محمد الحرز: من أجل كتابة حرة لا بد من تفكيك السلطات المختبئة في ثقافتنا

الشاعر والناقد السعودي يرى أن حياتنا العربية أساءت لتطور الشعر

محمد الحرز: من أجل كتابة حرة لا بد من تفكيك السلطات المختبئة في ثقافتنا
TT

محمد الحرز: من أجل كتابة حرة لا بد من تفكيك السلطات المختبئة في ثقافتنا

محمد الحرز: من أجل كتابة حرة لا بد من تفكيك السلطات المختبئة في ثقافتنا

عرف الناقد والشاعر السعودي محمد الحرز، باشتغالاته النقدية على قراءة المشهد الثقافي السعودي، ورصد التحولات التي يمرّ بها، كما يعرف بأنه واحد من شعراء التجربة الحداثية التي أثراها من خلال أربع مجموعات شعرية قدمها، وهي: «رجل يشبهني»، دار الكنوز الأدبية، 1999. و«أخف من الريش أعمق من الألم»، دار الكنوز الأدبية، 2003. و«أسمال لا تتذكر دم الفريسة»، الصادرة ضمن إصدارات «بيروت عاصمة عالمية للكتاب 2009»، وأخيرا «سياج أقصر من الرغبات»، عن دار طوى 2013.
وصدر له أيضا في النقد والدراسات الفكرية: «شعرية الكتابة والجسد»، عن مؤسسة الانتشار العربي، 2005، و«القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة»، عن نادي أدبي الجوف. و«يصرون على البحر» انطولوجيا الشعر السعودي، من إصدارات وزارة الثقافة الجزائرية، بالاشتراك مع الناقد عبد الله السفر، و«الحجر والظلال» عن دار طوى 2013، و«ضد الطمأنينة» عن دار مدارك 2013.
التقينا بالشاعر والناقد السعودي محمد الحرز، في الأحساء حيث يقيم، وأجرينا معه الحوار التالي:

* بالإضافة للنقد لديك تجربة شعرية حداثية ناضجة سجلت إضافة مهمة لقصيدة النثر. كيف تقرأ الواقع من زاوية أن تكون شاعرا؟
- ثمة حلم أشبه ما يكون بالطوباوي، يطارد الشعراء أينما حلوا، وإلى أي مكان ارتحلوا هو: الإقامة الشاعرية على الأرض.
هذا الحلم يتحول في أحيان كثيرة عند بعض الشعراء إلى نوع من التراجيديا، تجاربهم توحي بذلك، فتدفق النظرة الشاعرية عند الشاعر إلى الأشياء من حوله، وإلى علاقاته الاجتماعية، وسريان هذا التدفق في نسق تصوراته للحياة والكون والعالم، يجعل من ذاته أسيرة المثالية المفرطة، وبالتالي أسيرة الهشاشة والانكسار إزاء تناقضات الحياة. هكذا تعّلِمُنا تلك التجارب: أن كل شاعر حاول أن يعيش وفق نظرته الشاعرية، ويتطابق معها حد التلاشي، فإن المأساة تنتظره في أحد منعطفات حياته. لذلك بالنسبة لي خلق عالم بديل من الكلمات والأشياء، يوازي الواقع المعاش، هو ما يحافظ على التوازن النفسي والروحي والوجودي، حيث تصبح الحياة من خلال هذا التوازن ممكنة التعايش والانسجام مع الذات من جهة، ومع الآخرين من جهة ثانية. ربما كانت القصائد التي نكتبها لا تعبر عن هذا التوازن فقط، وإنما تقول شيئا يتجاوز ذلك بكثير، تقول: ثمة أمل ورغبة في أن تعيش الإنسانية يوما ما وفق قوانين الشاعرية على هذه الأرض، ووفق تاريخ الشعر المرتبط بذاكرتها.
* كيف توفق بين كونك ناقدا تحمل المبضع وتمزق أشلاء النصوص، مع رقة الشاعر الذي يتحاشى المعارك النقدية؟
- لا يوجد ثمة تناقض، فالنقد لا يلغي الشعر في ذات الشاعر، ولا الشعر يلغي النقد في ذات الناقد، فمن الأفكار الشائعة التي تدخل الاتجاهين في تناقض تام، هي مجموعة من المسلمات التي ورثناها من خطابنا النقدي العربي، جميعها كانت ترتكز على مؤثرات المنطق الأرسطي في اللغة والنحو والبلاغة وعلم الكلام والنثر والشعر. وهي مؤثرات تستند على فكرة الفصل المعياري بين صنوف المعرفة، فالشعر هو الشعر والنثر هو النثر، لا يلتقيان. بينما المفارقة التي تبرز في تاريخ الثقافة العربية، هو وجود علماء، على سبيل المثال، برعوا في العلوم الدينية بجانب الأدب شعرا ونقدا، دون أن يشعروا بمثل هذا التناقض. ناهيك أن الثقافة المعاصرة، لا تعترف بالحدود فيما تنتجه من أنواع المعرفة، فتاريخ سير المبدعين والمفكرين في العصر الحديث يشير إلى وجود منجز ثري ومتنوع عند هؤلاء، يتراوح بين الشعر والرواية وبين الفكر والفلسفة أو المسرح والموسيقى. من جهتي لم أشعر يوما ما بالفصل التام بين ما أكتبه شعرا، أو ما أكتبه نقدا، بل أرى أنهما يتقاطعان عندي من العمق، وكل جانب منه يرفد الآخر، ويثريه في الرؤية والأسلوب والتقنية.
* مجموعاتك الشعرية الأربع: «رجل يشبهني»، و«أخف من الريشة أعمق من الألم»، و«أسمال لا تتذكر دم الفريسة» و«سياج أقصر من الرغبات» تحمل تجارب متنوعة.. كيف تعبر هذه المجموعات عن تأثير الزمن في محطاتك الشعرية؟
- الزمن مكون أساس من مكونات أي تجربة إبداعية أو فكرية، والإحساس به وتلمس مكامن قوة تأثيره، يتطلب حساسية مفرطة في التقصي والبحث. لم أع هذه الحقيقة إلا لاحقا، عندما اكتشفت أن ثمة علاقة طردية بين الكلمات والجسد، فدماء الكلمات لا تتجدد إلا إذا شاخ الجسد بكل مخزونه الفكري والروحي والتخيلي. الزمن يلعب لعبته هنا، لا توجد تجربة إبداعية تضيء نفسها من الداخل إلا بعد أن يكون الجسد استسلم تماما لمشرط الزمن وتأثيراته التي تصل إلى عمق الروح. لكن هذا التلازم الشرطي في العلاقة بين تجدد الكلمات وضخها بمعان ودلالات، وبين تهدل الجسد بفعل الزمن، لا يدركه سوى المبدع الذي عمل على إيجاد صلة قوية بين حياته داخل القصيدة، وحياته داخل الجسد. لذلك هذا الاكتشاف، لا يعني بالضرورة أنني عملت على إيجاد مثل هذه الصلة. في مجموعاتي الأربع حاولت كثيرا تلمس منابع هذه العلاقة، لا أدعي النجاح. لكني على الأقل عرفت أين هي جهة البوصلة؟

الوجع.. والخوف
* ثيمة «الوجع- الألم» نابضة في قصائدك.. وتبرز أكثر في مجموعته «أخف من الريش أعمق من الألم»، حيث تقول: «كلما أردت تحريك قلبك إلى الجهة المقابلة: تريث... هناك جهة أخرى، تستحق الوجع، بالطبع هناك أوجاع تنتظر المرور».. لكأن المعاناة والحزن «مصيرٌ لجوجُ»؟
- مفردة الألم تشكل لحظة تحول عندي في الكتابة الإبداعية، وهي المفصل الحقيقي بين مرحلتين، ليست بالمفهوم الزمني التراتبي، وإنما بالمفهوم التجاوري. قبلها كانت دلالاتها لا تتجاوز مجرد الصراخ والعويل والاحتجاج، وهذا ما تشي به كلمات كالوجع والذكريات والوحدة، وهي مبثوثة في النصوص. بعدها تخلصت هذه المفردة من كل ما علق بها من هذه الدلالات والمعاني السابقة، وذهبت إلى صفاء المعنى وعمقه وكثافته كما أزعم، وذلك في مجموعتي الأخيرة «سياج أقصر من الرغبات»، وبعض النصوص من هنا وهناك.
* ممَ يخاف المثقف؟، أنت تقول في مجموعتك: «هو الخوف إذن يطال القاع من تفكيري، ولا يترك قشة من الاطمئنان إلا ويكنسها برياحه العاتية»..
- الشعور بالخوف الذي تظهر تفاصيله في قصائدي، هو غيره الخوف الذي أستشعر أبعاده حين أمارس دور المثقف في تفكيري. الأول يتكئ على انكسارات الذات في الحياة، وعلى الضعف والهشاشة الإنسانية أمام الطبيعة والكون والآخر. تأمل هذا الانكسار يخلق في حد ذاته هذا الشعور ويكثفه. وخطورة هذا التأمل أنه يؤدي في بعض الأحيان عند بعض الشعراء إلى مزيد من الهشاشة والضعف، وبالتالي إلى التشاؤم والانتحار، بينما عند البعض مجرد التأمل يقوي صموده أمام الحياة، ويغذيه أمام عواصفها، ويعطيه نوعا من الطمأنينة والسكون. أما الخوف الآخر فالمثقف يرتبط به باعتباره خوفا يتصل بمظاهر المجتمع وقضايا في الشأن العام.

تطور الشعر

* تقول: «إن حياتَنا العربية السياسية والاجتماعية والثقافية أساءت كثيرا إلى تطور الشعر، وجعلت منه رهينا للوظيفة الآيديولوجية»، لكن الشعر في مداه التاريخي لم ينضج إلا في أروقة السلطة وبتأثير عطاياها.. أليس كذلك..؟
- هناك ثلاثة اتجاهات تتعلق بهذه المقولة، وبالنتيجة التي استخلصتها أنت في سؤالك،
- أولا هذه المقولة تتصل أساسا بفترة ما بعد عصر النهضة الأولى، عصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، أي النهضة الثانية التي تحررت فيها الحياة العربية من مرحلة الاستعمار، وبدأت في بناء مرحلة الآيديولوجيات التي طالت جميع مناحي الحياة. الشعر كان أحد هذه المناحي، فقد تحول إلى خطاب يوظف في البناء ذاته.
ثانيا- نعم ما تقوله صحيح. لكن لا ينطبق على مرحلة النهضة الثانية، بل على فترة تألقه في العصر العباسي الأول تحديدا، وعلاوة على ذلك، هذا التألق لم يكن بلاط الملوك هم من صنعوه وحدهم، بل تشكل المدينة وتطور الحياة المدنية في بغداد وضواحيها هي غذت هذا التألق من العمق.
ثالثا- ربما أمكنني القول هنا: أن تاريخ الموروث الشعري في العالم لم يتحرر من توظيفه وإدماجه في مجالات أخرى من تاريخ المعرفة، بدءا بالسحر ومرورا بالدين ونهاية عند السياسي. بيد أن بدايات تحرره لم تحصل إلا في العصر الراهن من الكتابة الشعرية الحديثة.

المثقف والحداثة

* طرحت ذات مقالٍ سؤالا قلقا، هو: لماذا لم نكن حداثيين؟، من هم الذين كان يجب أن يكونوا حداثيين وفاتهم القطار..؟
- هذه الإشكالية تمس الحياة العربية على العموم، وللأسف تم تناول مصطلح الحداثة في أغلب الخطابات الفكرية العربية باعتباره آيديولوجيا تخص الغرب وحدهم. هذا الوهم فرضه على التفكير العربي خلط المفاهيم والأفكار التي تشكلت في فضاء التاريخ الأوروبي. فتاريخ المفهوم هو تاريخ تصورات الفكر عنه، وتحولاته اجتماعيا وثقافيا. فمفاهيم مثل الليبرالية والعلمانية لها مساراتها الخاصة والعامة في تاريخ المجتمعات الأوروبية، بينما كنا نتلقاها في الفكر ومن ثم في الممارسة باعتبارها مصطلحات ذات دلالة واحدة تنوب الواحدة منها عن الأخرى، وهذا ما جرى أيضا مع مصطلح الحداثة. لذا قلت لسنا حداثيين بهذا المفهوم، وإلا قطار الحداثة هو يسير ويقطع العالم شرقه وغربه، قبلنا ذلك أم لم نقبل به، والمصيبة أننا لا نتعلم مما سبق، فقد كررنا نفس الموقف لاحقا مع مصطلح العولمة، وبنفس التصور والتحليل. (بالطبع مع تفريقي التام هنا بين إشكالية المصطلح وإشكالية المفهوم).
* هل ترى أننا بما نكتنز من موروث، قادرون على شق طريقنا نحو الحداثة..؟
- بلا شك نحن قادرون على شق هذا الطريق، وقد بدأت تبرز مشاريع تعبد لمثل هذا الطريق، لا يسعنا هنا الحديث عنها بالتفصيل. لكنها جميعا تركز على تأسيس فلسفة وفكر يرتبط بتاريخ الفكر الإسلامي بدأ من النص القرآني وما يتلوه من نصوص تمثل المتن من هذا التاريخ.
* هل يمكن الفصل بين الحداثة الأدبية، شعرا ورواية، والحداثة الفكرية؟
- لا يمكن فصل هذا عن ذاك. الحقيقة التي أخفقنا في استيعابها عند الغرب، أو لأقل حاولنا أن لا نبصر الجانب الآخر منها، لأسباب تبدو لي أنها بحاجة إلى علم النفس الاجتماعي، والدراسات التاريخية المقارنة. هي أن تطور التاريخ الأدبي الأوروبي كان الفكر والفلسفة ركيزته الأساسية. خذ على سبيل المثال تطور مفهوم الزمن في السرد، حيث كانت الاشتغالات النظرية عند الفيلسوف برغسون حول هذا المفهوم واضحة وجليلة في أعمال الروائي وليم فوكنر. وهناك شواهد كثيرة جميعها تدلل على هذا الترابط بين الفن والإبداع والفكر في تاريخ الثقافة الأوروبية.
* أنت تقول: إننا «لم نكن حداثيين لأن وعينا بالحداثة الغربية ليس وعيا تأريخانيا».. ماذا تعني؟
- أعني بالدرجة الأولى أننا لم نقرأ التاريخ الأوروبي في سياق تقاطعاته الداخلية، وتحولات مجتمعاته سواء على مستوى الفكر أو الاجتماع والسياسة والاقتصاد والدين. وبالتالي لم نستوعبه تماما. ومن مظاهر اللاعقلانية في فهم هذا الغرب أننا ذهبنا في تصديق ما يقوله عن نفسه حد اليقين. وبالقدر الذي حجب هو عنا نفسه، كنا نرتكب خطيئة أخرى حين صدقنا أيضا ما يقوله هو عنا بطريقة أو بأخرى. إنها تصورات عنا وعن الآخر تتكئ على أخطاء مزدوجة. تفكيك هذه التصورات في ظني هي من مهمات هذا الجيل المقبل على الفكر والفلسفة بوعي وحب.
* إلى أي درجة تمثل «الحداثة» أهمية للشعر..؟ يقول الدكتور سعد البازعي: «يخشى الحرز على الشعر من سوء الفهم، الذي يتهدده في مشهدنا الأدبي، يخشى على روح الحداثة فيه أن تذوي لدى الشعراء أنفسهم»..؟
- الحداثة في الشعر هي بمثابة جريان ماء الحياة الذي لا يتوقف على الإطلاق. هي إعادة وصل الشعر بالحياة من جهة، والتخفف من كل الأعباء التي تثقل كاهل الشعر، وتبطئ حركته وجريانه، وليس السياسي والديني والطائفي والخطابات النفعية الأخرى سوى قيود تحد من حركته وانطلاقته. هذا ما أفهمه من أن يكون الشعر حداثيا بالدرجة الأولى. وكل هذا الفهم مشروط بمدى قابلية أذهاننا لزحزحة مفاهيم قديمة عن الشعر، وإبدالها بمفاهيم معاصرة له.
* أصدرت كتاب (القصيدة وتحولات مفهوم الكتابة).. كيف ترى إلى علاقة الكتابة بالمثقف، والمجتمع؟
- كنت ولا زلت، لي اهتماماتي التي تتعلق بالكتابة تنظيرا وممارسة، قناعاتي التي تتصل بها تذهب باتجاه الفكرة التي تقول: لا يمكن تأسيس ثقافة مغايرة على سمات وأساليب في الكتابة لا تمت إلى المعاصرة بصلة. وأول شروط التأسيس هو تفكيك السلطة الكامنة خلف التقاليد الكتابية التي نشأت في المجتمع، حيث على أثرها انبنت ثقافة، تخرجت منها أجيال وأجيال، منهم المثقف والعامل والتاجر ورجل الدين والسياسي. وإذا كان ربط مفهوم السلطة بالكتابة هي الحقول التي تشتغل عليها الدراسات الثقافية المعاصرة، فإن أهمية طرحها في الأوساط الثقافية السعودية، لا تنبع من كون هذه الدراسات تنتصر للثقافات المهمشة في أي مجتمع، بل لأنها أيضا تعري عمليا جميع السلطات المختبئة في ثقافتنا منذ قرون: سلطة المؤسسة والقبيلة والطائفة والمثقف والأدب الرسمي والثقافة الرسمية وسلطة الأدب، وهكذا يكون مفهومي للكتابة محوري واستراتيجي في تفكيك جميع هذه السلط.
* كيف أصبح المثقفون اليوم حراسا للمقابر، وأبواقا للنزعات العصبية، ومع ذلك يتبجحون بأنهم نخبة المجتمع..؟
- من الطبيعي أن يدجن المثقف في إطار من الاستغلال والاستثمار، وهذا امتداد للمرض الذي أشرنا إليه سابقا. لم يتمايز المثقف بخطابه، لا عن سلطة المؤسسة، ولا عن سلطة المجتمع، بل كان تابعا في فترة من الفترات لإحداهما، وفي فترات لكلتيهما. لذلك الفجوة التي تحدثنا عنها، تركت كي يتم استثمارها لأحد الطرفين دون أن يشارك المثقف في سد ولو جانبا بسيطا منها، رغم تلك المحاولات التي طالعتنا بها محاولات عصر النهضة الأولى.
* كيف تقرأ التناقض في تكويننا الثقافي.. فمن جهة نمتلك أقوى درجات التواصل مع العالم عبر وسائط التقنية، ومن جهة نشعر أننا مشدودون بقوة للماضي، مع خوف من التغيير..؟
- هذا التناقض كما تقول في تكويننا الثقافي، هو مرض لا يخص الثقافة والمجتمع السعودي، بل هو ينسحب على عموم المجتمع العربي. الوسائط الاجتماعية بتقنياتها المتعددة عرت الكثير من التناقضات في السلوك والفكر والعلاقات. أهمها على الإطلاق انبعاث الماضي بحلة لم نعهدها من قبل، بوجود القنوات الفضائية والإعلام النتي المعولم. هذا الانبعاث كان غائبا ثم ظهر فجأة. المقصود هو أن الفجوة الواسعة بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ساعدت كثيرا كي يقوم مثل هذا الإعلام بملء الفراغ الذي تركته هذه الفجوة، وهذا ظاهر للعيان في الكثير من المجالات: السياسة، والاقتصاد والدين والاجتماع.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.