الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

من هو زعيم حركة طالبان الجديد؟

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة
TT

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

الملا هبة الله.. من القضاء إلى القيادة

أعلنت حركة طالبان في أفغانستان خلال الأسبوع الأخير من مايو (أيار) الماضي تعيين الملا هبة الله أخوندزادة خلفًا لزعيمها القتيل الملا أختر منصور. وكان منصور قد قتل في غارة شنتها طائرة أميركية من دون طيار (درون)، قبل بضعة أيام، وقيل في حينه «إن الزعيم القتيل كان يتردد على إيران»، وتساءلت مصادر عما إذا كانت جهات إيرانية أرشدت عن تحركاته.

في قرية صغيرة تتبع لولاية قندهار، في جنوب أفغانستان، التي يطلق عليها الأفغان منذ زمن بعيد لقب «عاصمة الجنوب الأفغاني» و«عاصمة صناعة القرار السياسي» في البلاد؛ كونها الولاية التي ينتمي إليها غالبية رؤساء أفغانستان قديمًا وحديثًا، ولد زعيم حركة طالبان الجديد الملا هبة الله أخوندزادة.
الزعيم الجديد «الخمسيني» ولد، تحديدًا، في بلدة سبين بولدك القريبة من مدينة كويتا الباكستانية. وهو ينتمي إلى عرقية الباشتون الكبيرة والمنتشرة في جنوب أفغانستان، كما أنها الجماعة العرقية التي ينحدر منها غالبية مقاتلي وقادة طالبان، ومنهم سلفاه الزعيمان السابقان الراحلان الملا محمد عمر والملا أختر منصور.
ولقد تعلّم في المدارس الدينية منذ صغره داخل أفغانستان، حيث تنقل من مدرسة دينية إلى أخرى في ولاية قندهار، وبالمناسبة كان أبوه فقيهًا أيضًا. ثم انتقل إلى باكستان المجاورة، حيث أكمل دراسة العلوم الشرعية في مدارسها الدينية المنتشرة بمناطق القبائل.
* عهد الاجتياح السوفياتي
في عهد الاجتياح السوفياتي السابق لأفغانستان قاتل الملا هبة الله في صفوف «المجاهدين» الأفغان ضد القوات السوفياتية، وبالذات، ضمن قوات قائد طالبان السابق الملا أختر منصور الذي قتل في غارة أميركية بطائرة من دون طيار (درون)، قبل أن يتولى هبة الله زعامة طالبان. وتجدر الإشارة إلى أن الملا هبة الله أخوندزادة، كان ينتمي من الناحية التنظيمية إلى حزب الشيخ مولوي محمد يونس خالص، القيادي البارز بين «المجاهدين» السابق الذي يعد أحد قادة «المجاهدين» السبعة الذين قاتلوا ضد السوفيات في ولايات الشرق الأفغاني.
بعدها، في أيام طالبان، عين الشيخ هبة الله على رأس دائرة القضاء العسكري في «حكومة» طالبان. وفي أعقاب الإطاحة بنظام الحركة من قبل القوات الأميركية وقوات تحالف شمال السابق بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
عيّن الملا هبة الله مجددًا على رأس المحاكم التابعة لطالبان في مناطق سيطرتها في الداخل الأفغاني، وكذلك في مدينة كويتا، حيث مقر مجلس شورى طالبان، وذلك إلى أن عيّن زعيما جديدا للحركة عقب تصفية أختر منصور في كويتا.
ما يستحق الإشارة، أن إعلان طالبان تعيين هبة الله أخوندزادة زعيمًا جديدًا لها أثار جدلاً حول شخصه، ولا سيما أن المعلومات المتاحة عنه قليلة. إلا أن المتحدث باسم الجماعة، ذبيح الله مجاهد، قال لحظة إعلان التعيين على مواقع التواصل الاجتماعي «إن هبة الله أخوندزادة يبلغ من العمر 55 سنة، وينتسب لقبيلة نورزائي البشتونية». ووصف ذبيح الله مجاهد زعيم طالبان الجديد بأنه كان «قاضي قضاة طالبان».
ومن ثم شرح أنه كان يحتل منصب مساعد القائد أو الزعيم الراحل الملا أختر منصور، الذي كان قد خلف الزعيم الأول الملا محمد عمر.
* مكانة شرعية دينية
وحول المكانة العلمية والدينية للزعيم الجديد، أطلق عليه البعض لقبي «المولوي» و«شيخ الحديث». ومما يذكر أنه بجانب تعيين هبة الله زعيمًا جرى تعيين نائبين له هما سراج الدين حقاني والملا محمد يعقوب (ابن زعيم الجماعة الأول والأسبق الملا محمد عمر). كذلك تفيد مصادر جيدة الاطلاع بأن «الملا هبة الله كان بالفعل قريبًا جدًا من سلفه الملا أختر منصور، لكنه ليس خبيرًا في الشؤون العسكرية بمقدار خبرته في شؤون الشريعة والدين».
ثم على الرغم من أنه غير معروف، نسبيًا، فإن قاضي الشرع له نفوذ كبير داخل التنظيم، وكان يدير نظامه الشرعي. وفي المقابل، يرى بعض المحللين أن مهمته الجديدة على رأس الحركة تحمل طابعًا رمزيًا أكثر منه عملانيًا.
وحقًا، بقي الزعيم الجديد بعيدًا من ساحات المعارك، كما ظل حتى الأمس القريب شخصية يحوطها التكتم داخل طالبان. ويقول توماس روتيغ، المحلل في أحد مراكز الأبحاث الأفغانية، إن هبة الله «كان قريبًا من الملا عمر؛ إذ إن الأخير كان يطلب مشورته في أمور الدين». وتشير بعض المصادر في حركة طالبان إلى أنه لجأ إلى جنوب باكستان حين أطيح بنظام طالبان إثر الاجتياح الأميركي في 2001، وهناك تولّى إمامة مسجد محلي. وبعد ذلك، تدرّج في مواقع القضاء، فعيّن قاضي الشرع في الحركة وعضوًا في مجلس العلماء، وبناءً عليه أصدر الكثير من الفتاوى. وتذهب وكالة أنباء «باجهوك» الأفغانية في شرحها لسيرته الذاتية «أصبح هبة الله خلال حكم طالبان نائبا لرئيس العدل، وبعد الغزو الأميركي في 2001 أصبح رئيسًا للعدل، وكان المساعد الشخصي للملا عمر بعد سقوط نظام طالبان، وبعد وفاة هذا الأخير؛ أصبح رئيس اللجنة السياسية والقضائية داخل حركة طالبان».
من ناحية أخرى، يعرف عن الزعيم الجديد أنه كان «متشدّدًا حتى مع أعضاء الحركة، حيث كان يصدر أحكاما قاسية خلال توليه منصب رئيس المحاكم في قندهار، وصولا إلى إصدار حكم بالإعدام في حق أي شخص يشكك في قيادة الملا منصور. ونتيجة لذلك؛ قتل الكثير من قادة القبائل. كما أن هناك شائعات تقول إن الملا هبة الله كان يعارض نشر الصور ومقاطع الفيديو الخاصة بحركة طالبان في وسائل الإعلام».
* ظروف اختياره
ويدلي الخبير أمير رانا بدلوه فيقول عن الملا هبة الله «الجميع يحترمه؛ نظرًا لما أصدره من فتاوى تنسجم مع أنشطتهم في أفغانستان. أعتقد بناء عليه أنه يتقدم على سواه من الناحية المعنوية في صفوف طالبان». أما روتيغ فيشدد على أنه «ليس معروفًا جدًا خارج أوساط طالبان، لكنه كان معروفًا داخل صفوفها». ويضيف أنه «نشط، خصوصا في سعيه للحفاظ على وحدة طالبان التي شهدت انشقاقات إثر إعلان وفاة مؤسسها الملا عمر». وعين الملا منصور، الذي اختير الصيف الماضي على رأس طالبان بعد فترة طويلة من البقاء في الظل، الملا هبة الله نائبا له إلى جانب سراج الدين حقاني الشبكة القوية المتحالفة مع طالبان.
الخبير يوسف زاي يرى أن الزعيم الجديد «يمثل الوضع الراهن. وسيواصل الخط السياسي ذاته للملا منصور، ولن يجري مفاوضات». أما رانا فيرى أنه «يعدّ من أنصار مفاوضات السلام (…) لكن ليس بإمكانه القيام بأي شيء من دون إجماع مجلس الشورى» (أي القيادة العليا في الحركة). وفي رأي كثيرين، فإن هبة الله «سيكون قائدا رمزيا أكثر منه عملانيًا، وستترك الإدارة اليومية للحركة على الصعيدين العسكري والسياسي في أيدي مساعديه، والذات الملا يعقوب النجل الأكبر للملا عمر، وسراج الدين حقاني».
من جهة ثانية، يقول نظر محمد مطمين، وهو كاتب ومحلل سياسي أفغاني، أنه منذ نحو 15 سنة، يَعدّ مجلس قيادة طالبان، القائد الجديد هبة الله، عالما روحيًا ودينيًا يحظى باحترام فائق». ويضيف مطمين، الذي تمكن من نشر السيرة الذاتية للقائد الجديد باللغة الأفغانية المحلية (الباشتو)، أنه «حصل على هذه المعلومات عبر أصدقاء هبة الله، وآخرين مقربين منه». ويضيف الباحث مطمين أن «هبة الله له شخصية مستقلة ولا تؤثر فيه أبدأ المشاعر والعواطف، كما أن عمله في المحاكم أكسبه القدرة على ضبط النفس بشكل جيد».
وهنا، يقول عبد الرحمن زاهد، نائب وزير الخارجية السابق لحركة طالبان، في مقابلة مع صحافة محلية ودولية: إن «الملا منصور كان أكثر مرونة وخبرة، وأكثر انفتاحًا لاستئناف عملية السلام»، مضيفا أن «الملا هبة الله لا يقبل الحوار، كما أنه ما زال يحافظ على المواقف القبلية التقليدية، حيث إنه يستغرق وقتا طويلا لمباشرة أي عملية سياسية».
ويوافق على ذلك أحد قادة طالبان المنشقين عن الحركة فيقول: «إن الزعيم الجديد، الذي يقيم في مدينة كويتا الباكستانية، لا يملك شخصية قوية مثل الملا عمر، وليس مواكبا للعصر مثل الملا منصور، فهو القائد الأكثر عنادا وتعقيدا»، متابعًا أن «استئناف محادثات السلام مع الحركة في ظل قيادة الملا هبة الله سيكون أكبر مفاجأة».
* أسئلة بالجملة
بناءً على ما سبق ثمة أسئلة تطرح نفسها بالنسبة لمواقف الزعيم الجديد وخياراته، أبرزها ما يلي:
هل سيستطيع الزعيم الجديد توحيد طالبان المفككة المشتتة، وتوحيد المنشقين عنها بعد وفاة الزعيم المؤسس الملا عمر؟... وهل سيكون لديه العزم والقدرة على استئناف مفاوضات السلام مع الحكومة الأفغانية؟
ثم هل سيستطيع التعامل مع الوضع العسكري الجديد في أفغانستان، خصوصًا، بعد إعلان الإدارة الأميركية استئناف العمليات الجوية والحضور المباشر في الهجمات مع القوات الأفغانية ضد تمدد طالبان؟ وكيف سيتعامل مع ملف المصالحة المتعثر؟
وأخيرًا، هل يستطيع إصلاح وضع الحركة مع باكستان وضمان استمرار الأخيرة بمساعدة طالبان في مواصلة حربها؟
كلها أسئلة ستجيب عنها الأيام المقبلة.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.