«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

بين الوحدة والقسمة

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب
TT

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

«سايكس ـ بيكو» في وعي المتشددين العرب

كان مفهوما ومتوقعا هدم عناصر «داعش» السواتر الحدودية بين سوريا والعراق، بعد إعلان قادة التنظيم الإرهابي المتطرف خلافتهم المزعومة بيوم واحد في 10 يونيو (حزيران( وما نشروه طوال شهور تالية من خرائط جديدة للمنطقة، كانقلاب على التاريخ الواقعي وجزء من صناعة صورة متخيلة له، مهدت لها مراحل سابقة من الأدب والفكر العربي المعاصر، وفي مقدمتها اتفاقية «سايكس - بيكو».
ولقد مثل عداء وشجب هذه الاتفاقية المبرمة في 15 مايو (أيار) 1916. بين بريطانيا وفرنسا، التي مرت 100 سنة على ذكراها قبل قليل، مكانة خاصة في فكر التيارات الآيديولوجية العربية المعاصرة، بما حملته من هيكلة وصياغة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن أغلب دوله كانت نتاجها، ونتاج الاتفاقات التالية لها، باستثناء مصر وإيران، فهما وحدهما مَن بقي من بلدان العالم القديم بصيغتهما السابقة نفسها.
الواقع أن «سايكس - بيكو» كانت انعكاسًا لواقع قائم وقديم، كما لم تكن أكثر أهمية من اتفاقات تلتها، كانت أبعد أثرا منها، مثل «مؤتمر سان ريمو» في عام 1920 و«مؤتمر القاهرة» الذي فصل أراضي فلسطين الخاضعة للانتداب البريطاني عن شرق نهر الأردن، لكنها دون سواها ظلت هي قلب «النظرة التآمرية» وملمحها الأول في الخطاب العربي المعاصر.
وصدمت هذه الاتفاقية مثالية حلم «الوحدة والخلافة» في آن واحد، إذ كانت «سايكس - بيكو» إحدى علامات وفاة الخلافة وتوزّع إرثها، وصادمة لدعوات الوحدة واليقظة الوليدة منذ العقد الأول مع القرن العشرين مع أمثال عبد الرحمن الكواكبي في «أم القرى» (عام 1895) أو نجيب عازوري الذي نشر كتابه «يقظة الأمة العربية» عام 1905 وتوفي في عام «سايكس – بيكو» أي 1916 نفسه.
كانت «سايكس - بيكو»، في التصور الغالب، حلقة من حلقات التفوّق الغربي الحديث وهيمنة الغالب على مصير معاهدات الحلف الأنجلو - روسي للسيطرة على بلاد فارس وأفغانستان. كما تزامنت معه وتلته لاحقًا قرارات الانتداب والاحتلال، كمحاولة مستمرة لهيكلة الشرق الأوسط وبلدانه.
لكن، ربما من الخطأ قراءتها بوصفها لحظة شرق أوسطية وليس كلحظة عالمية، ضمن سياقات ما بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، التي انتهت بسقوط عدد من الإمبراطوريات والممالك الكبرى في العالم، وما أحدثته من تغير جيوسياسي كبير كذلك في الغرب كما في الشرق على السواء.
ففي اللحظة العالمية نفسها سقطت الإمبراطورية القيصرية الروسية، والإمبراطورية النمساوية – المجرية، والإمبراطورية الألمانية، والدولة العثمانية بعد ذلك، وكذلك ممالك في إيطاليا وصربيا وبلغاريا. وشهد الشرق الأوسط نفسه اندلاع ما عرف بـ«الثورة العربية الكبرى» بعدها بشهر واحد في يونيو من عام 1916، وغيرها من الأحداث الكبرى التي تثبت أننا كنا أمام فاصل مخاض عالمي خطير أثر على كل العالم وليس على المنطقة فقط.
بيد أن ما رسخ من عداء وتحميل لاتفاقية «سايكس - بيكو» في الشرق الأوسط، كل المسؤولية، أنه أعقبها بعام واحد ما عرف بـ«إعلان بلفور» عام 1917 وما تزامن معه وتبعه، خلال أقل من عقد من الزمان، من تحولات جوهرية وعميقة في أنظمة الحكم في المنطقة. ولعل أبرزها سقوط الخلافة العثمانية عام 1924 ونجاح «النزعة الطورانية» بقيادة مصطفى كمال «أتاتورك»، وكذلك سقوط الإمبراطورية القاجارية في إيران عام 1925 وبدء حكم آل بهلوي، وتوالي نشوء سائر دول المنطقة، منها الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - في العام نفسه.
أيضًا حَمَلت «سايكس - بيكو»، أو حُمّلت، المسؤولية عن إخفاق فكرة الدولة القومية في الشرق الأوسط، بعكس نجاح النموذج الأوروبي بعد «صلح وستفاليا» (مايو 1648) الذي يُعتبر إعلان نشوء منطق سيادة الدول في العصر الحديث، ونشوء الدولة القومية. ولكن هذا المنطق يتجاهل في الآن ذاته الاختلافات الإثنية والقومية والطائفية الراسخة منذ قرون قبل هذا الاتفاق داخل دول المنطقة وشعوبها، التي حكمها نمط التغلب والاستيلاء التاريخي بشكل رئيس.
لقد اهتم واستهدف وعي النخبة العربية المعاصرة التحرير من الاستعمار ومقاومته، كما استهدف النهضة والحداثة، بعد استدراك الفجوة بين التقدم الغربي والتخلف المشرقي منذ حملة نابليون بونابرت على مصر التي حملت المطبعة والصاروخ عام 1798 ميلادية.
واستدعى واستلزم هدف التحرير والمقاومة فكرة التوحّد وإحياء الروابط السياسية، التي التفت أول ما التفت حول فكرة «الجامعة الإسلامية» وإصلاح «نظام الخلافة» ورفع كفاءته. وهو ما حاوله جمال الدين الأفغاني بدرجة كبيرة وتبعه فيه كثيرون. ولكن تزامنت معها الدعوة لروابط أخرى قومية، كـ«الرابطة الوطنية» في دعوة الليبراليين المصريين لها، و«الرابطة القومية» التي نشطت بعد ذلك بعقد مع تيارات الفكر القومي ومفكريه، من أمثال ساطع الحصري وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وغيرهم، بوصفها محاولة لبعث الأمة عبر الطريق الأصعب في توحيدها أولاً!
وأخيرًا، استلزم واستهدف هم الحداثة الانطلاق من الواقع والممكن، ومن الدولة الوطنية، وليس من التاريخ ورموز تمجيده. ففي مساجلة مشهورة عام 1939 بين طه حسين وساطع الحصري عن الوحدة العربية، كان رد الأول على الأخير بأن المصريين أمة والعرب أمة والترك أمة، وأن الوحدة الثقافية العربية حقيقة واقعة، لكن الوحدة السياسية أمر بعيد وصعب المنال في هذه المرحلة على الأقل. وهو ما قال به مختلف الليبراليين المصريين في هذه المرحلة. ويبدو أن هذا المنطق المعتدل في تصوّر العلاقة والرابطة السياسية بين الدول العربية، بأنها جامعة ورابطة أكثر منها وحدة أو دولة وحدوية هو الذي انتصر عند تأسيس الجامعة العربية في مارس (آذار) 1945، حين عبّرت عن جامعة بين أفراد مترابطين، لا تلغي قراراتهم وتنوعاتهم لصالح وحدة مبتغاة. كما أنه كان الأكثر حضورا في جهودهم نحو التحديث والعصرنة وتأكيد قيمة المواطنة وردّ الاعتبار للدول الوطنية أو القطرية وطرح بدائل كالتكامل أو التعاون أو التنسيق بين الدول الجديدة.
كذلك كان ثمة وعي حقيقي بصعوبة وخطورة تعميم تصور الأمة وسط الاختلافات الإثنية والطائفية بين كثير من شعوب المنطقة، وصعود دور نخب الأقليات في مقاومة المستعمر والمطالبة بالاستقلال، والإصرار على حقوق حديثة لمواطنين لا رعايا في مجتمع حديث. ومن هنا كانت شعارات الثورة المصرية عام 1919 بأن «الدين لله والوطن للجميع»، أو «مصر للمصريين». بل لا نبالغ إذا قلنا إن كان التوجّه والدافع الأكبر هو القطيعة والمفاصلة مع «التتريك» والنزعة التركية التي مثلتها الخلافة العثمانية بغض النظر عن أنها خلافة، وما أرسته من تمييز ضد العرب أو الأقليات فيهم وبينهم!
في حين نجحت التيارات الفكرية والآيديولوجية العربية في تعديل تصوراتها للدولة الوطنية الحديثة التي نشأت بعد هذه الاتفاقات، خصوصا مع استفادتها من أخطاء وفشل تجاربها الحزبية الوحدوية الحاكمة، أصر الإسلاميون - وبدرجة أكبر الراديكاليون منهم - على معاداة هذه الدولة وكل ما هو غربي وما تمخّض عن واقع صنعه أو شارك فيه. فكان اعتبار«الدولة الوطنية» صنمًا لا يجوز قبوله أو الإيمان به. وما تعلق به، شأن مقولات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الأقليات وما شابه من أمور فالقبول بها يعني القبول بما تولّد عنها، أي يعني القطع مع مفهوم دولة «المؤمنين والخلافة» الواحدة والمتوحدة، ما يوجب الكفر بالأولى أولاً.
يقول زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري في التبرئة تعبيرًا عن هذا التصور، ومركزية «سايكس - بيكو» فيه: «هذه الدولة الوطنية فرضت علينا حدود سايكس - بيكو بالقوة والقهر والتزوير، وهي زائلة لا محالة إن شاء الله، لأنها أمر طارئ فرض بالقوة على الأمة المسلمة، التي عاشت تحت دولة واحدة حتى عام 1924، والأمر الطارئ المفروض لا بد أن يزول، لأنه يخالف حقائق الأشياء وطبائعها» (ص 49). ويقول أيضًا في موضع آخر معبّرًا عن هذا الرفض والكفر بما يسمى الوحدة الوطنية «إن تقديس الوحدة الوطنية ثمرة خبيثة من ثمرات سايكس - بيكو التي قسّمت الأمة المسلمة لأسلاب متفرقة نهبًا لتركة الدولة العثمانية، ثم عشّشت هذه السياسة الغازية المجرمة في عقولنا حتى أصبحت صنمًا مقدسًا، فيجب على المسلم طِبقًا لها في كل قُطر أن يتحد مع أبناء قطره وبلده حتى لو كانوا من أعدى أعداء»... (الأعمال الكاملة - ص 5)
وفي دراسة له عام 2013 ينتقد «أبو محمد المقدسي» الثورات العربية وتعاطف بعض الإسلاميين معها لقبولها الوحدة الوطنية، المتمخصة عن «سايكس - بيكو» بقوله «ركبت موجة الربيع العربي وانساقت بل ذابت مع شعاراته الجاهلية، رأيناها كيف تروّج للوطنية ورفعت أعلام سايكس - بيكو وأخواتها في كثير من البلاد إرضاء للعوام وانسياقًا مع الطغاة، فلا هي تميّزت عن هؤلاء ولا عملت على إخراج الناس من حمأة الجاهلية». ويجتمع مختلف الإسلاميين على هذا التصوّر الشجبي والرفضي لهذا الواقع الذي تأسس بعد هذه الاتفاقية، ولكن بدرجات مختلفة، ليس حسب تصور حجم المؤامرة، ولكن حسب إيمان كل فصيل بفكرة الوطن أو الوحدة الوطنية ودولتها الجديدة.
تبدو صورة «سايكس - بيكو» واحدة عند كل رافضي فكرة الدولة الوطنية والقطرية الحديثة، التي ربحها العرب بعد الاستقلال، وسوق الخطاب اللاتاريخي - الذي صعد عربيًا في فترة الخمسينات والستينات - في تحميل الآخر كل الوزر عن «مؤامراته ومخططاته» المسؤولة عن واقع العرب والمسلمين وأزماتهم وتقسيماتهم داخليًا وخارجيًا.
تقع فجوة هذا التصوّر في تجاهل الواقع والتاريخي العربي والإسلامي المنقسم قبلها بكثير، منذ قرون. منذ العصر العباسي الأول والثاني حين تعددت العواصم والمراكز ونشأت الإمارات السلطانية، ثم الدول المستقلة وممالك الطوائف وإماراتها التي ربما كانت أكثر شتاتًا وتعددا منه الآن. ففي أواخر عهد الأيوبيين أنفسهم - أبناء صلاح الدين وإخوته - توزّعت منطقة مصر والشام على أكثر من ست إمارات، وكذلك بلدان المغرب العربي واليمن وشبه الجزيرة العربية، كانت أكثر تقسيمًا مما كان بعد هذه اللحظة التاريخية العالمية المهمة.
ثم إن تصور الخلافة العثمانية - أو غيرها - وحدة شاملة وحامية للمسلمين من القوى الغربية قبل هذا التاريخ، يخالفه التاريخ ووقائعه الذي شهد احتلال مصر قبل انهيارها بأربعة عقود تقريبًا عام 1882. وبلاد أخرى كتونس والجزائر والهند وغيرها. ويكفي أن نشير إلى أن انفراد صلاح الدين، مثلاً، بتحرير القدس في حياة الخلافة العباسية قبل وفاتها بقليل، لم يكن إلا لكون الرهان على الدولة الوطنية الواقعية وليس على التصورات الأممية والرابطة السياسية المعنوية.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.