فيلم تسجيلي ينفض الغبار عن سيرة مخرج هوليوود برايان دي بالما

يرفع التحية لمخرج قديم

من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
TT

فيلم تسجيلي ينفض الغبار عن سيرة مخرج هوليوود برايان دي بالما

من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو
من فيلم «الشرفاء» من بطولة كيفين كوستنر وشون كونري - «مهمة مستحيلة» حيث تعاون دي بالما مع النجم توم كروز - دي بالما وسط المخرجين نووا بومباك وجايك بولترو

في الفيلم التسجيلي الجديد «دي بالما» يفتح المخرجان نووا بومباك وجايك بولترو صفحات من حياة ومهنة المخرج برايان دي بالما.. ذلك السينمائي الذي رصع السبعينات وما بعدها بأفلام كانت صوت المشاهد المثقف، سواء انتمت إلى المدرسة المستقلة أو إلى المؤسسة الهوليوودية. ‬
مثله في ذلك مثل فرنسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي وكلينت إيستوود ووودي ألن وجون كاربنتر من المخرجين الذين ظهروا في أواخر الستينات ولمعوا في السبعينات، وأكدوا ملكيّتهم بوصفهم سينمائيين أميركيين ذوي منحى فني خاص فيما بعد. يختلف عنهم أنه كان أكثر انتقالاً، خلال عقود سينمائيته، بين المدرسة المستقلة وتلك التابعة للمؤسسة الهوليوودية، لكنه - ومثل كوبولا في هذا الصدد - عامل المدرستين المعاملة الفنية ذاتها، تاركًا بصمته الخاصّة عليهما بالتساوي. ‬
هو مرتاح في غمار أعماله التي لم ترعها، مباشرة على الأقل، شركات كبرى، كما هي الحال في فيلميه «شبح الأوبرا» (1974) و«كاري» (1976)، كما في أفلامه المنتمية مباشرة إلى جمهور السينما السائدة مثل «الشرفاء» (The Untouchables)، و«ذو الوجه المشطوب» (Scarface)، و«مهمّة: مستحيلة» (Mission: Impossible). هذا الأخير كان الأساس الذي بنيت عليه الحلقات السينمائية المتوالية كلها، وهو، لليوم، أفضلها في أكثر من جانب واعتبار.‬
* شقيقتان وجريمة‬
الفيلم الجديد «دي بالما» يؤكد هذه الاستنتاجات، ومعها حقيقة أن المخرج إذ انطلق من سينما الرعب (ولو أن أفلامه التجريبية الأولى لم تكن كذلك) لوّن اتجاهاته الفنية بين التشويق والحربي والأكشن والخيال العلمي والتحري وتعامل جيّدًا مع أبطاله رجالاً كانوا أم نساءً.‬
وُلد دي بالما في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 1940. والده كان جرّاحًا وإلى أي مدى ارتبطت سكين الجراحة ونصلها الحاد والنحيف بأفلام الابن التشويقية، الأولى أمر غير معروف، لكن المؤكد أن دي بالما مال إلى السينما منذ سن مبكرة، ولو أنه كان يدرس العلوم الفيزيائية آنذاك. في سن العشرين أخرج فيلمه الأول بعنوان «Icarus». ذلك كان الأول في سلسلة أفلام قصيرة حققها تباعًا حتى عام 1968، عندما أتيحت له فرصة إخراج فيلمه الروائي الطويل الأول تحت عنوان «جريمة على الموضة» Murder à la Mod. ‬
في ذلك الفيلم، كما في أفلامه اللاحقة في تلك الحقبة، مال دي بالما للجمع بين حدث يتعلق بجريمة قتل ومواقف كوميدية وأسلوب عرض لا يخلو من بذور السينما التجريبية. هذا واضح في «تحيات» و«حفلة العرس» و«هاي موم» على وجه التحديد (من أصل خمسة أفلام حققها ما بين 1968 و1972). ‬
في سنة 1973 وقف فعلاً على قدميه بوصفه مخرجا ملتزما بنص محدد هو نص الفيلم الجامع بين التشويق والرعب. فيلمه الأول في هذا الاتجاه هو «شقيقتان»:‬ الممثلة مارغوت كيدر (لاحقًا الصحافية في فيلمي «سوبرمان» الأوليين) تؤدي دور شقيقتين توأم واحدة عاقلة والأخرى مجنونة كانت أودعت، حسب رواية الأولى، في مصح. شاب يتعرّف على دانيال العاقلة وتدعوه إلى شقتها وتخبره هناك أن المصحة ستفرج عن شقيقتها دومونيك ليوم واحد غدًا بمناسبة عيد ميلادها. الشاب فيليب يقرر شراء قالب حلوى كبير للمناسبة. دومونيك تدخل وتتناول السكين الكبير وتطعن فيليب عدة مرّات وتقتله.
راقبت المشهد صحافية اسمها غرايس (جنيفر سولت) من شقتها المقابلة. اتصلت بالبوليس والبوليس أتى وفتش ولم يجد جثّة ذلك، لأن دانيال اتصلت بزوجها السابق (ويليام فينلي)، وأخبرته ما حدث ومعًا قاما بتنظيف الشقة. ما يحدث بعد ذلك هو توجيه المشاهد لبحر من اللايقين: هل هما شقيقتان فعلاً أو أنهما شخص واحد مصاب بالانفصام؟ هل تستطيع الصحافية إثبات شيء ما أو ستنتهي مجنونة؟ ماذا عن التحري الخاص (الراحل تشارلز دارنينغ) الذي تابع القضية؟
كتب الموسيقى برنارد هرمان، الذي وضع موسيقى عدة أفلام لألفريد هيتشكوك، لكن الرابط الهيتشكوكي لا ينتهي هنا: هناك لمحة من «سايكو» متمثلة بالشخص المصاب بالشيزوفرينيا الحادة ومنوال ازدواجية الشخصية بين الخير والشر، وهناك فعل البصبصة من شقّة إلى أخرى كما في «نافذة خلفية». حتى في التفاصيل: حين تسأل دانيال شقيقتها (غير الموجودة معها) وقد اكتشفت الجريمة الأولى «ماذا فعلت؟» يتردد الصدى وصولاً أنطوني هوبكنز وهو يركض صوب جانيت لي المقتولة ويسأل أمّه (الوهمية) السؤال ذاته: «ماذا فعلت؟». هذا لن يكون الفيلم الوحيد الذي عبّر فيه دي بالما عن حبّه العميق لأسطورة ألفريد هيتشكوك. ستتجلى هيتشكوكية دي بالما في أكثر من فيلم لاحق. يمكن أن نجدها في «هوس»، حيث كليف روبرتسون مهووس بامرأة (جنيفييف بوجولد) تشبه زوجته الراحلة (تنويعة على «فرتيغو» لهيتشكوك مصحوبة أيضًا بموسيقى من هرمان). سنرى تماثلات وتأثرات أخرى في «كاري» (1978)، و«انفجار» (1981)، خصوصًا في «جاهز للقتل» (1980)، حيث عاد إلى منوال القاتل ذي الشخصية المزدوجة، كما أداها مايكل كاين متخفيًا في زي امرأة حين يقتل.
* الفترة الهوليوودية
ومع أن دي بالما قام سنة 1983 بالخروج كليًا من هذا المدار بتحقيقه أول فيلم كبير له، وهو «الوجه المشطوب»، إلا أنه عاد إليه مرّة أخرى في العام التالي عبر فيلم «جسم مزدوج». لكن الانحراف نحو سينما خاصّة به بدأ فعلاً في «الوجه المشطوب» الذي قام آل باتشينو ببطولته (أمام ميشيل فايفر) لاعبًا شخصية مهاجر لاتيني ترعرع في عالم المخدرات والجريمة ومات بهما. الفيلم كان عرضًا تقدّمت به شركة «يونيفرسال»، فحواه إعادة صنع فيلم بالعنوان نفسه قام هوارد هوكس بإخراجه سنة 1932.
بناء على نجاح هذا الفيلم طلبته باراماونت لتحقيق «الشرفاء» (The Untouchables) سنة 1987 المقتبس عن تلك الحلقات البوليسية التلفزيونية بالعنوان ذاته التي قاد بطولتها روبرت ستاك (في دور تحري الـ«إف بي آي» العنيد إليوت نس) في الستينات. دي بالما صنع فيلمًا جميلاً من بطولة كيفن كوستنر وشون كونيري مليئا بالمشاهد الكلاسيكية مثل مشهد المطاردة فوق السطوح بين نس (كوستنر) وعدوّه الشرس وقاتل صديقه فرنك نيتي (قام به بيلي دراغو)، ومثل مشهد مقتل شون كونيري قبل ذلك، والمشهد المأخوذ بنفس جديد من «المدرّعة بوتمكين»، حيث عربة أطفال تتدحرج على سلم محطة القطار العريض في وسط معركة مسدسات. في فيلم «آيزنشتاين» هناك قتل السلطات للمتظاهرين ومحاولة أم التقاط العربة التي أفلتت من يدها خوفًا على طفلها.
مع نجاحه الثاني هذا تدافعت العروض الكبيرة: «خسائر حرب» لـ«كولومبيا» (1989)، «شعلة الغرور» لـ«باراماونت»، ثم «طريقة كاريلتو» (من بطولة باتشينو أيضًا) لـ«يونيفرسال» (1993) وبعده «مهمة: مستحيلة» لـ«باراماونت» (1996)، ثم «رحلة إلى المريخ» لـ«ديزني».
خلال هذه الفترة النشطة، عاد دي بالما إلى أفلامه الخاصّة التي عكست أكثر من سواها في بعض الأحيان، وجهات نظره في الحياة والموت والرجل والمرأة. فأفلام دي بالما تتطرق دومًا إلى عصر معاش يتألّف من سمات بشرية وتكنولوجية تبدو الأخيرة أكثر سيطرة على منهج حياة الناس. وهذا معبّر عنه بأبسط قدر من المشاهد أحيانًا (الممثل تشارلز دارنينغ معلق ينتظر مخابرة لن تصل في «شقيقتان») وفي أعلى قدر من التعقيد أحيانًا أخرى (كما في «منقح» Redacted فيلمه الخاص بحرب العراق، 2007).
* ما وراء هيتشكوك
دي بالما مخرج يتعاطى والهويات. ولعل مضيه في بعض أفلامه بوضع الإنسان في شبكة العصر هو جزء من هذا البحث عن الهوية. لكنه ليس الجزء الوحيد. كل تلك الأفلام التي تدور حول ازدواجية الشخصيات في الأفلام الآنفة الذكر (وفوقها «المرأة الطاغية»، 2003 و«الداليا السوداء» 2006، ثم فيلمه الأخير حتى الآن «شغف» 2012) تتعامل وشخصيات مزدوجة كل منها بحاجة نفسية وعاطفية للآخر. في «كاري» (وحسب وصفة الروائي ستيفن كينغ) هناك الفتاة العادية التي تنقلب إلى مشعلة نار بمجرد النظر إلى ما تريد حرقه. قبل ذلك في «جاهز للقتل» هو الرجل (مايكل كين) الذي يحتاج إلى نصفه الأنثوي (كما احتاجه أنطوني بركينز في «سايكو») ليرتكب جريمته عبره. وفي «شقيقتان» تتناصف المرأتان شخصية واحدة كل منهما تحتاج إلى الأخرى لحد المشاركة في القتل.
هذا التعاضد نرى وميضًا منه في المشهد الذي تتبادل فيه أنجي ديكنسون في «جاهز للقتل» وقد قام كاين بقتلها وبدأت تشرف على الموت، النظر إلى الفتاة الأصغر منها (نانسي ألن) كما لو كانت تودعها روحها.
ما كان يزعج دي بالما، ولا يزال، هو الربط الدائم بينه وبين هيتشكوك، لدرجة أنه نبّه ذات مرّة أحد الصحافيين بصوت لا يخلو من الغضب بأن «فترة هيتشكوك مضت. هناك فترة ما بعد هيتشكوك وهذه هي الحاضرة.» دي بالما كان انتقل من الثمانينات وصاعدا متجاوزًا ذلك التأثير المباشر لهيتشكوك عليه، لكن العالق في أذهان كثيرين بقي ذلك التأثر البيّن في أعماله الأسبق. هذا الشأن ربما كان له تأثيره على عدم رغبة كثير من نقاد الغرب اعتبار دي بالما مخرجا أساسيا مثل باقي أترابه من الفترة ذاتها. وهذا بدوره أدّى إلى عدم إعطائه القدر الذي يستحقه من اهتمام وتقدير رغم أن كثيرا من أفلامه هي أكمل فنًا وأثرى أسلوبًا وتجارب بصرية من معظم العاملين في هوليوود خلال السنوات الخمسين الماضية.
فيلم ‫نووا بومباك وجايك بولترو‬ التسجيلي المعروض بنجاح في صالات متخصصة في الولايات المتحدة، يسهم في نفض الغبار عن المخرج وأعماله. الفكرة راودت المخرجين منذ سنوات، تعرفا خلالها على دي بالما من بعد أن خبرا أفلامه وأدركا قيمتها. وما لاحظاه هو ذلك الانتقال عبر ردهات العمل السينمائي من مخرج أفلام تجريبية قصيرة وطويلة إلى أفلام مستقلة ثم إلى أفلام كبيرة وفرت لها هوليوود إمكانياتها الكبيرة.
الحال أن دي بالما قدّم أفلاما جيدة في كل مرحلة من هذه المراحل. في الوقت ذاته، تستطيع أن تدرك تميّزه بمجرد مقارنته بأترابه: سكورسيزي وكوبولا وسبيلبرغ وإيستوود، إذ إن التفاوت شديد بين كل واحد من هؤلاء والآخر، وبالتالي بينه وبين الباقين من مخرجي الفترة ذاتها.
أقرب هؤلاء إلى دي بالما كان مارتن سكورسيزي، إذ إن كليهما انطلق بمجهوداته الصغيرة وحافظ عليها ردحًا طويلاً. كوبولا بدأ بهذا الحجم، لكن سريعًا ما استوى على هرم شاسع ولو إلى حين، في الوقت الذي استفاد فيه إيستوود من حجمه نجمًا سينمائيًا، وانطلق سبيلبرغ مباشرة صوب النظام الهوليوودي دون توقف.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)