الذي مكنه من نشر أفكاره بين شباب الشرق والغرب على حد سواء. والحقيقة أن هناك من غير الأسوياء كثيرين أعجبتهم أفكار التنظيم، فقرروا الانضمام إليه جسديًا، أو الانضواء تحت لوائه روحيًا.
ولا يكتفي «داعش» بالبيانات السريعة التي يصدرها بعد كل عملية، بل يبدو أن هناك عقليات ضمن التنظيم تجيد إلى حد بعيد التعاطي مع العالم الخارجي إعلاميًا، وبث ما تريد له أن ينتشر عبر الصورة والكلمة والتسجيل بالصوت والصورة، وحديثًا بالبث المباشر. وخذ، على سبيل المثال، مجلة «دابق» التي يصدرها التنظيم، وعليك بالتمعن في قراءة سطورها، وتحليل وتفكيك فصولها، وساعتها ستدرك كيف تخاطب صورها العالم الغربي.
عندما يرفع راية «داعش» فوق المسلّة الشهيرة في ميدان الفاتيكان، وعندما ترسم السيف وتصرّ على أن «الإسلام دين السيف لا دين السلام».. إلى آخر الترويج الدعائي الذي صار يجيده، ويحاول الربط بين الصورة والهدف.
«داعش» استفاد من تجربة تنظيم «القاعدة» الذي حافظ على نشاط شبكاته على شبكة الإنترنت منذ عقدين أو يزيد، ليطور تقنيات تواصل أكثر تنسيقًا وتواصلاً؛ وهو ما جعل الخبير في قضايا الإرهاب الرقمي جيف باردين يخلص إلى أن «داعش» يجند شهريا أكثر من 3400 عنصر عبر حملات إلكترونية.
هذا، وبينما تنكبّ استخبارات دول غربية على تحليل المعطيات الخاصة بأعضاء مجموعات راديكالية إرهابية وفك خيوط عملياتها والاندساس داخلها بشكل يسمح بتفكيك مكوناتها، تبرع «الذئاب المنفردة» في التعاطي مع أدوات وأفكار حديثة، يكون من الصعوبة بمكان توقّعها. فمن كانت قريحته تجود – كما في حال «القاعدة» – بفكرة جهنمية كاستخدام الطائرات للاصطدام بناطحات السحاب في نيويورك أو قصف واشنطن؟
كذلك الأمر في حال «داعش»، فمن كان له أن يتصور استخدام ألعاب الـ«بلايستيشن» في تدبير هجمات باريس، وتواصل منفذيها فيما بينهم، والتخطيط للعملية المعقدة من دون أن تكتشفهم السلطات الفرنسية. وبحسب مجلة «فوربس» الأميركية الشهيرة، فإنه من المرجّح أن يكون جهاز «بلايستيشن 4» هو الوسيلة التي وفّرت الكثير من الطرق للتواصل بين المنفذين بسرية تامة، ومنها تبادل الرسائل بين اللاعبين. وربما لم يتبادل المنفذون رسائل مكتوبة أو مسجلة صوتيًا، بل تبادلوا رسائل سرية عبر ألعاب بعينها. ويرجع الخبراء أن تكون لعبة «سوبر ماريو» التي يجري فيها تبادل العملات ضمن قواعد اللعبة مع صديق آخر قد استخدمت شيفرةً في الكثير من العمليات التي وقعت في أوروبا أخيرًا.
ويمكن القول: إن «داعش» يحاول في تطويعه أدوات العصر أن يحاكي نسقًا أميركيًا؛ ذلك أن هوليوود وشاشاتها، كانت وما زالت جزءًا فاعلاً من أدوات الهيمنة والسيطرة على العالم. وعليه، فإن من يتابع الأفلام المصوّرة، التي يصدّرها «داعش» للعالم سيدرك تمام الإدراك ما نقول به، وإن كان ذلك لا يعني عدم اعتمادها بدرجة أكبر على الشبكة المعلوماتية. وهو ما جرى في أعقاب حادث أورلاندو الأخير؛ إذ نشرت حسابات تابعة لمناصري «داعش» صورًا تحمل المزيد بالتهديدات بعمليات إرهابية في أوروبا وأميركا، إحداها مع صورة كبيرة لعمر متين تقول: «اليوم في فلوريدا وغدا في برلين» و«اعلموا أن في عقر دار الصليبين المحاربين لا عصمة للدماء، ولا وجود لما يسمى بالأبرياء» و«الطريق إلى أميركا... حينما يتضح الأمر ويصل رجالنا إلى قلب واشنطن سيعلم المغفّل (الرئيس باراك) أوباما من يقاتل وكيف يقاتل، فالمعركة لم تبدأ بعد». أما الإمضاء فلوزارة الحرب - دولة الإسلام.
إنها معركة الصورة النفسية التي يسخّر فيها «داعش» الأدوات الأميركية الدعائية والتكنولوجية، تحديدًا، للتعاطي مع الغرب برمته، بمعنى «هذه بضاعتكم ردت إليكم!».
ثم يحدثنا البعض عن دور إدوار سنودن، عميل وكالة الأمن القومي الأميركي المنشق، وإن بطريق غير مباشر، في تعزيز قدرات «داعش» و«القاعدة» وغيرها من الجماعات المتطرفة، على التعاطي مع الإنترنت من دون أن تستطيع أجهزة الاستخبارات العالمية متابعته. وهو تحدث عن برمجيات جديدة منها برنامج «تايلز» الذي يكفل التخفي خلال نشر مواد معينة على الشبكة ويمنع اختراق أجهزة المستخدم. ولقد أرسل «داعش» وثيقة لمناصريه في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 تحوي رسومًا تفصيلية عن البرنامج وتطبيقاته للاستفادة بها في تجنيد عناصر جدد ولتنفيذ ما هو آت من أعمال عدائية.
جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، قال أمام «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك، وهو أحد أهم المراكز البحثية الأميركية، إن وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من الوسائل التكنولوجية: «جعلت من الصعب بدرجة كبيرة محاربة المتشددين الذين يستخدمون هذه التقنيات الحديثة لتبادل المعلومات وتنفيذ العمليات الإرهابية».
إلا أن هذا لم يمنع من أن تشنّ واشنطن حربًا شعواء في المقابل، من النوع نفسه ولكن في اتجاه مضاد. ذلك أن الجنرال الأميركي بيتر غيرستن أعلن في نهايات أبريل (نيسان) الماضي استخدام الجيش الأميركي قدرات إلكترونية هائلة في المعركة ضد «داعش». وتفيد المعلومات المتوافرة بأن الولايات المتحدة تشكل اليوم قوة قوامها نحو ستة آلاف جندي متخصّص في الحرب المعلوماتية، وضعت في الوقت الحاضر تحت سلطة الأميرال مايكل روجرز، رئيس وكالة الأمن القومي (NSA)، وهي وكالة الاستخبارات النافذة والسرية، بل المغرقة في سريتها والمكلفة التجسس الإلكتروني على العالم كله.
غير أن هناك معضلة ما في فهم التناقض الحاد في تصريحات برينان والجنرال غيرستن، وبين واقع حال علاقة «داعش» بالإنترنت. إذ كيف تكون واشنطن هي المقاوم الأول لـ«داعش» إلكترونيًا، وفي الوقت ذاته - والعهدة هنا على الموقع الأميركي «فوكاتيف» - تستضيف ثلاث شركات أميركية على الأقل المواقع التي يستخدمها أنصار «داعش» وجماعات إرهابية أخرى لنشر الأخبار والدعاية وتجنيد الأتباع».. هل نحن إزاء سيناريو تقسيم الأدوار، أم أنها إشكالية الثنائية الأميركية المتضادة الشهيرة تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة»؟ وربما يكون الأمر متصلاً بإشكالية الحريات في تقاطعاتها مع متطلبات الأمن؛ الأمر الذي يجعل القائمين على مكافحة الإرهاب أميركيًا يخفقون في متابعة حالات بعينها كما حصل مع عمر متين.
جدير بالذكر أن موقع «تويتر» أعلن أخيرًا أنه أغلق نحو 200 ألف حساب، وإن كان في الواقع أغلق عددًا أكبر بكثير، وفي الوقت ذاته محا موقع «يوتيوب» ملايين تسجيلات الفيديو، وخصص موقع «فيسبوك» مئات الموظفين للعمل على مدار الساعة لإزالة المضمون المسيء، غير أن كل هذا لا يعني أن «الأصولية الإنترنتية» إلى زوال قريب. إذ ترى ريتا كاتز، مديرة شركة «سايت» الأميركية التي تهتم بمراقبة المواقع المتشددة والإرهابية، أن نشاطات التجنيد التي يبذلها المتشددون وأحاديثهم لم تتراجع على الإطلاق، وأن هؤلاء الأشخاص ما زالوا حاضرين على الإنترنت وما زالوا يجندون أعضاء جددًا.
أما مدير مكتب التحقيقات الاتحادية، جيمس كومي، فيشير إلى أنه بينما تراجع عدد الساعين إلى مغادرة الولايات المتحدة، تمهيدًا للانضمام إلى التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط، فإن قدرة التنظيم على التحفيز وإثارة حماسة النفوس المضطربة ما زالت قائمة في الولايات المتحدة، وتقييم حالة الفرد على مسار التشدد تجري الآن من خلال استعراض ما يستهلكه من مواد على الإنترنت وبلورة رؤية عن احتمالات الانتقال إلى الفعل.
الخلاصة، أن العالم في حرب أصولية من نوع جديد. «أصولية إنترنتية» يبرع فيها الطرفان المتقابلان، ويفقد العالم أمانه، ضريبةً للعولمة والتكنولوجيا الحديثة وأشياء أخرى لا تغيب عن أعين الباحث المحقّق والمدقّق.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».