الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

من هو زعيم حركة طالبان الجديد؟

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة
TT

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

أعلنت حركة طالبان في أفغانستان خلال الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي تعيين الملا هبة الله أخوندزادة خلفًا لزعيمها القتيل الملا أختر منصور. وكان منصور قد قتل في غارة شنتها طائرة أميركية من دون طيار (درون)، قبل بضعة أيام، وقيل في حينه «إن الزعيم القتيل كان يتردد على إيران»، وتساءلت مصادر عما إذا كانت جهات إيرانية أرشدت عن تحركاته.

في قرية صغيرة تتبع لولاية قندهار، في جنوب أفغانستان، التي يطلق عليها الأفغان منذ زمن بعيد لقب «عاصمة الجنوب الأفغاني» و«عاصمة صناعة القرار السياسي» في البلاد؛ كونها الولاية التي ينتمي إليها غالبية رؤساء أفغانستان قديمًا وحديثًا، ولد زعيم حركة طالبان الجديد الملا هبة الله أخوندزادة.
الزعيم الجديد «الخمسيني» ولد، تحديدًا، في بلدة سبين بولدك القريبة من مدينة كويتا الباكستانية. وهو ينتمي إلى عرقية الباشتون الكبيرة والمنتشرة في جنوب أفغانستان، كما أنها الجماعة العرقية التي ينحدر منها غالبية مقاتلي وقادة طالبان، ومنهم سلفاه الزعيمان السابقان الراحلان الملا محمد عمر والملا أختر منصور.
ولقد تعلّم في المدارس الدينية منذ صغره داخل أفغانستان، حيث تنقل من مدرسة دينية إلى أخرى في ولاية قندهار، وبالمناسبة كان أبوه فقيهًا أيضًا. ثم انتقل إلى باكستان المجاورة، حيث أكمل دراسة العلوم الشرعية في مدارسها الدينية المنتشرة بمناطق القبائل.
* عهد الاجتياح السوفياتي
في عهد الاجتياح السوفياتي السابق لأفغانستان قاتل الملا هبة الله في صفوف «المجاهدين» الأفغان ضد القوات السوفياتية، وبالذات، ضمن قوات قائد طالبان السابق الملا أختر منصور الذي قتل في غارة أميركية بطائرة من دون طيار (درون)، قبل أن يتولى هبة الله زعامة طالبان. وتجدر الإشارة إلى أن الملا هبة الله أخوندزادة، كان ينتمي من الناحية التنظيمية إلى حزب الشيخ مولوي محمد يونس خالص، القيادي البارز بين «المجاهدين» السابق الذي يعد أحد قادة «المجاهدين» السبعة الذين قاتلوا ضد السوفيات في ولايات الشرق الأفغاني.
بعدها، في أيام طالبان، عين الشيخ هبة الله على رأس دائرة القضاء العسكري في «حكومة» طالبان. وفي أعقاب الإطاحة بنظام الحركة من قبل القوات الأميركية وقوات تحالف شمال السابق بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
عيّن الملا هبة الله مجددًا على رأس المحاكم التابعة لطالبان في مناطق سيطرتها في الداخل الأفغاني، وكذلك في مدينة كويتا، حيث مقر مجلس شورى طالبان، وذلك إلى أن عيّن زعيما جديدا للحركة عقب تصفية أختر منصور في كويتا.
ما يستحق الإشارة، أن إعلان طالبان تعيين هبة الله أخوندزادة زعيمًا جديدًا لها أثار جدلاً حول شخصه، ولا سيما أن المعلومات المتاحة عنه قليلة. إلا أن المتحدث باسم الجماعة، ذبيح الله مجاهد، قال لحظة إعلان التعيين على مواقع التواصل الاجتماعي «إن هبة الله أخوندزادة يبلغ من العمر 55 سنة، وينتسب لقبيلة نورزائي البشتونية». ووصف ذبيح الله مجاهد زعيم طالبان الجديد بأنه كان «قاضي قضاة طالبان».
ومن ثم شرح أنه كان يحتل منصب مساعد القائد أو الزعيم الراحل الملا أختر منصور، الذي كان قد خلف الزعيم الأول الملا محمد عمر.
* مكانة شرعية دينية
وحول المكانة العلمية والدينية للزعيم الجديد، أطلق عليه البعض لقبي «المولوي» و«شيخ الحديث». ومما يذكر أنه بجانب تعيين هبة الله زعيمًا جرى تعيين نائبين له هما سراج الدين حقاني والملا محمد يعقوب (ابن زعيم الجماعة الأول والأسبق الملا محمد عمر). كذلك تفيد مصادر جيدة الاطلاع بأن «الملا هبة الله كان بالفعل قريبًا جدًا من سلفه الملا أختر منصور، لكنه ليس خبيرًا في الشؤون العسكرية بمقدار خبرته في شؤون الشريعة والدين».
ثم على الرغم من أنه غير معروف، نسبيًا، فإن قاضي الشرع له نفوذ كبير داخل التنظيم، وكان يدير نظامه الشرعي. وفي المقابل، يرى بعض المحللين أن مهمته الجديدة على رأس الحركة تحمل طابعًا رمزيًا أكثر منه عملانيًا.
وحقًا، بقي الزعيم الجديد بعيدًا من ساحات المعارك، كما ظل حتى الأمس القريب شخصية يحوطها التكتم داخل طالبان. ويقول توماس روتيغ، المحلل في أحد مراكز الأبحاث الأفغانية، إن هبة الله «كان قريبًا من الملا عمر؛ إذ إن الأخير كان يطلب مشورته في أمور الدين». وتشير بعض المصادر في حركة طالبان إلى أنه لجأ إلى جنوب باكستان حين أطيح بنظام طالبان إثر الاجتياح الأميركي في 2001، وهناك تولّى إمامة مسجد محلي. وبعد ذلك، تدرّج في مواقع القضاء، فعيّن قاضي الشرع في الحركة وعضوًا في مجلس العلماء، وبناءً عليه أصدر الكثير من الفتاوى. وتذهب وكالة أنباء «باجهوك» الأفغانية في شرحها لسيرته الذاتية «أصبح هبة الله خلال حكم طالبان نائبا لرئيس العدل، وبعد الغزو الأميركي في 2001 أصبح رئيسًا للعدل، وكان المساعد الشخصي للملا عمر بعد سقوط نظام طالبان، وبعد وفاة هذا الأخير؛ أصبح رئيس اللجنة السياسية والقضائية داخل حركة طالبان».
من ناحية أخرى، يعرف عن الزعيم الجديد أنه كان «متشدّدًا حتى مع أعضاء الحركة، حيث كان يصدر أحكاما قاسية خلال توليه منصب رئيس المحاكم في قندهار، وصولا إلى إصدار حكم بالإعدام في حق أي شخص يشكك في قيادة الملا منصور. ونتيجة لذلك؛ قتل الكثير من قادة القبائل. كما أن هناك شائعات تقول إن الملا هبة الله كان يعارض نشر الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بحركة طالبان في وسائل الإعلام».
* ظروف اختياره
ويدلي الخبير أمير رانا بدلوه فيقول عن الملا هبة الله «الجميع يحترمه؛ نظرًا لما أصدره من فتاوى تنسجم مع أنشطتهم في أفغانستان. أعتقد بناء عليه أنه يتقدم على سواه من الناحية المعنوية في صفوف طالبان». أما روتيغ فيشدد على أنه «ليس معروفًا جدًا خارج أوساط طالبان، لكنه كان معروفًا داخل صفوفها». ويضيف أنه «نشط، خصوصا في سعيه للحفاظ على وحدة طالبان التي شهدت انشقاقات إثر إعلان وفاة مؤسسها الملا عمر». وعين الملا منصور، الذي اختير الصيف الماضي على رأس طالبان بعد فترة طويلة من البقاء في الظل، الملا هبة الله نائبا له إلى جانب سراج الدين حقاني الشبكة القوية المتحالفة مع طالبان.
الخبير يوسف زاي يرى أن الزعيم الجديد «يمثل الوضع الراهن. وسيواصل الخط السياسي ذاته للملا منصور، ولن يجري مفاوضات». أما رانا فيرى أنه «يعدّ من أنصار مفاوضات السلام (…) لكن ليس بإمكانه القيام بأي شيء من دون إجماع مجلس الشورى» (أي القيادة العليا في الحركة). وفي رأي كثيرين، فإن هبة الله «سيكون قائدا رمزيا أكثر منه عملانيًا، وستترك الإدارة اليومية للحركة على الصعيدين العسكري والسياسي في أيدي مساعديه، والذات الملا يعقوب النجل الأكبر للملا عمر، وسراج الدين حقاني».
من جهة ثانية، يقول نظر محمد مطمين، وهو كاتب ومحلل سياسي أفغاني، أنه منذ نحو 15 سنة، يَعدّ مجلس قيادة طالبان، القائد الجديد هبة الله، عالما روحيًا ودينيًا يحظى باحترام فائق». ويضيف مطمين، الذي تمكن من نشر السيرة الذاتية للقائد الجديد باللغة الأفغانية المحلية (الباشتو)، أنه «حصل على هذه المعلومات عبر أصدقاء هبة الله، وآخرين مقربين منه». ويضيف الباحث مطمين أن «هبة الله له شخصية مستقلة ولا تؤثر فيه أبدأ المشاعر والعواطف، كما أن عمله في المحاكم أكسبه القدرة على ضبط النفس بشكل جيد».
وهنا، يقول عبد الرحمن زاهد، نائب وزير الخارجية السابق لحركة طالبان، في مقابلة مع صحافة محلية ودولية: إن «الملا منصور كان أكثر مرونة وخبرة، وأكثر انفتاحًا لاستئناف عملية السلام»، مضيفا أن «الملا هبة الله لا يقبل الحوار، كما أنه ما زال يحافظ على المواقف القبلية التقليدية، حيث إنه يستغرق وقتا طويلا لمباشرة أي عملية سياسية».
ويوافق على ذلك أحد قادة طالبان المنشقين عن الحركة فيقول: «إن الزعيم الجديد، الذي يقيم في مدينة كويتا الباكستانية، لا يملك شخصية قوية مثل الملا عمر، وليس مواكبا للعصر مثل الملا منصور، فهو القائد الأكثر عنادا وتعقيدا»، متابعًا أن «استئناف محادثات السلام مع الحركة في ظل قيادة الملا هبة الله سيكون أكبر مفاجأة».
* أسئلة بالجملة
بناءً على ما سبق ثمة أسئلة تطرح نفسها بالنسبة لمواقف الزعيم الجديد وخياراته، أبرزها ما يلي:
هل سيستطيع الزعيم الجديد توحيد طالبان المفككة المشتتة، وتوحيد المنشقين عنها بعد وفاة الزعيم المؤسس الملا عمر؟... وهل سيكون لديه العزم والقدرة على استئناف مفاوضات السلام مع الحكومة الأفغانية؟
ثم هل سيستطيع التعامل مع الوضع العسكري الجديد في أفغانستان، خصوصًا، بعد إعلان الإدارة الأميركية استئناف العمليات الجوية والحضور المباشر في الهجمات مع القوات الأفغانية ضد تمدد طالبان؟ وكيف سيتعامل مع ملف المصالحة المتعثر؟
وأخيرًا، هل يستطيع إصلاح وضع الحركة مع باكستان وضمان استمرار الأخيرة بمساعدة طالبان في مواصلة حربها؟
كلها أسئلة ستجيب عنها الأيام المقبلة.



الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
TT

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)
الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر والمؤامرات» و«المتآمرين» على أمن الدولة. كما كثف سعيّد لقاءاته بمسؤولي وزارتي الدفاع والداخلية وأعضاء مجلس الأمن القومي الذي يضم كذلك أكبر قيادات القوات المسلحة العسكرية والمدنية إلى جانب رئيسَي الحكومة والبرلمان ووزراء السيادة وكبار مستشاري القصر الرئاسي. وزاد الاهتمام بزيادة تفعيل دور القوات المسلحة و«تصدرها المشهد السياسي» بمناسبة مناقشة مشروع ميزانية الدولة للعام الجديد أمام البرلمان بعد تصريحات غير مسبوقة لوزير الدفاع الوطني السفير السابق خالد السهيلي عن «مخاطر» تهدد أمن البلاد الداخلي والخارجي.

تصريحات وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي تزامنت مع تصريحات أخرى صدرت عن وزير الداخلية خالد النوري وعن وزير الدولة للأمن القاضي سفيان بالصادق وعن الرئيس قيس سعيّد شخصياً. وهي كلها حذّرت من مخاطر الإرهاب والتهريب والمتفجرات والهجرة غير النظامية، ونبّهت إلى وجود «محاولات للنيل من سيادة تونس على كامل ترابها الوطني ومياهها الإقليمية» وعن «خلافات» لم تُحسم بعد و«غموض» نسبي في العلاقات مع بعض دول المنطقة.

وهنا نشير إلى أن اللافت في هذه التصريحات والمواقف كونها تأتي مع بدء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس قيس سعيّد، ومع مصادقة البرلمان على مشروع الحكومة لموازنة عام 2025... وسط تحذيرات من خطر أن تشهد تونس خلال العام أزمات أمنية وسياسية واقتصادية اجتماعية خطيرة.

أكثر من هذا، يتساءل البعض عن مبرّر إثارة القضايا الخلافية مع ليبيا، والمخاطر الأمنية من قِبل كبار المسؤولين عن القوات المسلحة، في مرحلة تعذّر فيها مجدداً عقد «القمة المغاربية المصغرة التونسية - الليبية - الجزائرية»... التي سبق أن تأجلت مرات عدة منذ شهر يوليو (تموز) الماضي.

كلام السهيلي... وزيارة سعيّد للجزائركلام السهيلي، وزير الدفاع، جاء أمام البرلمان بعد نحو أسبوع من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى الجزائر، وحضوره هناك الاستعراض العسكري الضخم الذي نُظّم بمناسبة الذكرى السبعين لانفجار الثورة الجزائرية المسلحة. وما قاله الوزير التونسي أن «الوضع الأمني في البلاد يستدعي البقاء على درجة من اليقظة والحذر»، وقوله أيضاً إن «المجهودات العسكرية الأمنية متضافرة للتصدّي للتهديدات الإرهابية وتعقّب العناصر المشبوهة في المناطق المعزولة». إلى جانب إشارته إلى أن تونس «لن تتنازل عن أي شبر من أرضها» مذكراً - في هذا الإطار - بملف الخلافات الحدودية مع ليبيا.

من جهة ثانية، مع أن الوزير السهيلي ذكر أن الوضع الأمني بالبلاد خلال هذا العام يتسم بـ«الهدوء الحذر»، فإنه أفاد في المقابل بأنه جرى تنفيذ 990 عملية في «المناطق المشبوهة» - على حد تعبيره - شارك فيها أكثر من 19 ألفاً و500 عسكري. وأنجز هؤلاء خلال العمليات تفكيك 62 لغماً يدوي الصنع، وأوقفوا آلاف المهرّبين والمهاجرين غير النظاميين قرب الحدود مع ليبيا والجزائر، وحجزوا أكبر من 365 ألف قرص من المخدرات.

بالتوازي، كشف وزير الدفاع لأول مرة عن تسخير الدولة ألفي عسكري لتأمين مواقع إنتاج المحروقات بعد سنوات من الاضطرابات وتعطيل الإنتاج والتصدير في المحافظات الصحراوية المتاخمة لليبيا والجزائر.

مهاجرون عبر الصحراء الكبرى باتجاه اوروبا عبر ليبيا وتونس (رويترز)

تفعيل دور «القوات المسلحة»

تصريحات الوزير السهيلي لقيت أصداء كبيرة، محلياً وخارجياً، في حين اعترض على جانب منها سياسيون وإعلاميون ليبيون بارزون.

بيد أن الأمر الأهم، وفق البشير الجويني، الخبير التونسي في العلاقات بين الدول المغاربية والدبلوماسي السابق لدى ليبيا، أنها تزامنت مع «تأجيل» انعقاد القمة المغاربية التونسية - الليبية - الجزائرية التي سبق الإعلان أنه تقرر تنظيمها في النصف الأول من الشهر الأول في ليبيا، وذلك في أعقاب تأخير موعدها غير مرة بسبب انشغال كل من الجزائر وتونس بالانتخابات الرئاسية، واستفحال الأزمات السياسية الأمنية والاقتصادية البنكية في ليبيا من جديد.

والحال، أن الجويني يربط بين هذه العوامل والخطوات الجديدة التي قام بها الرئيس سعيّد وفريقه في اتجاه «مزيد من تفعيل دور القوات المسلحة العسكرية والمدنية» وسلسلة اجتماعاته مع وزيري الداخلية والدفاع ومع وزير الدولة للأمن الوطني، فضلاً عن زياراته المتعاقبة لمقر وزارة الداخلية والإشراف على جلسات عمل مع كبار كوادرها ومع أعضاء «مجلس الأمن القومي» في قصر الرئاسة بقرطاج. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذ يسند الدستور إلى رئيس الدولة صفة «القائد العام للقوات المسلحة»، فإن الرئيس سعيّد حمّل مراراً المؤسستين العسكرية والأمنية مسؤولية «التصدي للخطر الداهم» ولمحاولات «التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي».

واعتبر سعيّد خلال زيارات عمل قام بها إلى مؤسسات عمومية موسومة بأنه «انتشر فيها الفساد» - بينها مؤسسات زراعية وخدماتية عملاقة - أن البلاد تواجه «متآمرين من الداخل والخارج» وأنها في مرحلة «كفاح جديد من أجل التحرر الوطني»، ومن ثم، أعلن إسناده إلى القوات المسلّحة مسؤولية تتبع المشتبه فيهم في قضايا «التآمر والفساد» والتحقيق معهم وإحالتهم على القضاء.

المسار نفسه اعتمده، في الواقع، عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين التونسيين بينهم وزير الصحة والوزير المستشار السابق في قصر قرطاج الجنرال مصطفى الفرجاني، الذي أعلن بدوره عن إحالة مسؤولين متهمين بـ«شبهة الفساد» في قطاع الصحة على النيابة العمومية والوحدات الأمنية المركزية المكلّفة «الملفات السياسية والاقتصادية الخطيرة»، وبين هذه الملفات الإرهاب وسوء التصرّف المالي والإداري في أموال الدولة ومؤسساتها.

متغيرات في العلاقات مع ليبيا والجزائر وملفَي الإرهاب والهجرة

القمة المغاربية الأخيرة التي استضافتها الجزائر (لانا)

حملات غير مسبوقة

وفعلاً، كانت من أبرز نتائج «التفعيل الجديد» للدور الوطني للمؤسستين العسكرية والأمنية، وتصدّرهما المشهد السياسي الوطني التونسي، أن نظّمت النيابة العمومية وقوات الأمن والجيش حملات غير مسبوقة شملت «كبار الحيتان» في مجالات تهريب المخدرات والممنوعات، وتهريب عشرات آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء سنوياً نحو تونس، عبر الحدود الليبية والجزائرية تمهيداً لترحيلهم بحراً نحو أوروبا عبر إيطاليا.

وحسب المعلومات التي ساقها كل من وزيري الدفاع والداخلية، وأيضاً رئاسة الحرس الوطني، تمكنت القوات العسكرية والأمنية لأول مرة من أن تحجز مئات الكيلوغرامات من الكوكايين إلى جانب «كميات هائلة من الحشيش» والأقراص المخدرة.

وفي الحصيلة، أدّت تلك العمليات إلى إيقاف عدد من كبار المهرّبين ومن رؤوس تجار المخدرات «بقرار رئاسي»، بعدما أثبتت دراسات وتقارير عدة أن مئات الآلاف من أطفال المدارس، وشباب الجامعات، وأبناء الأحياء الشعبية، تورّطوا في «الإدمان» والجريمة المنظمة. وجاء هذا الإنجاز بعد عقود من «تتبّع صغار المهرّبين والمستهلكين للمخدرات وغضّ الطرف عن كبار المافيات»، على حد تعبير الخبير الأمني والإعلامي علي الزرمديني في تصريح لـ«الشرق الأوسط».

تحرّكات أمنية عسكرية دوليةعلى صعيد آخر، جاء تصدّر القوات المسلحة العسكرية والأمنية التونسية المشهدين السياسي متلازماً زمنياً مع ترفيع التنسيقين الأمني والعسكري مع عواصم وتكتلات عسكرية دولية، بينها حلف شمال الأطلسي (ناتو) وقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم). وما يُذكر هنا أنه في ظل عودة التوترات السياسية في ليبيا، وتفاقم الخلافات داخلها بين حلفاء روسيا وتركيا والعواصم الغربية، تزايدت الاهتمامات الأميركية والأوروبية والأطلسية بـ«ترفيع الشراكة الأمنية والعسكرية مع تونس».

أيضاً، ورغم الحملات الإعلامية الواسعة في تونس ضد الإدارة الأميركية وحلفائها منذ عملية «طوفان الأقصى»؛ بسبب انحيازها لإسرائيل ودعمها حكومة بنيامين نتنياهو، كثّفت واشنطن - عبر بعثاتها في المنطقة - دعمها التدريبات العسكرية والأمنية المشتركة مع قوات الجيش والأمن التونسية.

بل، لقد أعلن جوي هود، السفير الأميركي لدى تونس، عن برامج واسعة لترفيع دور «الشراكة» العسكرية والأمنية الأميركية - التونسية، وبخاصة في المحافظات التونسية الحدودية مع كل من ليبيا والجزائر، وأيضاً في ميناء بنزرت العسكري (شمال تونس) ومنطقة النفيضة (100 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس).

وإضافة إلى ما سبق، أعلنت مصادر رسمية تونسية وأميركية عن مشاركة قوات تونسية ومغاربية أخيراً في مناورات عسكرية بحرية أميركية دولية نُظمت في سواحل تونس. وجاءت هذه المناورات بعد مشاركة الجيش التونسي، للعام الثالث على التوالي، في مناورات «الأسد الأفريقي» الدولية المتعددة الأطراف... التي نُظم جانب منها في تونس برعاية القوات الأميركية.

وحول هذا الأمر، أكد وزير الداخلية التونسي خالد النوري، قبل أيام في البرلمان، أن من بين أولويات وزارته عام 2025 «بناء أكاديمية الشرطة للعلوم الأمنية» في منطقة النفيضة من محافظة سوسة، وأخرى لحرس السواحل، وهذا فضلاً عن توسيع الكثير من الثكنات ومراكز الأمن والحرس الوطنيين وتهيئة مقر المدرسة الوطنية للحماية المدنية.

أبعاد التنسيقين الأمني والعسكري مع واشنطنوحقاً، أكد تصريح الوزير النوري ما سبق أن أعلن عنه السفير الأميركي هود عن «وجود فرصة لتصبح تونس ومؤسّساتها الأمنية والعسكرية نقطة تصدير للأمن وللتجارب الأمنية في أفريقيا وفي كامل المنطقة».

وفي هذا الكلام إشارة واضحة إلى أن بعض مؤسسات التدريب التي يدعمها «البنتاغون» (وزارة الدفاع الأميركية)، وحلفاء واشنطن في «ناتو»، معنية في وقت واحد بأن تكون تونس طرفاً في «شراكة أمنية عسكرية أكثر تطوراً» مع ليبيا وبلدان الساحل والصحراء الأفريقية والبلدان العربية.

وزير الداخلية خالد النوري نوّه أيضاً بكون جهود تطوير القدرات الأمنية لتونس «تتزامن مع بدء العهدتين الثانيتين للرئيس قيس سعيّد وأخيه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون».

وفي السياق ذاته، نوّه عزوز باعلال، سفير الجزائر لدى تونس، بالشراكة الاقتصادية والأمنية والسياسية بين تونس والجزائر، وبنتائج زيارة الرئيس سعيّد الأخيرة للجزائر، وكذلك بجلسات العمل واللقاءات السبعة التي عقدها وزيرا خارجيتي البلدين محمد علي النفطي وأحمد عطّاف خلال الأسابيع القليلة الماضية في الجزائر وفي عواصم أخرى عدة.

حقائق

قضايا الحدود التونسية... شرقاً وغرباً

اقترن بدء الولاية الرئاسية الثانية التونسي للرئيس قيس سعيّد بتحرّكات قام بها مسؤولون كبار في الدولة إلى مؤسسات الأمن والجيش في المحافظات الحدودية، وبالأخص من جهة ليبيا، ضمن جهود مكافحة الإرهاب والتهريب والمخدرات.ومعلوم أنه زاد الاهتمام بالأبعاد الأمنية في علاقات تونس بجارتيها ليبيا والجزائر بعد إثارة وزير الدفاع خالد السهيلي أمام البرلمان ملف «رسم الحدود» الشرقية لتونس من قِبل «لجنة مشتركة» تونسية - ليبية. وكما سبق، كان الوزير السهيلي قد تطرّق إلى استغلال الأراضي الواقعة بين الحاجز الحدودي بين ليبيا وتونس، قائلاً إن «تونس لم ولن تسمح بالتفريط في أي شبر من الوطن». وفي حين رحّبت أطراف ليبية ومغاربية بهذا الإعلان، انتقده عدد من المسؤولين والخبراء الليبيين بقوة واعتبروا أن «ملف الخلافات الحدودية أغلق منذ مدة طويلة».ولكن، حسب تأكيدات مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط»، فإن السلطات الليبية أعلنت عن تغيير موقع العلامة الحدودية الفاصلة بين ليبيا وتونس «جزئياً» في منطقة سانية الأحيمر، التي تتبع ليبيا. إذ أورد بيان مديرية أمن السهل الغربي في يوليو (تموز) 2022، أنها رصدت ضم سانية الأحيمر إلى الأراضي التونسية، من خلال وضع العلامة الدالة على الحدود بذلك المكان (شرق السانية) بمسافة تقدر بنحو 150 متراً شرقاً ونحو 6 كيلو جنوباً.‏ما يستحق الإشارة هنا أن اللجنة الخاصة بترسيم الحدود الليبية مع تونس، والمكلفة من قِبل وزارة الدفاع في حكومة طرابلس، كشفت عن وجود عملية «تحوير» للعلامة. لكن مصادر دبلوماسية من الجانبين أكدت أن هذه القضية، وغيرها من «الخلافات والمستجدات»، جارٍ بحثها على مستوى اللجنة المشتركة ومن قِبل المسؤولين السياسيين والديبلوماسيين «بهدوء».في أي حال، أعادت إثارة هذه القضية إلى الواجهة تصريحاً سابقاً قال فيه الرئيس سعيّد بشأن الحدود مع ليبيا: «إن تونس لم تحصل إلا على الفتات» بعد خلافها الحدودي البحري مع ليبيا في فترة سبعينات القرن الماضي.والحقيقة، أنه سبق أن شهدت علاقات تونس وليبيا في أوقات سابقة توترات محورها الحدود والمناطق الترابية المشتركة بينهما؛ وذلك بسبب خلافات حدودية برّية وبحرية تعود إلى مرحلة الاحتلالين الفرنسي لتونس والإيطالي لليبيا، ثم إلى «التغييرات» التي أدخلتها السلطات الفرنسية على حدود مستعمراتها في شمال أفريقيا خلال خمسينات القرن الماضي عشية توقيع اتفاقيات الاستقلال. وهكذا، بقيت بعض المناطق الصحراوية الحدودية بين تونس وكل من ليبيا والجزائر «مثار جدل» بسبب قلة وضوح الترسيم وتزايد الأهمية الاستراتيجية للمناطق الحدودية بعد اكتشاف حقول النفط والغاز.وعلى الرغم من توقيع سلطات تونس وليبيا والجزائر اتفاقيات عدة لضبط الحدود والتعاون الأمني، تضاعف الاضطرابات الأمنية والسياسية في المنطقة منذ عام 2011 بسبب اندلاع حروب جديدة «بالوكالة» داخل ليبيا ودول الساحل والصحراء، بعضها بين جيوش و«ميليشيات» تابعة لواشنطن وموسكو وباريس وأنقرة على مواقع جيو - استراتيجية شرقاً غرباً.مع هذا، وفي كل الأحوال، تشهد علاقات تونس وكل من ليبيا والجزائر مستجدات سريعة على المجالين الأمني والعسكري. وربما تتعقد الأوضاع أكثر في المناطق الحدودية بعدما أصبحت التوترات والخلافات تشمل ملفات أمنية دولية تتداخل فيها مصالح أطراف محلية وعالمية ذات «أجندات» مختلفة وحساباتها للسنوات الخمس المقبلة من الولاية الثانية للرئيسين سعيّد وعبد المجيد تبّون.