تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

مع تعثر محاولات تشكيل وزارة جديدة

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟
TT

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

تونس: مأزق حكومة.. أم أزمة حكم؟

خلافًا للبرنامج الذي سبق أن أعلن عنه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ومستشاروه لن تتشكل «حكومة الوحدة الوطنية» التي ستعوّض حكومة الحبيب الصيد يوم 27 يونيو (حزيران) الحالي أو قبل عيد الفطر. ولقد أفرز الاجتماع التشاوري الجديد الذي أشرف عليه قائد السبسي أخيرًا بمشاركة ممثلي 9 أحزاب وزعماء النقابات خلافات حول مضمون «الوثيقة الرئاسية» التي تبرر الإطاحة بحكومة الصيد وتشكيل حكومة جديدة تدعمها «كل الأطراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية». وفي هذه الأثناء كشفت المشاورات داخل الحزبين الكبيرين، «نداء تونس» و«النهضة»، وفي صفوف المعارضة، عن خلافات في تقييم الحكومة الحالية ورئيسها بما يوشك أن يفجر أزمات داخلية فيها بينها.. خلافات قد تتسبب بانهيار حزب الرئيس الذي فقد الأغلبية البرلمانية منذ أشهر. فإلى أين تسير تونس في ظل «الماراثون السياسي الجديد» الذي تشهده من أجل الإطاحة بالحكومة الثامنة منذ سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011؟
وهل سيكون تشكيل حكومة «الوحدة الوطنية» خطوة نحو الإنقاذ والإصلاح أم مدخلاً لأزمة سياسية اجتماعية اقتصادية جديدة؟

رسميًا، رحبت كل قيادات الأحزاب التونسية بالمبادرة التي أطلقها الرئيس الباجي قائد السبسي مطلع يونيو الحالي ودعا فيها إلى «حكومة وحدة وطنية» طلب من المعارضة ومن نقابات العمال ورجال الأعمال المشاركة فيها. إلا أن الأزمات بدأت تبرز منذ بدء جلسات «الحوار الوطني» في قصر الرئاسة بضاحية قرطاج، قرب تونس العاصمة، لرسم أولويات الحكومة المقبلة، ومناقشة أسماء المرشحين لتعويض الحبيب الصيد ووزرائه.
وفي الوقت نفسه تفجرت خلافات جديدة داخل حزب الرئيس وخارجه بسبب التقييمات المتباينة للحكومة الحالية والبرلمان والمواقف المتناقضة من «البديل» المقترح رغم بروز نوع من الإجماع حول المبرّرات الذي قدمها قائد السبسي لمبادرته ومنها خصوصًا «المخاطر الاقتصادية والاجتماعية» التي تهدد البلاد.
* معركة الكراسي والمواقع
مصادر مسؤولة أفادت «الشرق الأوسط» بأن الاجتماع الموسع لقيادة حزب الرئيس الذي عقد بإشراف نجله حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي للحزب، كشف وجود مناصرين للإبقاء على الحبيب الصيد رئيسًا للحكومة في حال تعديلها وآخرين مساندين لرحيله. وكان بين الذين دافعوا عن الصيد وزيرا الخارجية خميس الجهيناوي والسياحة سلمى اللومي، والوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة خالد شوكات. كذلك صدرت تصريحات عن قياديين في «النهضة» بينهم الوزير السابق عبد اللطيف المكي تؤكد أن الحزب الأول في البرلمان لم يبت نهائيًا في «مشروع» تعويض الحبيب الصيد. وعندما بدأت «الحرب النفسية» ومعركة «لتسريبات» لأسماء المرشحين لتعويض رئيس الحكومة الحالي استفحلت الخلافات داخل الحزب الحاكم منذ عام ونصف العام، وخارجه. وتعالت مجددًا الدعوات لاختيار «شخصية مستقلة» لرئاسة الحكومة المقبلة.
ورغم تصريحات رئيس الجمهورية ومحافظ البنك المركزي ووزير المالية التي حذّرت التونسيين من «العجز المالي» ومن إفلاس الصناديق الاجتماعية وشركات وطنية كبيرة العام المقبل، يبدو السياسيون والنقابيون منشغلين أساسًا بـ«معركة الكراسي والمواقع».
و«مرة أخرى تجد البلاد فيها نفسها مهددة بالمعنيين بـ(الغنيمة)، وليس بإصلاح الأوضاع العامة» على حد تعبير النقيب السابق للمحامين التونسيين عبد الرزاق الكيلاني، ووزير المالية السابق إلياس فخفاخ.
* مشاريع معطّلة
الوزيرة سلمى اللومي، رغم أنها من بين أقارب الرئيس، انتقدت ما وصفته بـ«تعاقب الحكومات بنسق سريع خلال الأعوام الماضية» مما تسبب في «تعطل إنجاز المشاريع وتعثر عمل الإدارة التي أصبحت مكبّلة بالخوف، لأن أغلب المسؤولين الإداريين باتوا يتخوّفون من تنفيذ قرارات الوزراء أو رؤسائهم المباشرين، نتيجة ما حدث بعد 14 يناير 2011 (من محاكمات واعتقالات ومضايقات)، حين دفع كبار الموظفين وبعض الوزراء ثمن قرارات خاطئة اتخذها الرئيس السابق ومستشاروه». كذلك اعتبر برلمانيون معارضون مثل زهير المغزاوي، زعيم حزب الشعب، أنه «ليس من مصلحة شباب تونس العاطل عن العمل والمهمش محاولة إنقاذ حزب النداء عبر مبادرات قد تزيد الأوضاع في البلاد تعفنًا».
* المعارضة تقاطع؟
أما في صفوف المعارضة اليسارية «المتشددة»، بزعامة حمه الهمامي ورفاقه في «الجبهة الشعبية»، فقد تقرر إيقاف المشاركة في الاجتماعات التي يشرف عليها رئيس الدولة. وانطلقت حملة إعلامية دعائية قوية ضد «نداء تونس» وشركائه في حكومتي الحبيب الصيد، مع تحميلها «مسؤولية تعمق أزمات البطالة والفقر والتضخم وعجز موازنات الدولة وبينها الميزان التجاري وميزان الدفوعات»، على حد تعبير البرلماني اليساري عمار عمروسية من حزب العمال الشيوعي.
ويُعتبر بعض المراقبين في تونس، منهم الأكاديمي رضا الشكندالي، أن «خطر الانكماش الاقتصادي في تونس قد يستفحل إذا تعمّقت الأزمة بين النقابات القريبة من اليسار التونسي والسلطات، وإذا لم تتوصل الحكومة والأطراف الاجتماعية إلى اتفاق حول تجميد الإضرابات والتحركات الاحتجاجية لمدة لا تقل عن سنتين». بينما اعتبر محسن مرزوق، زعيم حزب مشروع تونس- المنشق عن حزب قائد السبسي قبل أشهر - أن «الهدف الرئيسي من المبادرة الرئاسية ليس سياسيًا بل كان ولا يزال اجتماعيًا اقتصاديًا»، أي إشراك النقابات والمعارضة اليسارية في الحكومة المستقبلية.
وفي حين فهم نقابيون يساريون بارزون، مثل سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، المبادرة الرئاسية على أساس أنها «محاولة لتوريط النقابات» في الخيارات السياسية والاقتصادية الفاشلة للائتلاف الحكومي، ذهب اليساري عمروسية إلى حد التساؤل عن قيمة التمسك بالمبادرة الرئاسية الحالية إذا لم يدعمها اتحاد نقابات العمال ولم تساندها المعارضة اليسارية بزعامة «الجبهة الشعبية».
* «النهضة» تحسن موقعها
في المقابل، ماذا عن موقف حزب حركة «النهضة» (الإسلامي)، الحزب الأول في البرلمان منذ الانقسامات التي أضعفت «نداء تونس» الفائز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2014؟ فرسميًا ساند زعيم «النهضة» راشد الغنوشي ومستشاره السياسي لطفي زيتون ورئيس كتلة الحزب في البرلمان نور الدين البحيري «المبادرة الرئاسية»، وذكّروا بكونهم دعوا إلى حكومة «وحدة وطنية» منذ ما قبل تشكيل حكومة الحبيب الصيد الأولى في يناير 2015.
كذلك تحرّك الغنوشي في تونس وخارجها بقوة لدعم مبادرة الرئيس قائد السبسي وخيار «التوافق الوطني» و«دعم تجربة الشراكة بين العلمانيين والإسلاميين». وبعد التصريح الذي أدلى به الحبيب الصيد، وأعلن فيه أنه لن يستقيل من منصبه، زاره الغنوشي ثم قياديون من «النهضة» مصحوبين بزعماء من أحزاب سياسية أخرى. وصدرت في أعقاب تلك اللقاءات بلاغات صحافية عن ترحيب الحبيب الصيد بالمبادرة الرئاسية، بما يعني استعداده للاستقالة دون «التسبب في أزمة سياسية ودستورية»، حذر منها الأكاديمي خلفية شاطر وبعض الخبراء القانونيين، مثل أمين محفوظ وقيس سعيد. وأكدت مصادر مختلفة أن زعيم «النهضة» تعهد للحبيب الصيد بـ«خروج مشرف» من الحكومة في صورة استكمال مشاورات اختيار «البديل».
لكن الرئيس الجديد لمجلس الشورى - القيادة العليا لحزب «النهضة» - الوزير السابق عبد الكريم الهاروني - أعلن في أكثر من تصريح أن حركته التي أصبحت «صاحبة الكتلة الأولى في البرلمان»، وأثبتت اعتدالها للعالم وللشعب التونسي - من خلال مؤتمرها الوطني العاشر تطالب بأن تكون حصتها في الحكومة المقبلة «مطابقة لحجمها السياسي».
هذا التصريح الذي تزامن مع تصريحات مماثلة لقياديين بارزين في «النهضة» يكشف بوضوح أنها لن ترضى في التشكيلة القادمة بحصتها الحالية - أي بحقيبتي التشغيل والصناعة - بل ستطالب بحقائب أكثر وأهم. كما سيكون موقفها حاسمًا في البت في تغيير رئيس الحكومة من عدمه واختيار «البديل» عنه إذا تأكدت مغادرته موقعه.
* الغنوشي في باريس
ويعتقد المراقبون في تونس الآن أن «حظوظ النهضة في المشاركة بحجم أكبر في رسم توجهات الحكومة المقبلة تحسنت بعد زيارة العمل» غير المسبوقة التي قام بها وفد من قيادة «النهضة» بزعامة راشد الغنوشي هذا الأسبوع إلى باريس، حيث استقبل من قبل رسميين فرنسيين كبار بينهم وزير الخارجية جون مارك إيرولت ورئيسا البرلمان ومجلس الشيوخ ورئيس الحكومة السابق جان بيار رافاران. وإذا كانت واشنطن ولندن وبرلين وبروكسل تساند منذ مدة طويلة مشاركة «النهضة» و«الاتجاه الإسلامي المعتدل» في الحكم رغم اعتراضات فرنسية واضحة، فقد تسفر زيارة الغنوشي والوفد الكبير المرافق له إلى باريس عن «إعادة خلط الأوراق أكثر في تونس» وعن تعديل موقف فرنسا «العلماني المتشدد» من الإسلاميين التونسيين.
* المصالحة التاريخية
لكن هذا الخلط الجديد للأوراق يتناقض جوهريًا مع معارضي إشراك «النهضة» في الحكومة المقبلة من داخل حزب الرئيس وخارجه، وبينهم برلمانيون يساريون ونقابيون من «الجبهة الشعبية» نظموا أخيرًا حملة إعلامية سياسية ضدها مع اتهام حكومتها السابقة مجدّدًا بتحمل «المسؤولية السياسية والأخلاقية» عن اغتيال زعيميها شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي عام 2013 من قبل إرهابيين ينتسبون إلى مجموعات مسلحة متعاطفة مع «القاعدة» و«داعش».
لكن التيار السائد في قيادة «نداء تونس»، بزعامة حافظ قائد السبسي ورجلي الأعمال محمد رؤوف الخماسي وفوزي اللومي والوزير خالد شوكات، يناصر مشاركة «النهضة» في الحكومة المقبلة، ويرفض إقصاءها لأسباب كثيرة. من بينها أنها الكتلة الأكبر في البرلمان، وبالتالي، لأن حرمانها من المشاركة في الحكم سيخدمها ويجعل منها أكبر حزب معارض في مرحلة ستضطر خلالها الحكومة لاتخاذ إجراءات غير شعبية وقاسية اقتصاديًا واجتماعيًا، من بينها قرارات تهم الأسعار والرواتب وسن التقاعد والشركات العمومية الكبرى المفلسة.
وحقًا، دعا محمد رؤوف الخماسي وخالد شوكات، آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى «مصالحة تاريخية ونهائية» بين الوطنيين التونسيين، وخصوصًا بين «الدستوريين» و«الإسلاميين المعتدلين».
* المأزق الجديد؟
لكن الأزمة في تونس تتطوّر نحو «مأزق جديد» إذا ما عجز أنصار «مبادرة الحكومة الوطنية» عن تفعيلها وسط دعوات إلى «تجديد الثقة بالحبيب الصيد خدمة للاستقرار الحكومي والسياسي الذي يطالب به المستثمرون». وفي هذه الحالة يتوقع قياديون من داخل «نداء تونس» أن تكون «الحصيلة مأزقًا يتحمل مسؤوليته المستشارون الذين ورّطوا رئيس الدولة في مبادرة غير مضمونة النتائج». وبعدما أجهضت مبادرات سابقة قام بها رئيس الدولة - بينها مبادرة لإعلان مصالحة وطنية شاملة - يخشى قياديون في «النداء» و«النهضة» أن تفشل المبادرة السياسية الجديدة فتكون «النتيجة مزيدًا من إضعاف مؤسسة الرئاسة وحزب الرئيس»، وفي هذه الحالة قد يكون «البديل» عن «حكومة الحبيب الصيد» تكليف رئيس الحكومة الحالي بتشكيل حكومته الثالثة مع تغيير بعض وزرائها.
* صعوبات ولكن
الصعوبات المالية والاقتصادية التي تواجهها تونس تحتاج بالفعل إلى «تصحيح» في نظر عدد من الخبراء الاقتصاديين، بينهم وزير المالية السابق جلول عياد، الذي يقول إن الإفلاس يهدّد الآن كثير من المؤسسات الحكومية والصناديق الاجتماعية، وهذا رغم إشارته إلى أن «أوضاع القطاع الخاص والمؤسسات الصناعية والتجارية الخاصة التونسية تحسنت بشكل ملموس». وفي الوقت نفسه، كشف الشاذلي العياري، محافظ البنك المركزي التونسي، أن البنك لم يسجل سحب أي من المودعين في البنوك التونسية لأرصدتهم «ما يؤكد ثقتهم في النظام البنكي التونسي، رغم البلبلة التي أثيرت حول مشروع قانون البنوك والمؤسسات المالية والمتعلقة أساسًا بمخاوف من الإفلاس». وأشار العياري أمام البرلمان التونسي قبل أيام إلى أن «المؤشرات المتوفرة للبنك المركزي، تؤكد أن أوضاع البنوك التونسية مقبولة، وأنها بعيدة عن شبح الإفلاس باستثناء بنكين اثنين». كما كشف أن تونس ستحصل خلال الفترة المقبلة على تمويلات من المؤسسات المالية الدولية ستمكنها من سد الحاجات في الميزانية والتنمية مع مراعاة نسبة الدين الخارجي حتى لا تتجاوز الحدود المقبولة». واستطرد الشاذلي العياري قائلاً: «المشكل في تونس لا يتعلق بالتمويل الذي سيتم الحصول عليه تدريجيًا، بقدر ما يتعلق بالاستقرار السياسي والأمني والتوافق بين الأطراف الاجتماعية حتى تستفيد تونس من قرارات التي أعلن عنها أطراف دولية، بينها تخصيص منحة سنوية لفائدة تونس تقدر بمليار دولار على مدى 5 سنوات من البنك الدولي و3 مليار من صندوق النقد ونصف مليار من البنك الأفريقي للتنمية ومثلها من الاتحاد الأوروبي.. إلخ».
* «الطريق الثالث»؟
إذا كانت الأوضاع على مثل هذه الدرجة من الهشاشة، هل سيستمر الإصرار إذن على تغيير الحكومة ورئيسها أم يمدد التمديد له إلى ما بعد تنظيم الانتخابات البلدية في مارس (آذار) 2017 مثلما سبق أن أورد راشد الغنوشي في حديث لـ«الشرق الأوسط»؟
مصادر مقربة من الرئيس السابق المنصف المرزوقي، مثل عماد الدايمي الوزير ومدير الديوان الرئاسي سابقًا، تتحدث عن حرص بعض «اللوبيات» على الإطاحة بالصيد لأنه رفض تغيير المدير العام للامن الوطني عبد الرحمن الحاج علي، وقد يكون «اعترض على بعض مشاريع الصفقات المشبوهة».
وفي هذا السياق، تعاد إلى السطح قضية التحرك الذي نظمته إحدى النقابات الأمنية في فبراير (شباط) الماضي في ساحة الحكومة بالقصبة للمطالبة بالإطاحة بالحاج علي والحبيب الصيد مع رفع شعارات لا أخلاقية ضدهما، واقتحام مقر رئاسة الحكومة. وفي المقابل، يتمسك آخرون بتشكيل حكومة جديدة مع إشارة التقارير الوطنية والعالمية إلى استفحال ظواهر الرشوة والفساد والاستبداد في «تونس ما بعد الثورة».
وعليه، قد يكون «الطريق الثالث» هو الحل الوسط الذي يرضي كل الأطراف في النهاية، أي تكليف الحبيب الصيد بترؤس «حكومة الوحدة الوطنية» مع تغيير بعض الوزراء «المثيرين للجدل» أو الذين تعترض عليهم النقابات والمعارضة. وقد يسهم هذا «الحل الوسط» في تكريس شعارات يرفعها كبار السياسيين في تونس منذ سنوات من بينها «أولوية الاستقرار»، خصوصًا في وزارات السيادة، لا سيما وزارة الداخلية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».