ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

بين اتساع خطر الحرب الأهلية وفرص المصالحة

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات
TT

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

ليبيا.. انقلاب طاولة التوقعات

تكتل القوى المسلحة الذي أخذ زمام المبادرة لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في ليبيا، وتحديدا، في معقله بمدينة سرت - في شمال وسط ليبيا - قلب طاولة التوقعات من جديد في هذا البلد الذي يعاني الفوضى والتحالفات سريعة التغير. واليوم يمكن أن تقرأ مستقبل ليبيا القريب بين عدة خيارات أصبحت أكثر وضوحا عن السابق، منها خطر اتساع نطاق الحرب الأهلية، ومنها القيام بأمر سيئ آخر يكرهه الليبيون ألا وهو تقسيم البلاد إلى دولتين على الأقل، بينما يظل خيار المصالحة باقيا «طوق نجاة» يمكن اللجوء إليه في حال رجح خيار تحكيم صوت العقل.
تتداول التقارير في هذه الآونة أخبار التكتل المسلح الذي قلب طاولة التوقعات في ليبيا، خلال الفترة الأخيرة من الصراع المحتدم فيها، وهو عبارة عن مجموعة الميليشيات المحسوبة على مدينة مصراتة، الواقعة إلى الشرق من العاصمة الليبية طرابلس، وبضع بلدات في شمال غربي ليبيا.
يخوض هؤلاء المقاتلون حربا تحت راية «المجلس الرئاسي» لـ«حكومة التوافق الوطني» بقيادة فايز السراج، رغم عدم اكتمال الإجراءات الدستورية والقانونية لعمل هذه الحكومة المقترحة. وتحمل العملية ضد «داعش سرت» اسم «البنيان المرصوص». وبالفعل، تمكن الشبان المتحمسون والضباط الطموحون من شق سحب الغبار وطرد الدواعش من على طول الطريق الواصل بين مدينتي مصراتة وسرت.
الآن يدور القتال داخل معقل التنظيم الإرهابي المتطرف في سرت، المدينة الواقعة على ساحل البحر المتوسط على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من مصراتة، وأكثر قليلا من 400 كيلومتر عن طرابلس. أما السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح فهو: ماذا سيحدث بعد أن تنتهي عملية «البنيان المرصوص» من مهمتها؟ أي بعد أن تقهر الدواعش في عقر دارهم، وتقضي على وجودهم الذي بدأ في سرت مع مطلع عام 2015.

السؤال.. ماذا بعد؟
يمكن أن يكون أخطر سؤال يطرحه أي مقاتل على نفسه هو: ماذا سنفعل بعد أن ننتصر؟ والأخطر منه ألا تكون هناك إجابة.
إن معظم القوات - إضافة إلى بعض القيادات - المنضوية تحت عملية «البنيان المرصوص»، كانت تخوض في صيف عام 2014 حربا محمومة ضد ميليشيات منافسة لها في مطار طرابلس الدولي ومحيطه. وارتبطت تلك الحرب بالصراع على النفوذ وعلى السلطة. لكن، بعد الانتصار في تلك الحرب، وحرق المطار وتدمير ما فيه من مدارج وطائرات، لم تكن هناك إجابة عما ينبغي عمله في اليوم التالي.
ومع ذلك تسببت نشوة النصر في معركة المطار في مزيد من الجرأة لميليشيات «فجر ليبيا»، التي سرعان ما دخلت في حروب عبثية في مناطق داخل طرابلس وما حولها وفي جنوب البلاد أيضا، بالإضافة إلى محاولات قامت بها للاستحواذ على منطقة الهلال الغنية بالنفط في شرق البلاد. وهذا الماضي القريب أصبح اليوم يلقي بظلاله على احتمالات ما بعد هزيمة الدواعش المنظورة في سرت.
ولأن معظم القادة وغالبية الكوادر القتالية الوسطى كانت من المحسوبين على مدينة مصراتة، فإن الخطاب غير المنضبط لبعض الزعماء أظهر في ذلك الوقت مخاوف من المسحة الجهوية - أي الإقليمية - للقوات المصراتية المقاتلة التي كانت تعمل ضمن فريق يتكون من قادة ميليشيات تابعين لكل من جماعة الإخوان المسلمين و«الجماعة الليبية المقاتلة» وغيرهما.

التكتلات العسكرية
من جهة أخرى، فإن القوات القادرة على القتال في عموم ليبيا مقسمة على الأرض بين عدة تكتلات، والتكتل الذي ينطلق عادة من مصراتة ومن طرابلس، يتكون من ميليشيات يقودها في الأغلب متشددون إسلاميون وجهويون متعصبون، وهي عبارة عن خليط من المدنيين «الثوار» وعدد أقل من العسكريين المحترفين. ولقد تمكنت ميليشيات هذا التكتل منذ انطلاق الانتفاضة المسلحة ضد معمر القذافي في 2011 من الاحتفاظ لنفسها بكميات ضخمة مما كانت تحتويه مخازن الجيش الليبي، بجانب مطارات عسكرية وطائرات ودبابات وآليات وصواريخ وغيرها.
واليوم يبدو أن هذا التكتل يحظى بنوع من «التدليل» أو الحظوة من جانب البعض في الأمم المتحدة والبعض من الدول الغربية، وبخاصة بعدما انحازت عدة ميليشيات فيه إلى «المجلس الرئاسي» وفتحت له الطريق للعمل من داخل العاصمة طرابلس. وجرى تناول انطلاق التكتل نفسه ضد «داعش» في سرت بكلمات الإطراء من زعماء دوليين، على الرغم من الخسائر الضخمة التي مُني بها؛ إذ يقدر أن يكون عدد القتلى قد وصل إلى نحو 150 وعدد الجرحى إلى نحو 500.
«الجيش الوطني» كل هذا يدور في غرب ليبيا ووسطها، فماذا عن الشرق الذي توجد فيه غرفة العمليات الرئيسية لـ«الجيش الوطني الليبي» بقيادة الفريق أول خليفة حفتر؟
يعمل «الجيش الوطني» على محاربة الإرهاب منذ عام 2014، وعزز من شرعيته التفويض الذي منحه له البرلمان الليبي المنتخب الذي يعقد جلساته في مدينة طبرق، بالشرق أيضا. لكن، منذ بدأت الأمم المتحدة رعاية حوار وطني قبل نحو سنتين، وما تبعها من مفاوضات انتهت بـ«اتفاق الصخيرات» (في المغرب) بين عدة أطراف ليبية و«المجلس الرئاسي» برئاسة السراج، أصبحت هناك شكوك في القدرة على حسم قضية «التكتلات العسكرية» و«شبه العسكرية».
«الجيش الوطني» بدأ الحرب على الإرهاب في مدينة بنغازي، كبرى مدن الشرق، وفي مدينة درنة وكذلك في بعض بلدات الجنوب قبل أكثر من عشرين شهرا، وحقق انتصارات لافتة على الرغم من أن جيش ليبيا (الموالي للقذافي) تعرض لضربات موجعة وقاصمة للظهر من طائرات حلف شمال الأطلسي «ناتو» طوال ثمانية أشهر من عام 2011.

مرحلة ما بعد القذافي
وبعدما قتل القذافي بدأ الحكام الجُدد عملية ترتيب الأوضاع للمستقبل، لكن الهيمنة كانت واضحة لقيادات التيار المتشدد الذي تدرب زعماؤه الليبيون على القتال في جبال أفغانستان وباكستان والشيشان وغيرها من جبهات الاشتباكات التي كان يغلب عليها طابع حروب العصابات والأصوليات. وكان يمكن ملاحظة قلة الرغبة في إعادة بناء الجيش والشرطة في هذا البلد، مع حالة ارتياح لاستمرار عمل «كتائب الثوار» التي هي عبارة عن ميليشيات مسلحة.
وكما هو معروف، ظهر في أول برلمان وفي أول سلطة تنفيذية وأمنية له، في مرحلة بعد القذافي، شخصيات لها علاقة بتنظيم «القاعدة»، وأخرى موالية لجماعة الإخوان، وثالثة تدعم جماعات متطرفة متباينة. وبدا أن هذا يتعارض مع المزاج الليبي المسالم والراغب في تحقيق أهداف الثورة من ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية. ولهذا أسقط الليبيون في الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2014 الحكام المرتبطين بتلك التنظيمات، لكن الميليشيات وعددا من الطامحين الجهويين، تحصنوا في طرابلس وطردوا معارضيهم منها، وحرقوا المطار الدولي، كما شنوا أكبر عملية اغتيالات ضد ضباط الجيش والعسكريين النظاميين في القوات المسلحة والشرطة. وبالتالي، اضطر البرلمان الجديد إلى عقد جلساته في شرق ليبيا انتظارا لحسم الموقف.
في الشرق واجه «الجيش الوطني» الميليشيات التي كانت تهيمن على بنغازي وعلى مطار بنينة الدولي الواقع في ضواحيها، وكذلك على درنة، رغم الدعم الكبير الذي كانت تحصل عليه تلك الميليشيات من زعماء يعملون في الظلام في كل من مصراتة وطرابلس.
ومع أن الحوار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة انطلق فإن «الجيش الوطني» نأى بنفسه عن هذا المسار، معتبرا أن مهمته «محددة»، وهي القضاء على الإرهابيين وعلى المسلحين الذين يرفضون الرضوخ لسلطة الدولة الشرعية ممثلة في البرلمان والحكومة المنبثقة عنه. وعلى هذه الخلفية برز تنظيم «أنصار الشريعة» المتطرف (المصنف دوليا كمنظمة إرهابية)، وبرزت معه مجاميع يطلق عليها «مجالس الثوار» تحظى بدعم من القيادات المتحصنة في العاصمة، ومن بينها أطراف كانت على علاقة بالحوار السياسي الذي يحظى برعاية أممية.
وفي خطوة تسببت في تعقيد الموقف أكثر مما كان عليه، أعلن زعماء «أنصار الشريعة» في بنغازي ودرنة مبايعة تنظيم داعش، مع استمرار بعض قادتهم في الوقت نفسه في التعاون مع مجالس الثوار، باعتبار أن الخصم واحد وهو الجيش، وذلك رغم وجود خلافات داخلية والاقتتال بين المسلحين المتطرفين في درنة وغيرها. ومع هذا لم تنقطع خطوط الإمداد بالسلاح والمقاتلين لدعم عمليات هذا الخليط من المتشددين ضد القوات المسلحة، وكذلك ضد البرلمان. وفي قفزة جديدة أدت إلى مزيد من الارتباك في التعاطي مع القضية، بدأ المتطرفون الليبيون جلب المقاتلين الأجانب من مختلف التوجهات.. إخوان.. تنظيم «القاعدة».. «داعش»، بالإضافة إلى مرتزقة يقاتلون بأجر. وبسرعة وجد «داعش» نفسه قادرا على الإعلان عن إمارة خاصة في سرت.

انتصارات وارتباكات
كان «الجيش الوطني الليبي» يقول حتى أسابيع قليلة مضت، إنه سيتوجه للقضاء على التنظيم الدموي في سرت، بمجرد انتهائه من سحق المتطرفين في بنغازي وأيضا في درنة. وبالفعل حقق في شهر مارس (آذار) الماضي انتصارات لافتة في مواقع صعبة. وأدى هذا إلى ارتباك في أوساط القادة في كل من طرابلس ومصراتة، على أساس أنه إذا تمكن «الجيش» من دخول سرت فإنه سيمضي في طريقه إليهم في طرابلس. هكذا كان يفكر بعض القادة في اجتماعات عقدت على عجل في العاصمة وفي بلدات قريبة منها. ومن ثم، بدأت خطة لطمس رايات حفتر التي بدأت تلوح في الأفق، ولا سيما أن لـ«الجيش الوطني» قواعد على مشارف طرابلس نفسها.
وفي هذه الأثناء كانت هناك اتصالات بين كل من المبعوث الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر، ورئيس «المجلس الرئاسي» فايز السراج مع حفتر، في محاولة على ما يبدو لترويضه بحيث يعمل تحت سلطة السراج، وأن يجلس جنبا إلى جنب مع قادة ميليشيات تتولى حماية «المجلس الرئاسي». وبدأ هذا الموقف هزليا؛ إذ قال أحد العسكريين المقربين من حفتر: «كيف نجلس مع زعماء ميليشيات لا يعترفون بالجيش، بل يحاربونه؟!». واستاء قادة آخرون من رغبة بعض الأطراف الدولية في المساواة بين «جيش نظامي، وميليشيات تعمل خارج السلطة الشرعية ومتورطة في أعمال قتل وتخريب».
وهكذا، عقد قادة «الجيش الوطني» العزم على دخول سرت. وبدأت عدة وحدات عسكرية في التحرك لمحاصرة المدينة، قبل أن تظهر تداعيات سريعة أوقفت كل شيء؛ إذ قفز السراج إلى الأمام قفزة مفاجئة، وأعلن أنه هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما المعروف أن هذا المنصب يشغله رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح، وزاد السراج على ذلك، فأعلن أيضًا تشكيل «غرف عسكرية» لمحاربة «داعش» في سرت، وخرج اسم عملية «البنيان المرصوص» إلى النور انطلاقا من سرت.
وبدأ القتال الذي تحول سريعا إلى محرقة سقط فيها شبان ومدنيون متحمسون للقتال، لكنهم غير مدربين على مواجهة تنظيم دموي مثل «داعش». فعلى سبيل المثال قام «داعش» بعملية التفافية من خلف خطوط «البنيان المرصوص»، يوم أول من أمس، ونفذ ثلاثة تفجيرات في بوابة تفتيش بوقرين، التي تقع بين مصراتة وسرت، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرة أشخاص.
ومن جانبه، وأمام هذا الواقع الجديد أرجأ «الجيش الوطني» تنفيذ خطته في سرت، وركز عملياته على تطهير بنغازي ودرنة من بقايا المتطرفين. وبغض النظر عن الخسائر في الأرواح يمكن للميليشيات التي تعمل اليوم تحت راية «المجلس الرئاسي» أن تنتصر في سرت، كما انتصرت وهي تحمل اسم «فجر ليبيا» في معركة مطار طرابلس، لكن إلى أين؟

إلى أين؟
هل ستتوقف الميليشيات عن القتال وتفتح صفحة جديدة من الحوار السياسي ينتج عنها توافق بين كل من البرلمان المنتخب و«الجيش الوطني» من جانب، والمجلس الرئاسي من الجانب الآخر؟ أم أن نشوة الانتصار في سرت يمكن أن تفتح شهية الميليشيات للتقدم أكثر ناحية المدن الشرقية للدخول في مواجهة مع «الجيش»، ما يمكن أن يتسبب في اتساع خطر الحرب الأهلية وانقسام البلاد إلى غرب وشرق؟
بالمناسبة، تشير بعض التسريبات إلى حصول الأطراف المتحاربة على كميات من الأسلحة المتطورة من السوق السوداء في الخارج. ومع أن المجتمع الدولي يفرض منذ 2011 حظرا على توريد السلاح إلى ليبيا، فإن مجلس الأمن الدولي أصدر قبل بضعة أيام قرارا جديدا يجيز للدول الأعضاء تنفيذ حظر التسليح بالقوة. ويبدو أن هذه الخطوة فسرتها أطراف في البرلمان الليبي على أنها «تصب في مصلحة الجماعات الإرهابية»، كما قال فتحي المريمي، المستشار الإعلامي لرئيس البرلمان، بينما قالت لجنة «الدفاع والأمن» في البرلمان نفسه إن القرار يهدف إلى توسيع صلاحيات المجلس الرئاسي وحكومته التي لم تحظ بثقة البرلمان بعد.
وعلى خلفية انعدام التوافق وأيضًا التربص بين الأفرقاء الليبيين، كانت هناك إجراءات من شأنها أن تعمِّق الخصومة أكثر، وتغير من أرض الواقع بطريقة دراماتيكية. فحتى اليوم المصرف المركزي الليبي منقسم على نفسه إلى ما يشبه المصرفين، أحدهما طبع حاجته من العملة الليبية في روسيا، والآخر قام بطباعتها في بريطانيا. ثم هناك الشركة الوطنية للنفط التي يبدو أنها تعاني آثار الانقسامات، فبعض الدول تحبذ التعامل مع الفرع الموجود تحت هيمنة السلطات الشرعية في الشرق والبعض الآخر يتعامل مع الفرع الموجود في الغرب. وينطبق الأمر على خلافات في مسألة تعيين السفراء والمبعوثين، فثمة دول ما زالت تتعامل مع سلطات البرلمان المنتخب والحكومة المنبثقة عنه، أي حكومة عبد الله الثني في الشرق، وبعض الدول أصبحت تتعامل مع «المجلس الرئاسي» للسراج في الغرب.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.