الرباط في مواجهة التطرف والإرهاب بأفريقيا

جهود متواصلة لمأسسة الحقل الديني وربطه بـ«النموذج المغربي»

الرباط في مواجهة التطرف والإرهاب بأفريقيا
TT

الرباط في مواجهة التطرف والإرهاب بأفريقيا

الرباط في مواجهة التطرف والإرهاب بأفريقيا

أعاد تنصيب الملك محمد السادس ملك المغرب لـ«المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة» إلى واجهة الدور الديني المغربي التاريخي بأفريقيا، وما تلعبه المملكة من دور فعال في مواجهة الإرهاب الذي يتوسّع في جغرافية القارة السمراء. المبادرة المغربية التي جاءت في حفل داخل جامعة القرويين بفاس يوم الخميس 11 رمضان 1437هـ - 16 يونيو (حزيران) 2016، جمعت 99 عالما وعالمة أفارقة من 30 دولة؛ إلى جانبهم 20 عالما وعالمة مغاربة، في أكبر مؤسسة دينية بالقارة. وتجدر الإشارة إلى أن «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة» أحدثت بظهير ملكي مؤرخ بيوم 6 يونيو 2015. وهي تحت رئاسة الملك. وتهدف المؤسسة بحسب المعطيات التي قدمتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، إلى «صيانة الثوابت العقدية والمذهبية والروحية المشتركة بين المغرب وبلدان أفريقيا، وكذا نشر الحكم الشرعي الصحيح، وإشاعة الفكر الإسلامي المعتدل».
المبادرة المغربية، المشار إليها أعلاه، تأتي في سياق السياسة الدينية الجديدة التي بدأها المغرب بعد الأحداث الإرهابية التي ضربت مدينة الدار البيضاء عام 2003، إذ اعتمد المغرب سياسة داخلية، وأخرى خارجية تهم الجانب الأمني من جهة، ومن جهة أخرى أعادت الدولة هيكلة الحقل الديني ومؤسساته. ففيما يخص المجال الديني، أعيد تفعيل دور «المجلس العلمي الأعلى» باعتباره أعلى مؤسسة دينية تابعة لأمير المؤمنين (الملك) مباشرة، وخوّلت لها حصرا اختصاصات مثل الإفتاء الديني. كذلك أعاد السلطة ونفخ الروح في المجالس العلمية التابعة للمجلس الأعلى والمنتشرة في العمالات (المحافظات) والمدن المغربية، ووسع من عددها ومجالات تدخلها وتأطيرها المباشر للمواطنين دينيا. وخارجيا أحدث تحت إشراف الملك «المجلس العلمي لأوروبا»، سنة 2008، تأطير الجالية المغربية دينيا وحمايتها من التيارات المتطرفة والتشيّع. أما فيما يخص المجال الأمني، فقد تبنى المغرب سياسة جديدة في محاربة الفكر والتنظيمات الإرهابية، اعتمدت تكوين جهاز أمني خاص بالإرهاب، واستطاع بفضل سياسته هذه، التي طورها منذ 2008 في هذا المجال، أن يتحول فاعلاً مركزيًا في شمال أفريقيا، يلعب دورًا متقدمًا في مجال المواجهة الاستباقية للتنظيمات الإرهابية. ولعل هذا ما نقل المغرب من مُطالب للخبرة الأجنبية، إلى مُقدِّم المساعدة والخبرة لدول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا وهولندا، وأخرى أفريقية مثل مالي وبوركينا فاسو والكوت ديفوار، في مجال مكافحة واختراق التنظيمات الإرهابية.
واستمرارًا لسياسة تشبيك ما هو أمني، بما هو عقدي ديني، يبدو أن المغرب بتأسيسه «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة»، وتعيين مجلسها الأعلى، قد يتحول فعليًا إلى قطب ديني أفريقي، مستثمرًا خصوصيته الجو - دينية وإرثه التاريخي في هذا المجال.
لقد كان المغرب لقرون ممتدة أكثر دول شمال أفريقيا، مساهمة في نشر الإسلام والمذهب المالكي في مناطق جنوب الصحراء. وتمكنت الزوايا والطرق المغربية من التغلغل في غرب أفريقيا وبلاد السودان، ووصلت بشكل أقل إلى شرق وجنوب القارة السمراء؛ الشيء الذي دفع بعض المؤرخين لتاريخ أفريقيا، للقول بأن أكثر الزوايا والطرق المنتشرة بأفريقيا، أصولها من شمال أفريقيا. وتعد الطريقة التيجانية أكبر وأهم وأنشط هذه الطرق ذات الأصل المغربي، وتربطها بملك المغرب رابطة البيعة باعتباره «أميرا للمؤمنين». ولا يخفى أن هذا البعد العقدي، أكسب هذه الزاوية بعدا غاية في الأهمية في مجال الدبلوماسية الدينية؛ حيث ما زالت تلعب التيجانية دورا سياسيا في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية، ضد مساندي «جبهة البوليساريو» الانفصالية. كما تواجه إلى جانب الزاوية الدرقاوية والشاذلية، التي ظهرت في المغرب على يد مؤسسها الشيخ المؤسس مولاي عبد السلام بنمشيش، دور الموجه الديني السنّي في غرب أفريقيا. ولدى العودة إلى تركيبة العلماء المكونين لـ«المجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة»، يلاحظ الحضور البارز للنخبة المعروفة، بأئمة وعلماء في المؤسسة، وهو ما يتضح من خلال الأسماء الممثلة للسنغال وموريتانيا وبوركينا فاسو ومالي وغانا وغينيا والسودان وبنين وغيرها.
وفي هذا السياق، يعوّل المغرب لتقوية هذه المؤسسة على توحيد الخطاب الديني وبناء مدرسة فكرية وعقدية معتدلة، ومرتبطة بالنموذج المغربي على امتداد القارة، ما سيمكن فروعها المحدثة بمختلف الدول الأفريقية جنوب الصحراء، من لعب دور مؤسساتي واجتماعي فاعل يشرك العلماء على صعيد أفريقيا في مكافحة التطرف. وهذا الهدف المركزي يشير إليه الظهير ملكي المتعلق بإحداث «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة». إذ ينص الظهير، على أن إنشاء المؤسسة، رغبة من ملك المغرب في «المحافظة على وحدة الدين الإسلامي وصد التيارات الفكرية والعقدية المتطرفة». وكذا «الحرص على حماية العقيدة الإسلامية والوحدة الروحية للشعوب الأفريقية من كل النزاعات والتيارات والأفكار التضليلية التي تمس بقدسية الإسلام ومقاصده».
أما أهداف «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة»، فيلخصها الظهير في: أولاً «توحيد وتنسيق جهود العلماء المسلمين بكل من المغرب وباقي الدول الأفريقية للتعريف بقيم الإسلام السمحة ونشرها». وثانيًا «القيام بمبادرات في إطار كل ما من شأنه تفعيل قيم الدين في كل إصلاح تتوقف عليه عملية التنمية في أفريقيا». وثالثًا «التشجيع على إقامة المراكز والمؤسسات الدينية والعلمية والثقافية».
ووفقا للسياسة المندمجة التي تبناها المغرب في موضوع المواجهة العملية للإرهاب والتطرف بأفريقيا، وارتباطا بالمؤسسة المشار إليها أعلاه وأهدافها، دشن الملك محمد السادس بتاريخ 6 جمادى الثانية 1436هـ موافق 27 مارس (آذار) 2015 «معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات». وتهدف هذه المؤسسة، التي لا يمكن فصلها عن «مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة» - حسب الوزارة المكلفة بالشؤون الدينية المغربية - إلى تكوين (أي إعداد) نخب دينية جديدة وطنية وأجنبية، وفق منظور يعتمد المقاربة المغربية المبنية على ضرورة الحفاظ على المرجعية الدينية «المرتكزة على إمارة المؤمنين والعقيدة الأشعرية والمذهب المالكي والتصوف المستمد من سلوك الإمام الجنيد، وهي ثوابت مشتركة تنتهي أسانيدها إلى المغرب بالنسبة لمجموع أهل بلدان أفريقية الغربية».
كذلك يهدف التكوين الديني بالمعهد إلى الارتباط الوثيق بالهوية المغربية المتميزة بالوسطية والاعتدال والتسامح، ونبذها للتشدد والتطرّف، مع احترام تام للمقومات الخاصة لكل بلاد الأئمة الخاضعين للتكوين بالمعهد. وهو ما يعني، من جهة، أن المملكة المغربية تسعى لتصدير نموذجها الديني لخارج دول غرب أفريقيا، التي تتبنى المذهب المالكي؛ ليصل إلى دول شرق القارة التي تتبع المذهب الشافعي، ومع مناطق تداخل المذاهب الأخرى. ومن جهة ثانية، تهدف إلى تخريج المعهد طاقات بشرية أفريقية محلية مكونة دينيًا، تستطيع مواجهة التشيّع الذي أخد يتوغَّل تدريجيًا في أفريقيا، مع ازدياد استقطاب إيران للبعثات العلمية الطلابية وربطها بالمرجعيات الدينية الشيعية في طهران وقُم.
وحقًا، يبدو أن النموذج المغربي لمحاربة الفكر المتطرف والإرهاب، يلقى إقبالاً متزايدا على المستوى القاري. إذ شهد السنة الأولى من التكوين بـ«معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات»، حضورًا لافتا لكثير من الجنسيات للتكوين في المجال الشرعي. وبدأت هذه العملية بتوصل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، بمراسلات لتكوين الأئمة والاستفادة من الخبرة المغربية، من طرف وزارة الشؤون الدينية بالجمهورية التونسية، والأمانة العامة للشؤون الدينية بجمهورية غينيا، وكذلك معهد الإمامة والخطابة التابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في ليبيا. وبالإضافة إلى هذه الدول، تتلقى حاليا نخبة من أئمة نيجيريا وتشاد ومالي والسنغال وبوركينا فاسو والكوت ديفوار وأئمة فرنسيين، تكوينًا في المجال الديني بمعهد محمد السادس وعلى نفقة المغرب.
وضمن هذه السياسة، يشجع المغرب الطلبة الأفارقة على الدراسة في المغرب، حيث وصل عددهم لحدود عام 2015، نحو 15000 طالب، يدرسون في مختلف الجامعات، ومدرسة «دار الحديث الحسنية»، التي تعد أكبر معهد للدراسات العليا الدينية في المملكة المغربية. وفي هذا الإطار يقدم المغرب منحا دراسية لأكثر من 8 آلاف طالب أفريقي من الذين يستقبلهم.
بكلمة، يمكن القول إن النموذج المغربي في مواجهة الإرهاب بأفريقيا، يتكون من شقّين غير منفصلين: الشق الأمني حيث عقد المغرب في السنوات الأخيرة اتفاقيات أمنية وعسكرية مع بعض الدول الأفريقية تهم التعاون الأمني والعسكري، كما هو الشأن بالنسبة لدولة مالي والسنغال والكوت ديفوار. والشق الفكري العقدي، الذي أخذ المغرب يوليه أهمية قصوى، وتجاوز بذلك سياسته التقليدية القائمة على الزوايا، وانتقل لمأسسة الحقل الديني في بعده الأفريقي، وربطه بالنموذج المغربي الوسطي المعتدل، والمحاربة للتيارات المتطرفة الإرهابية.
* أستاذ العلوم السياسية جامعة محمد الخامس - الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟