حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات

السجالات الفكرية والأدبية.. لماذا انحسرت في ثقافتنا المعاصرة؟

حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات
TT

حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات

حروب الكلمات العظيمة.. مجرد ذكريات

في الأربعينات والخمسينات والستينات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين، والرافعي وأحمد شوقي، وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي، والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين لشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لماذا انحسرت مثل هذه السجالات في حياتنا الثقافية المعاصرة؟ هنا مداخلات حول هذا الموضوع من كتاب وباحثين ومثقفين من مختلف البلدان العربية:

حين كانت الحروب بأسلحة من كلمات، كانت الفائدة عظيمة على العقل العربي. لكن الإنسان العربي استبدل اليوم هذه الكلمات بشتى أنواع الفتك. قد يكون المدخل إلى موضوع أدبي مؤلمًا بهذه الطريقة، ولكن نريد القول: ليتنا بقينا على المعارك الأدبية كتلك التي كانت تشتعل بين الأدباء والنقاد والمفكرين ويسيل لأجلها الحبر حتى يغوص به القراء للركب.
في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، اشتعلت المزيد من المساجلات الأدبية التي كانت تنشب بسبب اختلاف الآراء، وعرفت ساحات الأدب فرسانًا لهذه المساجلات مثل سجالات عباس العقاد مع طه حسين والرافعي وأحمد شوقي وجميل صدقي الزهاوي، وسجالات محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي، وغير ذلك من معارك أثرت الفكر العربي الأدبي والنقدي والتي كان من أواخرها السجالات الطاحنة بين أنصار المتحيزين للشعر العمودي والتفعيلة، وبين الذين أصروا على إطلاق عبارة «قصيدة» على النثر.
لكن الذي حصل اليوم، أن هذه السجالات بمفهومها «الثوري» انحسرت إلى حد كبير، بحيث لم تعد تشكل مادة تصلح لأن تظهر في كتب كتلك الكتب التي ظهرت مفعمة بالزخم عن المعارك الأدبية السابقة، أي تكاد تكون المساجلات اليوم محصورة في ساحة مواقع التواصل الاجتماعي بالتغريدات والبوستات والتعليقات على أبعد تقدير.
الإجابة على الأسباب التي أدت إلى هذا الانحسار، لا يمكن أن تكون إجابة فردية، لذلك كان لا بد من سبر غور آراء كثير من الأكاديميين في مجال الأدب والأدباء ليدلوا بدلوهم في هذه المسألة الحيوية.
السرقات الأدبية.. فحسب
الأكاديمية السورية الدكتورة علياء الداية، بقسم اللغة العربية جامعة حلب، ترى أن السجالات والحوارات الثقافية تحتاج إلى أرضية من الاستقرار، وتقول: لعلّ هذا ما تفتقده أيامنا المعاصرة إلى حد كبير، وعلى صعد متعددة. وتضيف: كما يؤدي العامل الاجتماعي دورًا مهمًا، فمن الملحوظ حاليًا ارتفاع نسبة الشباب في البلاد العربية، وهذا ما يجعل اتجاهاتهم الثقافية وتفضيلاتهم المعيشية تلقي بظلالها على المشهد الفكري العام. كان الغالب في سجالات العقود السابقة هو الرغبة في تجاوز المنتج الثقافي، من خلال نقده أو الرغبة في تطويره أو تحسينه، أو إيجاد بدائل فكرية للنظريات المطروحة. أما الآن فيقتصر الأمر على الرغبة في العرض والمناقشة، وفي بعض الأحيان إثارة موضوع السرقات الأدبية. وتفسر الدكتورة علياء الداية ذلك بقولها: يتميز عصرنا بتعدد الوسائل الإعلامية، مما يجعلها تتداخل كثيرًا مع الوسائل المعرفية وتتماهى معها، ومن ذلك ما يدفع أعدادًا متنامية من القراء باتجاه كتب رائجة، لاقتنائها إلكترونيًا أو ورقيًا وتبادل النقاشات حولها وتداول الاقتباسات والعناوين، من دون أن يعني ذلك حراكًا فكريًا عميقًا بالضرورة. وفي مثال آني للدور الإعلامي المعرفي الثقافي - تقول الدكتورة علياء الداية - نجد المسلسلات المأخوذة عن روايات عربية والتي حافظت على عنوان الرواية نفسه، مثل «ساق البامبو»، و«سمرقند»، و«أفراح القبّة»، وما تحظى به من متابعة واسعة، ونقاشات بين مشاهديها، ومقارنتهم بينها من حيث الجودة، وبين المسلسل المنتج والرواية المأخوذ عنها، الكثير يتجهون إلى قراءة الرواية أو إعادة قراءتها من جديد ليكونوا على أهبة المشاركة فيما يستجد من حلقات على الشاشة، ومن حوارات مع المجال الاجتماعي من حولهم ووسائل التواصل.
ولا تتجاهل الدكتورة الداية في هذا الموضوع حقيقة أن «الثقافة العربية المعاصرة تكتسب سمة العابرة للأماكن، بفعل مكوناتها من نصوص ومبدعين ومتلقين ما زالوا متواصلين وملتصقين بثقافاتهم الأصلية، ولكن الهجرة طافت بهم عبر العالم، وقد تثير الأماكن الجديدة أو الطارئة حوارات فكرية أو ثقافية ما تزال قيد التشكل لعقود قادمة».
الكاتبة الكويتية إستبرق أحمد تعتقد أن العالم يخضع لتغييرات متسارعة: «بحيث حتى بعض المواضيع التي تسترعي الانتباه تخفت وقد تختفي، كل خبر يدفع خبرا آخر للظل، كل اختراع يلغي أو يقلل من أهمية اختراع آخر»، لذا - حسبما تقول إستبرق أحمد - كانت السجالات والمناقشات غالبا تحتاج لصحيفة، أو إصدار كتاب للحفاظ على الحدث، أما الآن فالزمن في لهاث نكاد نسمع شهيقه وزفيره، بوسائل أصبحت أكثر وفرة وحيوية تتمثل بالسيد الوحش المدعو «الشبكة العنكبوتية» فإن الوسائط أو الطرق متاحة بتنوعها، مما جعلنا نرى حوارات كثيرة في مواقع الإنترنت تستقطب كثيرًا من المواضيع الثقافية، وتضيف: قد يجد أصحابها أهمية لوضعها في كتاب لكن غالبا تفتر المناقشة ويأتي ما هو أكثر أهمية منها فلا تصل إلى أرشفتها، أقول ذلك الرأي دون أن يكون السبب الوحيد الظاهر، فهناك عدة أسباب منها أن جرأة النقد في خفوت، والحياة محقونة بكثير من المعارك اليومية فلا تخلو من بلدان تقتلع وحدود تنفجر وصراعات طائفية طاغية تجعلنا لا نحتاج للانقسام إلى فريق ضد فريق إزاء قضية ثقافية، لأننا أصلا متشظون، فالانقسامات أكثر بكثير من استغراقنا أو اصطفافنا وراء اسم ضد اسم في معركة ثقافية، وتستدرك إستبرق أحمد بقولها: لكن الظاهر أيضا هو تزايد المعارك بين تيار يتشبث بالتنوير وتيار آخر ظلامي يتنامى بلا انحسار، سواء في إطار التلفزة أو مواقع التواصل أو الانفجار بكتب وكتيبات مناوئة أغلبها يكتب على عجل، فالهدف منها تدبيج الرأي أكثر من تأمل الأفكار، وهكذا تأتي المشاحنات دون إنصات بل بتربص واضح فيسطحها وهو ما يجعلها معارك ليست بثراء المعارك الثقافية السابقة التي تقوم على «احترام» جهد وثقافة الطرف الآخر وإن اختلف تماما معه، علما بأننا لا ننفي وجود هذه المعارك لكننا ندعي كما ورد بالتحقيق الصحافي أنها تراجعت كثيرا نتيجة لتراجع الأدوات السابقة وطغيان متواصل للتشبث بفكرة «الحقيقة المطلقة».
الشاعر والمؤلف الكويتي سالم الرميضي له رأي قد يبدو غريبًا في خاتمته لكثير من المتابعين لهذه الإشكالية، فهو يرى أن هذه المساجلات انتقلت اليوم من ساحة الأدب الفصيح إلى ساحة الأدب الشعبي، ولكنه قبل ذلك يسترجع التاريخ أولاً فيقول: فعلاً كانت المساجلات والمطارحات الأدبية قديمة قدم التاريخ العربي وتنوعت عنواناتها ومواضيعها بداية من المفاخرة والمهاجاة في سوق عكاظ بالجاهلية ثم بالمدح والذم بين شعراء المسلمين والمشركين في صدر الإسلام وبعد ذلك النقائض بين جرير والفرزدق في عصر بني أمية، وهكذا حتى تاريخنا الحديث وكما ورد بالسؤال حتى الأدباء من غير الشعراء كانت بينهم رسائل ومحاججات ومطارحات من مثل كتاب العقاد «على السفود» وردود الشيخ محمود شاكر وحرب المقالات بين رواد الأدب الكلاسيكي والحديث في النصف من القرن المنصرم.
ويضيف الشاعر سالم الرميضي: أما الآن فأظن أن المساجلات والمطارحات موجودة فعلاً ولكن المتلقي فقد الاهتمام بالأدب بعد أن تم اختطافه وتشويهه بشكل متعمد عن المتلقي العام الذي كان يتلقى تلك المساجلات في السابق بالاهتمام والنشر والحديث حولها، فالأدب اليوم شأن خاص لكل من يرتدي معطفًا رماديا بالشتاء ويشرب نصف كوب من القهوة ويتصفح جريدة قبل أسبوع! ولكن هذه المساجلات - حسب اعتقاد الرميضي - ما تزال ماثلة بقوة في الساحة الشعبية عند شعراء (القلطة) أو ما يعرف بالمحاورة القائمة على الارتجال وكذلك ما يسمى بالرديات وهي تماما كالنقائض الفصيحة؛ إذ يرسل الشاعر قصيدة ويرد عليه الشاعر الآخر بنفس الوزن والقافية ويجيب تساؤلاته أو يقلب معناه أو يجاريه.
أما الأكاديمية السورية الدكتورة بتول دراو، المتخصصة في مبادئ النقد ونظرية الأدب، فتقول: حين نفهم الوسط الذي احتضن صراعات العقاد وطه حسين نستطيع أن نفهم سبب تراجع مثل تلك السجالات في الوسط اليوم، ففي تلك المرحلة وبسبب طبيعة الوسط آنذاك الذي كان متسمًا بالانفتاح على الثقافات الواسعة؛ ظهرت تلك الصراعات التي كانت صادمة نظرًا لجدتها وعمق الموضوعات التي تحدثت عنها؛ فضلاً عن حساسيتها، وجرأتها الكبيرة في بسط آرائها والدفاع عنها.
أما اليوم -تضيف الدكتورة بتول دراو- فلعلنا أصبحنا أمام ما يمكن أن نسميه بالحرب الباردة، فالسجالات ما تزال مستمرة ولكنها فقدت مصداقيتها؛ أو لعل الأصح القول فيها إنها كانت حوارًا ثقافيًا حول رسالة الغفران على سبيل المثال عند العقاد وحسين، وتحولت لاحقًا إلى صراعات متأثرة بهيمنة نمط فكري ما عائد إلى تأثره بفكر آيديولوجي معين، ونحن لا ننفي عن السجالات الأولى تأثرها بما هو فكري؛ ولكن الفكري فيها يتراجع على حساب ما هو ثقافي بخلاف ما قد نجده اليوم، حيث إن الفكري يغدو مقدمًا على ما هو ثقافي، كأن يتم ترشيح عمل أدبي ما إلى جائزة ما نظرًا لأن صاحبه ينتمي إلى هذا البلد أو ذاك، أو لأن صاحبه يمتلك منظومة فكرية أو غير ذلك مما يدور في الفلك نفسه مما يناسب القائمين على الترشيح للأعمال الإبداعية، وهنا نجد أنفسنا أمام وسط يؤثر سلبًا في الإبداع بخلاف ما كان عليه سابقًا، حيث لم نكن نجد هذا الاهتمام الواسع بتقويم الإبداع من خلال المسابقات أو الجوائز، وهذا ما يجعلنا نرى أن السجال الثقافي تحول إلى صراع آيديولوجي مما أوهمنا بغيابه، وهو في الواقع لم يغب؛ وإنما تحول عن الحقل الثقافي الذي وُجد فيه.
وتفسر الدكتورة بتول دراو ذلك بقولها: أي أن ما نريد قوله إن سجالات الأوائل اتسمت بالصدق أكثر من صراعات اللاحقين، وإن الصدام الذي أثارته السجالات الأولى فقدناه اليوم، وجُلّ ما نجده الآن هو صدى لآراء تلك السجالات؛ أما أن يتم اقتحام حقول أخرى غير ما خاضها الأوائل فهو أمر لا نجده مطروحًا في سجالات اللاحقين، بل إن كثيرا من السجالات لم تعد تتسم بالجرأة والإفصاح أو النقد الجاد.
ولكنها تختتم رأيها بأنه: «مع ذلك ما تزال مدارس العقاد وحسين أو طرابيشي والجابري مستمرة بصراعاتها إلى اليوم، وبالشكل الذي وجدت فيه أساسا».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.