«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

بين الوحدة والقسمة

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب
TT

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

كان مفهوما ومتوقعا هدم عناصر «داعش» السواتر الحدودية بين سوريا والعراق، بعد إعلان قادة التنظيم الإرهابي المتطرف خلافتهم المزعومة بيوم واحد في 10 يونيو (حزيران( وما نشروه طوال شهور تالية من خرائط جديدة للمنطقة، كانقلاب على التاريخ الواقعي وجزء من صناعة صورة متخيلة له، مهدت لها مراحل سابقة من الأدب والفكر العربي المعاصر، وفي مقدمتها اتفاقية «سايكس - بيكو».
ولقد مثل عداء وشجب هذه الاتفاقية المبرمة في 15 مايو (أيار) 1916. بين بريطانيا وفرنسا، التي مرت 100 سنة على ذكراها قبل قليل، مكانة خاصة في فكر التيارات الآيديولوجية العربية المعاصرة، بما حملته من هيكلة وصياغة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن أغلب دوله كانت نتاجها، ونتاج الاتفاقات التالية لها، باستثناء مصر وإيران، فهما وحدهما مَن بقي من بلدان العالم القديم بصيغتهما السابقة نفسها.
الواقع أن «سايكس - بيكو» كانت انعكاسًا لواقع قائم وقديم، كما لم تكن أكثر أهمية من اتفاقات تلتها، كانت أبعد أثرا منها، مثل «مؤتمر سان ريمو» في عام 1920 و«مؤتمر القاهرة» الذي فصل أراضي فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني عن شرق نهر الأردن، لكنها دون سواها ظلت هي قلب «النظرة التآمرية» وملمحها الأول في الخطاب العربي المعاصر.
وصدمت هذه الاتفاقية مثالية حلم «الوحدة والخلافة» في آن واحد، إذ كانت «سايكس - بيكو» إحدى علامات وفاة الخلافة وتوزّع إرثها، وصادمة لدعوات الوحدة واليقظة الوليدة منذ العقد الأول مع القرن العشرين مع أمثال عبد الرحمن الكواكبي في «أم القرى» (عام 1895) أو نجيب عازوري الذي نشر كتابه «يقظة الأمة العربية» عام 1905 وتوفي في عام «سايكس – بيكو» أي 1916 نفسه.
كانت «سايكس - بيكو»، في التصور الغالب، حلقة من حلقات التفوّق الغربي الحديث وهيمنة الغالب على مصير معاهدات الحلف الأنجلو - روسي للسيطرة على بلاد فارس وأفغانستان. كما تزامنت معه وتلته لاحقًا قرارات الانتداب والاحتلال، كمحاولة مستمرة لهيكلة الشرق الأوسط وبلدانه.
لكن، ربما من الخطأ قراءتها بوصفها لحظة شرق أوسطية وليس كلحظة عالمية، ضمن سياقات ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، التي انتهت بسقوط عدد من الإمبراطوريات والممالك الكبرى في العالم، وما أحدثته من تغير جيوسياسي كبير كذلك في الغرب كما في الشرق على السواء.
ففي اللحظة العالمية نفسها سقطت الإمبراطورية القيصرية الروسية، والإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والدولة العثمانية بعد ذلك، وكذلك ممالك في إيطاليا وصربيا وبلغاريا. وشهد الشرق الأوسط نفسه اندلاع ما عرف بـ«الثورة العربية الكبرى» بعدها بشهر واحد في يونيو من عام 1916، وغيرها من الأحداث الكبرى التي تثبت أننا كنا أمام فاصل مخاض عالمي خطير أثر على كل العالم وليس على المنطقة فقط.
بيد أن ما رسخ من عداء وتحميل لاتفاقية «سايكس - بيكو» في الشرق الأوسط، كل المسؤولية، أنه أعقبها بعام واحد ما عرف بـ«إعلان بلفور» عام 1917 وما تزامن معه وتبعه، خلال أقل من عقد من الزمان، من تحولات جوهرية وعميقة في أنظمة الحكم في المنطقة. ولعل أبرزها سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ونجاح «النزعة الطورانية» بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»، وكذلك سقوط الإمبراطورية القاجارية في إيران عام 1925 وبدء حكم آل بهلوي، وتوالي نشوء سائر دول المنطقة، منها الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - في العام نفسه.
أيضًا حَمَلت «سايكس - بيكو»، أو حُمّلت، المسؤولية عن إخفاق فكرة الدولة القومية في الشرق الأوسط، بعكس نجاح النموذج الأوروبي بعد «صلح وستفاليا» (مايو 1648) الذي يُعتبر إعلان نشوء منطق سيادة الدول في العصر الحديث، ونشوء الدولة القومية. ولكن هذا المنطق يتجاهل في الآن ذاته الاختلافات الإثنية والقومية والطائفية الراسخة منذ قرون قبل هذا الاتفاق داخل دول المنطقة وشعوبها، التي حكمها نمط التغلب والاستيلاء التاريخي بشكل رئيس.
لقد اهتم واستهدف وعي النخبة العربية المعاصرة التحرير من الاستعمار ومقاومته، كما استهدف النهضة والحداثة، بعد استدراك الفجوة بين التقدم الغربي والتخلف المشرقي منذ حملة نابليون بونابرت على مصر التي حملت المطبعة والصاروخ عام 1798 ميلادية.
واستدعى واستلزم هدف التحرير والمقاومة فكرة التوحّد وإحياء الروابط السياسية، التي التفت أول ما التفت حول فكرة «الجامعة الإسلامية» وإصلاح «نظام الخلافة» ورفع كفاءته. وهو ما حاوله جمال الدين الأفغاني بدرجة كبيرة وتبعه فيه كثيرون. ولكن تزامنت معها الدعوة لروابط أخرى قومية، كـ«الرابطة الوطنية» في دعوة الليبراليين المصريين لها، و«الرابطة القومية» التي نشطت بعد ذلك بعقد مع تيارات الفكر القومي ومفكريه، من أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وغيرهم، بوصفها محاولة لبعث الأمة عبر الطريق الأصعب في توحيدها أولاً!
وأخيرًا، استلزم واستهدف هم الحداثة الانطلاق من الواقع والممكن، ومن الدولة الوطنية، وليس من التاريخ ورموز تمجيده. ففي مساجلة مشهورة عام 1939 بين طه حسين وساطع الحصري عن الوحدة العربية، كان رد الأول على الأخير بأن المصريين أمة والعرب أمة والترك أمة، وأن الوحدة الثقافية العربية حقيقة واقعة، لكن الوحدة السياسية أمر بعيد وصعب المنال في هذه المرحلة على الأقل. وهو ما قال به مختلف الليبراليين المصريين في هذه المرحلة. ويبدو أن هذا المنطق المعتدل في تصوّر العلاقة والرابطة السياسية بين الدول العربية، بأنها جامعة ورابطة أكثر منها وحدة أو دولة وحدوية هو الذي انتصر عند تأسيس الجامعة العربية في مارس (آذار) 1945، حين عبّرت عن جامعة بين أفراد مترابطين، لا تلغي قراراتهم وتنوعاتهم لصالح وحدة مبتغاة. كما أنه كان الأكثر حضورا في جهودهم نحو التحديث والعصرنة وتأكيد قيمة المواطنة وردّ الاعتبار للدول الوطنية أو القطرية وطرح بدائل كالتكامل أو التعاون أو التنسيق بين الدول الجديدة.
كذلك كان ثمة وعي حقيقي بصعوبة وخطورة تعميم تصور الأمة وسط الاختلافات الإثنية والطائفية بين كثير من شعوب المنطقة، وصعود دور نخب الأقليات في مقاومة المستعمر والمطالبة بالاستقلال، والإصرار على حقوق حديثة لمواطنين لا رعايا في مجتمع حديث. ومن هنا كانت شعارات الثورة المصرية عام 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع»، أو «مصر للمصريين». بل لا نبالغ إذا قلنا إن كان التوجّه والدافع الأكبر هو القطيعة والمفاصلة مع «التتريك» والنزعة التركية التي مثلتها الخلافة العثمانية بغض النظر عن أنها خلافة، وما أرسته من تمييز ضد العرب أو الأقليات فيهم وبينهم!
في حين نجحت التيارات الفكرية والآيديولوجية العربية في تعديل تصوراتها للدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بعد هذه الاتفاقات، خصوصا مع استفادتها من أخطاء وفشل تجاربها الحزبية الوحدوية الحاكمة، أصر الإسلاميون - وبدرجة أكبر الراديكاليون منهم - على معاداة هذه الدولة وكل ما هو غربي وما تمخّض عن واقع صنعه أو شارك فيه. فكان اعتبار«الدولة الوطنية» صنمًا لا يجوز قبوله أو الإيمان به. وما تعلق به، شأن مقولات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الأقليات وما شابه من أمور فالقبول بها يعني القبول بما تولّد عنها، أي يعني القطع مع مفهوم دولة «المؤمنين والخلافة» الواحدة والمتوحدة، ما يوجب الكفر بالأولى أولاً.
يقول زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في التبرئة تعبيرًا عن هذا التصور، ومركزية «سايكس - بيكو» فيه: «هذه الدولة الوطنية فرضت علينا حدود سايكس - بيكو بالقوة والقهر والتزوير، وهي زائلة لا محالة إن شاء الله، لأنها أمر طارئ فرض بالقوة على الأمة المسلمة، التي عاشت تحت دولة واحدة حتى عام 1924، والأمر الطارئ المفروض لا بد أن يزول، لأنه يخالف حقائق الأشياء وطبائعها» (ص 49). ويقول أيضًا في موضع آخر معبّرًا عن هذا الرفض والكفر بما يسمى الوحدة الوطنية «إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس - بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهبًا لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا حتى أصبحت صنمًا مقدسًا، فيجب على المسلم طِبقًا لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء»... (الأعمال الكاملة - ص 5)
وفي دراسة له عام 2013 ينتقد «أبو محمد المقدسي» الثورات العربية وتعاطف بعض الإسلاميين معها لقبولها الوحدة الوطنية، المتمخصة عن «سايكس - بيكو» بقوله «ركبت موجة الربيع العربي وانساقت بل ذابت مع شعاراته الجاهلية، رأيناها كيف تروّج للوطنية ورفعت أعلام سايكس - بيكو وأخواتها في كثير من البلاد إرضاء للعوام وانسياقًا مع الطغاة، فلا هي تميّزت عن هؤلاء ولا عملت على إخراج الناس من حمأة الجاهلية». ويجتمع مختلف الإسلاميين على هذا التصوّر الشجبي والرفضي لهذا الواقع الذي تأسس بعد هذه الاتفاقية، ولكن بدرجات مختلفة، ليس حسب تصور حجم المؤامرة، ولكن حسب إيمان كل فصيل بفكرة الوطن أو الوحدة الوطنية ودولتها الجديدة.
تبدو صورة «سايكس - بيكو» واحدة عند كل رافضي فكرة الدولة الوطنية والقطرية الحديثة، التي ربحها العرب بعد الاستقلال، وسوق الخطاب اللاتاريخي - الذي صعد عربيًا في فترة الخمسينات والستينات - في تحميل الآخر كل الوزر عن «مؤامراته ومخططاته» المسؤولة عن واقع العرب والمسلمين وأزماتهم وتقسيماتهم داخليًا وخارجيًا.
تقع فجوة هذا التصوّر في تجاهل الواقع والتاريخي العربي والإسلامي المنقسم قبلها بكثير، منذ قرون. منذ العصر العباسي الأول والثاني حين تعددت العواصم والمراكز ونشأت الإمارات السلطانية، ثم الدول المستقلة وممالك الطوائف وإماراتها التي ربما كانت أكثر شتاتًا وتعددا منه الآن. ففي أواخر عهد الأيوبيين أنفسهم - أبناء صلاح الدين وإخوته - توزّعت منطقة مصر والشام على أكثر من ست إمارات، وكذلك بلدان المغرب العربي واليمن وشبه الجزيرة العربية، كانت أكثر تقسيمًا مما كان بعد هذه اللحظة التاريخية العالمية المهمة.
ثم إن تصور الخلافة العثمانية - أو غيرها - وحدة شاملة وحامية للمسلمين من القوى الغربية قبل هذا التاريخ، يخالفه التاريخ ووقائعه الذي شهد احتلال مصر قبل انهيارها بأربعة عقود تقريبًا عام 1882. وبلاد أخرى كتونس والجزائر والهند وغيرها. ويكفي أن نشير إلى أن انفراد صلاح الدين، مثلاً، بتحرير القدس في حياة الخلافة العباسية قبل وفاتها بقليل، لم يكن إلا لكون الرهان على الدولة الوطنية الواقعية وليس على التصورات الأممية والرابطة السياسية المعنوية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.