حتى بعد سقوط «عرش طاطا» في تونس الثورة، لم يتغير شيء، وكما يقول مثل فرنسي «الطاقية بيضاء، بيضاء الطاقية».
عن دار الجنوب التونسية صدر مؤخرًا «مروية» بعنوان كوزكي (نسبة للدراجة النارية اليابانية). للكاتب والشاعر التونسي توفيق بن بريك صاحب عدة مؤلفات منها (الآن اصغ لي، ضحكة الحوت، سارق الأدب)، وقد نال عدة جوائز عالمية (داشل هامت الأميركية، وسوسيتا ليبيرا الإيطالية).
في هذا الكتاب الجديد «المروية» التي لا يمكن وصفها برواية كونها لا متن لها، ولا شخصيات تتحرك داخل مكان، وفي زمان ما، ولا بناء روائي، إنها تتحرك ضمن فضاءات تونسية ينتقل بنا الكاتب من خلالها من مدينة تونسية إلى أخرى ليعطي انطباعاته وأفكاره حول أكثر من قضية سياسية واجتماعية، والنقد الطاغي فيها هو نقد للسلطة في دولة «طاطا» كما يصفها ويختزلها من اسم لمدينة تونسية «طاطاوين».
همام وهو اسم المتجول على دراجة كوزكي التي بات يكنى بها فيسمى بـ«همام كوزكي» معلم بمدرسة النور الابتدائية بدوار سيدي حمد الصالح قرية فلاحية من معتمدية «القلعة الجرداء» تزوج من ابنة عمه مهرية الزغلامي وأنجب منها توأمان. هاوٍ للمطالعة والفن، يمقت الأغنياء والبلاد التي تبدل الرجال، «طاطاوين»، أو عرش طاطا التي نفهم من الوصف للشوارع ومناطق السلطة بأنه يقصد العاصمة فهي «مبيت مفتوح على الندم، فيلم أسود خال من الخطر وصفارات فرق التدخل وملاحقة العصابات وسرقة البنوك ونهب محلات المسوغ... مدينة سلمت مفاتيحها للبوليس فقط.. الريف يبدأ من حديقة البلفدير».
قامت الثورة وسقط النظام، سقط عرش طاطا لكن الحكاية لم تنته، أو هكذا يرى «قامت القيامة وطاح عرش طاطا من أعلى ناطحة سماء الشارع الخامس وانقشع زوره. شردت رؤوسه وتبعثرت صفوفه وسجن كباره وتنحى رأسه نهائيا. لم نطو الصفحة بل مزقناها أشلاء أشلاء، خرج عرش طاطا يجر الخيبة، دفناه في قبر جماعي... عادوا فعادت فيالق الوشاة والخوف والمشي الحيط الحيط».
الراوي لهذه المروية يستعين باقتباسات تملأ صفحاتها، اقتباسات من كتاب وشعراء وصوفيين وفلاسفة وأسماء أفلام سينمائية تتوافق وأفكار النص الذي يأخذ في نواحٍ عدة منعرجات نحو العامية التونسية «نكن للعرش كرهًا وغيظًا لا حد لهما. إنه المتورك على البلاد والعباد طيلة قرن بالحيف والمداهنة والفساد والرشوة والرعب والسلب والنهب، وأسسوا للمحسوبية والجهوية والتمييز. ينوح الحيوان في مزرعة الحيوان / كل الحيوانات سواسية ولكن بعضهم أكثر مساواة من البعض الآخر»، (اقتباس من مزرعة الحيوانات للكاتب البريطاني جورج أورويل). والاقتباسات الأخرى تملأ صفحات المروية مع شرح في أسفل الصفحة ونبذة عن المؤلف وأهم مؤلفاته.
همام كوزكي يبدأ رحلته من «عرش طاطا» بعد أن ضاق به الحال، «قبائل ضواحي النزوح، حي التضامن والكباريه والمحمدية والكرم الغربي تتناحر.. سقط باردو والقصبة وقصر قرطاج والبنك المركزي في أيادي أولاد عمران.. الحياة أصبحت لا تطاق في طاطاوين على الفرار بجلدي، ناداني مسقط رأسي وموطن شغلي سيدي حمد الصالح».
يأخذنا بن بريك في رحلة عبر البلاد على دراجته التي يحولها إلى محاور يحدثها ويسائلها، فكرة ربما استوحاها من فيلم من بطولة جاك نيكلسون عرف شهرة كبيرة في عهد «الهيبيز» و «وودستوك» فيلم «easy rider».
الذي يطوف المدن الأميركية، «كسارق تركت الديار باتجاه تبرسق المحاذية لآثار دقة.. وجهتي عاج أجدادي، مدينة الكاف.. دخلتها بدراجتي (كوزكي) وحش أسود من حديد ونار على عجلتين مطاطيتين»، اسمي على جسمه «اسم الشهرة كوزكي في بطاقة التعريف همام». «لم يبق في الكاف ما يذكرني بكافي. صار بقعة هالكة، أرض رمادية كسطح سيدي حمد الصالح، يهطل من فوقها مطر أبيض دخان..، شغلت كوزكي وسرت في الغرب دون رجعة».
في حماة التنقل بين المدن التونسية في الطريق بين عرش طاطا ومسقط رأس همام، يتناول بن بريك مشكلة الكتابة والكتاب التي يرى أن «الكتاب اشتغل على اللغة بمعول اللغة» وليس كل من كتب فهو كاتب «القلم المتهاون، الكسول، البخيل، المتلاعب، الغشاش، المتطفل، فاقد سمسم الماء، سرعان ما تجرفه حروف الجر إلى الحذلقة والتزييف، فينزلق يسفسط ويحلل ليخطب فينا، أين الأدب أيها السائل، «عطشان يا صبايا دلوني ع السبيل» (اقتباس من شعر صلاح جاهين).
يتابع الدراج مشواره الطويل للوصول إلى مسقط الرأس: «وجدت نفسي في المنستير، البلدة القبيحة التي زينها ابنها الحبيب طاطاوين (الحبيب بورقيبة) مطارات ومستشفيات جامعية وفنادق سبع نجوم ومراسي اليخت ودراجات التزلج على الماء، ما هذا، لماذا؟ قلت عن طاجروين المنستير».. على طاولات صالون مطماطا لم نخرج من شط الجريد والطاء المثنى.. جحش يهرب علب دخان المالبورو والويسكي المذرح وكلب سوق مترهل».. بالله عليك يا كوزكي أوصلني ضريح يوغرطا «أخبره بما فعل المشيب» (من قصيدة أبي العتاهية).
يصل الدراج همام إلى مسقط رأسه في سيدي بو صالح، التي لا تختلف كثيرًا عن المدن والقرى الأخرى، مناجاة مع أطلنطا الفردوس المفقود الذي لا وجود له إلا في الخيال «في سيدي بو صالح ما زال الموكب يناجي «أطلنطا، أطلنطا، مخدوعون، مخدوعون لآلاف السنين، آلاف السنين مخدوعون، هيا يا كوزكي، كوصي، جمّع من كل حرف زوجا، وأسفنهم على فلكك، شق بي الحدود «زقفونة» (ابتداع للمعري، إن أعياك أمري فاحملني على زقفونة) عكس التساوي» =» واصعد صعد التوازي «اا» ترى الطاء طادا، ما الطاد؟ إن لا طاد الكرّة الآن
قصدت طاطاوين لأمر لا يهم.
بهذا المقطع المزيج من النحت بمعول اللغة، والمنطق الرياضي، وعبثية ألبيرت كامو (في الأمر الذي لا يهم)، واختراع كلمة الطاد التي لا وجود لها إلا في ذهن الكاتب كما زقفونة في ذهن رهين المحبسين ينهي بن بريك مرويته بتشاؤم تغير الأحوال، فحتى بعد سقوط «عرش طاطا» في تونس الثورة، لم يتغير شيء، وكما يقول مثل فرنسي، الطاقية بيضاء، بيضاء الطاقية.
فضاءات تونسية ما قبل الثورة وبعدها
الواقع السياسي والاجتماعي في «كوزكي» لتوفيق بن بريك
فضاءات تونسية ما قبل الثورة وبعدها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة