«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

بين الوحدة والقسمة

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب
TT

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

كان مفهوما ومتوقعا هدم عناصر «داعش» السواتر الحدودية بين سوريا والعراق، بعد إعلان قادة التنظيم الإرهابي المتطرف خلافتهم المزعومة بيوم واحد في 10 يونيو (حزيران( وما نشروه طوال شهور تالية من خرائط جديدة للمنطقة، كانقلاب على التاريخ الواقعي وجزء من صناعة صورة متخيلة له، مهدت لها مراحل سابقة من الأدب والفكر العربي المعاصر، وفي مقدمتها اتفاقية «سايكس - بيكو».
ولقد مثل عداء وشجب هذه الاتفاقية المبرمة في 15 مايو (أيار) 1916. بين بريطانيا وفرنسا، التي مرت 100 سنة على ذكراها قبل قليل، مكانة خاصة في فكر التيارات الآيديولوجية العربية المعاصرة، بما حملته من هيكلة وصياغة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن أغلب دوله كانت نتاجها، ونتاج الاتفاقات التالية لها، باستثناء مصر وإيران، فهما وحدهما مَن بقي من بلدان العالم القديم بصيغتهما السابقة نفسها.
الواقع أن «سايكس - بيكو» كانت انعكاسًا لواقع قائم وقديم، كما لم تكن أكثر أهمية من اتفاقات تلتها، كانت أبعد أثرا منها، مثل «مؤتمر سان ريمو» في عام 1920 و«مؤتمر القاهرة» الذي فصل أراضي فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني عن شرق نهر الأردن، لكنها دون سواها ظلت هي قلب «النظرة التآمرية» وملمحها الأول في الخطاب العربي المعاصر.
وصدمت هذه الاتفاقية مثالية حلم «الوحدة والخلافة» في آن واحد، إذ كانت «سايكس - بيكو» إحدى علامات وفاة الخلافة وتوزّع إرثها، وصادمة لدعوات الوحدة واليقظة الوليدة منذ العقد الأول مع القرن العشرين مع أمثال عبد الرحمن الكواكبي في «أم القرى» (عام 1895) أو نجيب عازوري الذي نشر كتابه «يقظة الأمة العربية» عام 1905 وتوفي في عام «سايكس – بيكو» أي 1916 نفسه.
كانت «سايكس - بيكو»، في التصور الغالب، حلقة من حلقات التفوّق الغربي الحديث وهيمنة الغالب على مصير معاهدات الحلف الأنجلو - روسي للسيطرة على بلاد فارس وأفغانستان. كما تزامنت معه وتلته لاحقًا قرارات الانتداب والاحتلال، كمحاولة مستمرة لهيكلة الشرق الأوسط وبلدانه.
لكن، ربما من الخطأ قراءتها بوصفها لحظة شرق أوسطية وليس كلحظة عالمية، ضمن سياقات ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، التي انتهت بسقوط عدد من الإمبراطوريات والممالك الكبرى في العالم، وما أحدثته من تغير جيوسياسي كبير كذلك في الغرب كما في الشرق على السواء.
ففي اللحظة العالمية نفسها سقطت الإمبراطورية القيصرية الروسية، والإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والدولة العثمانية بعد ذلك، وكذلك ممالك في إيطاليا وصربيا وبلغاريا. وشهد الشرق الأوسط نفسه اندلاع ما عرف بـ«الثورة العربية الكبرى» بعدها بشهر واحد في يونيو من عام 1916، وغيرها من الأحداث الكبرى التي تثبت أننا كنا أمام فاصل مخاض عالمي خطير أثر على كل العالم وليس على المنطقة فقط.
بيد أن ما رسخ من عداء وتحميل لاتفاقية «سايكس - بيكو» في الشرق الأوسط، كل المسؤولية، أنه أعقبها بعام واحد ما عرف بـ«إعلان بلفور» عام 1917 وما تزامن معه وتبعه، خلال أقل من عقد من الزمان، من تحولات جوهرية وعميقة في أنظمة الحكم في المنطقة. ولعل أبرزها سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ونجاح «النزعة الطورانية» بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»، وكذلك سقوط الإمبراطورية القاجارية في إيران عام 1925 وبدء حكم آل بهلوي، وتوالي نشوء سائر دول المنطقة، منها الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - في العام نفسه.
أيضًا حَمَلت «سايكس - بيكو»، أو حُمّلت، المسؤولية عن إخفاق فكرة الدولة القومية في الشرق الأوسط، بعكس نجاح النموذج الأوروبي بعد «صلح وستفاليا» (مايو 1648) الذي يُعتبر إعلان نشوء منطق سيادة الدول في العصر الحديث، ونشوء الدولة القومية. ولكن هذا المنطق يتجاهل في الآن ذاته الاختلافات الإثنية والقومية والطائفية الراسخة منذ قرون قبل هذا الاتفاق داخل دول المنطقة وشعوبها، التي حكمها نمط التغلب والاستيلاء التاريخي بشكل رئيس.
لقد اهتم واستهدف وعي النخبة العربية المعاصرة التحرير من الاستعمار ومقاومته، كما استهدف النهضة والحداثة، بعد استدراك الفجوة بين التقدم الغربي والتخلف المشرقي منذ حملة نابليون بونابرت على مصر التي حملت المطبعة والصاروخ عام 1798 ميلادية.
واستدعى واستلزم هدف التحرير والمقاومة فكرة التوحّد وإحياء الروابط السياسية، التي التفت أول ما التفت حول فكرة «الجامعة الإسلامية» وإصلاح «نظام الخلافة» ورفع كفاءته. وهو ما حاوله جمال الدين الأفغاني بدرجة كبيرة وتبعه فيه كثيرون. ولكن تزامنت معها الدعوة لروابط أخرى قومية، كـ«الرابطة الوطنية» في دعوة الليبراليين المصريين لها، و«الرابطة القومية» التي نشطت بعد ذلك بعقد مع تيارات الفكر القومي ومفكريه، من أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وغيرهم، بوصفها محاولة لبعث الأمة عبر الطريق الأصعب في توحيدها أولاً!
وأخيرًا، استلزم واستهدف هم الحداثة الانطلاق من الواقع والممكن، ومن الدولة الوطنية، وليس من التاريخ ورموز تمجيده. ففي مساجلة مشهورة عام 1939 بين طه حسين وساطع الحصري عن الوحدة العربية، كان رد الأول على الأخير بأن المصريين أمة والعرب أمة والترك أمة، وأن الوحدة الثقافية العربية حقيقة واقعة، لكن الوحدة السياسية أمر بعيد وصعب المنال في هذه المرحلة على الأقل. وهو ما قال به مختلف الليبراليين المصريين في هذه المرحلة. ويبدو أن هذا المنطق المعتدل في تصوّر العلاقة والرابطة السياسية بين الدول العربية، بأنها جامعة ورابطة أكثر منها وحدة أو دولة وحدوية هو الذي انتصر عند تأسيس الجامعة العربية في مارس (آذار) 1945، حين عبّرت عن جامعة بين أفراد مترابطين، لا تلغي قراراتهم وتنوعاتهم لصالح وحدة مبتغاة. كما أنه كان الأكثر حضورا في جهودهم نحو التحديث والعصرنة وتأكيد قيمة المواطنة وردّ الاعتبار للدول الوطنية أو القطرية وطرح بدائل كالتكامل أو التعاون أو التنسيق بين الدول الجديدة.
كذلك كان ثمة وعي حقيقي بصعوبة وخطورة تعميم تصور الأمة وسط الاختلافات الإثنية والطائفية بين كثير من شعوب المنطقة، وصعود دور نخب الأقليات في مقاومة المستعمر والمطالبة بالاستقلال، والإصرار على حقوق حديثة لمواطنين لا رعايا في مجتمع حديث. ومن هنا كانت شعارات الثورة المصرية عام 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع»، أو «مصر للمصريين». بل لا نبالغ إذا قلنا إن كان التوجّه والدافع الأكبر هو القطيعة والمفاصلة مع «التتريك» والنزعة التركية التي مثلتها الخلافة العثمانية بغض النظر عن أنها خلافة، وما أرسته من تمييز ضد العرب أو الأقليات فيهم وبينهم!
في حين نجحت التيارات الفكرية والآيديولوجية العربية في تعديل تصوراتها للدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بعد هذه الاتفاقات، خصوصا مع استفادتها من أخطاء وفشل تجاربها الحزبية الوحدوية الحاكمة، أصر الإسلاميون - وبدرجة أكبر الراديكاليون منهم - على معاداة هذه الدولة وكل ما هو غربي وما تمخّض عن واقع صنعه أو شارك فيه. فكان اعتبار«الدولة الوطنية» صنمًا لا يجوز قبوله أو الإيمان به. وما تعلق به، شأن مقولات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الأقليات وما شابه من أمور فالقبول بها يعني القبول بما تولّد عنها، أي يعني القطع مع مفهوم دولة «المؤمنين والخلافة» الواحدة والمتوحدة، ما يوجب الكفر بالأولى أولاً.
يقول زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في التبرئة تعبيرًا عن هذا التصور، ومركزية «سايكس - بيكو» فيه: «هذه الدولة الوطنية فرضت علينا حدود سايكس - بيكو بالقوة والقهر والتزوير، وهي زائلة لا محالة إن شاء الله، لأنها أمر طارئ فرض بالقوة على الأمة المسلمة، التي عاشت تحت دولة واحدة حتى عام 1924، والأمر الطارئ المفروض لا بد أن يزول، لأنه يخالف حقائق الأشياء وطبائعها» (ص 49). ويقول أيضًا في موضع آخر معبّرًا عن هذا الرفض والكفر بما يسمى الوحدة الوطنية «إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس - بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهبًا لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا حتى أصبحت صنمًا مقدسًا، فيجب على المسلم طِبقًا لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء»... (الأعمال الكاملة - ص 5)
وفي دراسة له عام 2013 ينتقد «أبو محمد المقدسي» الثورات العربية وتعاطف بعض الإسلاميين معها لقبولها الوحدة الوطنية، المتمخصة عن «سايكس - بيكو» بقوله «ركبت موجة الربيع العربي وانساقت بل ذابت مع شعاراته الجاهلية، رأيناها كيف تروّج للوطنية ورفعت أعلام سايكس - بيكو وأخواتها في كثير من البلاد إرضاء للعوام وانسياقًا مع الطغاة، فلا هي تميّزت عن هؤلاء ولا عملت على إخراج الناس من حمأة الجاهلية». ويجتمع مختلف الإسلاميين على هذا التصوّر الشجبي والرفضي لهذا الواقع الذي تأسس بعد هذه الاتفاقية، ولكن بدرجات مختلفة، ليس حسب تصور حجم المؤامرة، ولكن حسب إيمان كل فصيل بفكرة الوطن أو الوحدة الوطنية ودولتها الجديدة.
تبدو صورة «سايكس - بيكو» واحدة عند كل رافضي فكرة الدولة الوطنية والقطرية الحديثة، التي ربحها العرب بعد الاستقلال، وسوق الخطاب اللاتاريخي - الذي صعد عربيًا في فترة الخمسينات والستينات - في تحميل الآخر كل الوزر عن «مؤامراته ومخططاته» المسؤولة عن واقع العرب والمسلمين وأزماتهم وتقسيماتهم داخليًا وخارجيًا.
تقع فجوة هذا التصوّر في تجاهل الواقع والتاريخي العربي والإسلامي المنقسم قبلها بكثير، منذ قرون. منذ العصر العباسي الأول والثاني حين تعددت العواصم والمراكز ونشأت الإمارات السلطانية، ثم الدول المستقلة وممالك الطوائف وإماراتها التي ربما كانت أكثر شتاتًا وتعددا منه الآن. ففي أواخر عهد الأيوبيين أنفسهم - أبناء صلاح الدين وإخوته - توزّعت منطقة مصر والشام على أكثر من ست إمارات، وكذلك بلدان المغرب العربي واليمن وشبه الجزيرة العربية، كانت أكثر تقسيمًا مما كان بعد هذه اللحظة التاريخية العالمية المهمة.
ثم إن تصور الخلافة العثمانية - أو غيرها - وحدة شاملة وحامية للمسلمين من القوى الغربية قبل هذا التاريخ، يخالفه التاريخ ووقائعه الذي شهد احتلال مصر قبل انهيارها بأربعة عقود تقريبًا عام 1882. وبلاد أخرى كتونس والجزائر والهند وغيرها. ويكفي أن نشير إلى أن انفراد صلاح الدين، مثلاً، بتحرير القدس في حياة الخلافة العباسية قبل وفاتها بقليل، لم يكن إلا لكون الرهان على الدولة الوطنية الواقعية وليس على التصورات الأممية والرابطة السياسية المعنوية.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟