قراءة في الحالة الراديكالية في الأردن

على خلفية اعتداء مخيم البقعة

قراءة في الحالة الراديكالية في الأردن
TT

قراءة في الحالة الراديكالية في الأردن

قراءة في الحالة الراديكالية في الأردن

وقع الأردن من جديد ضحية للهجمات الإرهابية، وكان آخرها هذه المرة الهجوم الذي استهدف مخيم البقعة شمالي العاصمة عمّان، وذهب ضحيته خمسة أشخاص من بينهم ثلاثة من عناصر الاستخبارات. وللعلم، يقع مخيم البقعة، وهو الأكبر بين 10 مخيمات رسمية للاجئين الفلسطينيين في الأردن، على بعد 20 كيلومترًا من وسط عمّان، ويعرف بأنه كان مقر إقامة الشيخ أبو محمد الطحاوي، الذي يوصف بأنه أحد أشد مناصري وداعمي تنظيم «داعش» في الأردن، وأول من دعا إلى الجهاد في سوريا.
شهد المجتمع الإسلامي الراديكالي في الأردن نموًا ملحوظًا منذ اندلاع الحرب في سوريا. في بداية الصراع فضل هؤلاء «المجاهدين في سبيل الله» الالتحاق بـ«جبهة النصرة» إلا أنهم مع تطوّر الأحداث أخذوا يبدّلون ولاءاتهم، وإذا بهم اليوم يفضّلون الالتحاق بصفوف تنظيم «داعش». والواقع أن السلطات الأردنية واعية تمامًا لخطورة هذا الأمر، وهذا ما يدفعها إلى تشديد تدابيرها الأمنية على أراضيها. غير أن التشدد الأمني وحده، من دون أدنى شك، لن ينجح إلا بتقوية عزيمة هؤلاء المتطرفين ما لم يترافق مع برنامج إعادة تأهيل شامل ومدروس.
معلوم أن الحرب في سوريا قد جذبت آلاف المقاتلين المتشددين والراديكاليين من مختلف أنحاء العالم حتى وصل عددهم إلى ما يقارب 20.000 مقاتل، وذلك قبل الهجمات التي باشرت قوات التحالف الدولي بشنها على مواقع «داعش»، والتي ألحقت هزائم وخسائر كبيرة في صفوف التنظيم في العراق وسوريا، ما أدى إلى زيادة حالات الفرار من صفوفه، وفق تقارير السفارات الأجنبية.
وفي وقت من الأوقات، كان الراديكاليون الأردنيون قد شكّلوا إحدى أكبر المجموعات المقاتلة الوافدة إلى سوريا، إذ قدّرت مصادر موثوقة حسنة الاطلاع عدد الشباب الأردنيين الذين التحقوا بالحركات الراديكالية بنحو 2000 شخص. وهنا يشير الباحث حسن أبو هنية في لقاء سابق مع «الشرق الأوسط» إلى أن ما نسبته الـ80 في المائة من هؤلاء يقاتلون حاليًا في صفوف «داعش»، وذلك بعدما نجح هذا التنظيم المتطرف – وفق أبو هنية – في «أن تغذي لديهم الرغبة في الخلافة». وحقًا، فإن اعتماد «داعش» الخطاب الطائفي المتطرف سمح للتنظيم بتعبئة الشباب الأردني. وللعلم، فإن هذه الاستراتيجية سبق أن اعتمدت في الماضي من قبل «أبو مصعب الزرقاوي» (أحمد فاضل النزال الخلايلة) أحد أبرز الشخصيات الأردنية المتطرفة المعروفة بميلها الشديد إلى العنف، وهو الذي يعتبر اليوم «الأب الروحي» لتنظيم داعش.
واليوم، بعد نحو عشر سنوات من مقتل «الزرقاوي»، يواجه التيار الراديكالي المتطرف في الأردن انقسامًا جديدًا. ذلك أن العداوة التي كانت سائدة في بداية الألفية والتي طغى عليها الثنائي «أبو مصعب الزرقاوي» والشيخ «أبو محمد المقدسي» أعيد إحياؤها اليوم من جديد مع الانقسامات الراهنة بين «داعش» و«جبهة النصرة» المحسوبة على تنظيم القاعدة والمبايعة له.
إضافة إلى ذلك، يبدو أن العامل الجغرافي لعب أيضًا دورًا في توجه الشباب الأردنيين خلال السنة الماضية إلى «داعش» بدل «جبهة النصرة»، وهذه الظاهرة لوحظت أيضًا في لبنان. ومع إقدام الأجهزة الأمنية والجيش الأردني على إقفال الحدود الأردنية مع جنوب سوريا، حيث كانت تتمركز قوات «جبهة النصرة»، أجبر المقاتلون المستقبليون إلى التوجه إلى سوريا عبر تركيا، وهناك كان «داعش» بانتظارهم.
من جهة أخرى، عانت الجماعات الراديكالية الأردنية خسائر كبيرة في سوريا، وكان لمختلف المدن الأردنية مثل السلط ومعان وإربد نصيبها من أبنائها المقاتلين الذين سقطوا في المعارك. وحسب الإحصاءات التي يعتد بها وصل حتى الآن عدد الأردنيين الذين قتلوا في سوريا إلى 350 قتيلاً، كما ألقت أجهزة الاستخبارات القبض على نحو 400 مقاتل. أما حيال موضوع تنقل الراديكاليين الأردنيين من فصيل متطرف إلى آخر فجسدته خير تجسيد قضية أحمد عطا الله شبيب المجالي، النقيب في سلاح الجو الأردني، الذي فرّ من الأردن لينضم إلى صفوف «جبهة النصرة» في يوليو (تموز) 2013، وفقًا لصحيفة «الأخبار» اللبنانية القريبة من «حزب الله». ويتحدّر المجالي من إحدى أهم وأبرز عشائر منطقة الكرك، بجنوب الأردن. وصار معروفًا بشكل كبير بعدما نُشِرَت صورة له مع متشدد آخر حاملاً كلاشنيكوف، ليعود لاحقًا وينضم إلى تنظيم داعش قبل أن يُقتَل في إحدى المعارك خلال صيف عام 2014.
وفضلاً عن ذلك، ظهر أخيرًا فتى يدعى أشرف خريسات في شريط مصوّر التقط في شمال سوريا وهو يُمزق جواز سفره إلى جانب مجموعة من الشبان المغاربة. مع هذا، يبقى الجيل الأكبر سنًا من المقاتلين الراديكاليين ميالاً أكثر إلى «جبهة النصرة» التي لا تزال تطغى عليها شخصيات معروفة على غرار الدكتور سامي العريدي الأستاذ في الشريعة، وإياد الكليبي الصيدلي.
إن مشروع المقاتلين الراديكاليين في الأردن، كما يرى مراقبون مطلعون على الصورة العامة، مشروع طموح جدًا يتعدى الدفاع عن السوريين السنّة ويسعى إلى إقامة حكومة إسلامية قائمة على الشريعة، إلا أن هذا الهدف يبقى صعب المنال في بلد يرعاه نظام ملكي مستقر. وعلى الرغم من أن عدد المؤيدين للتوجهات المتشددة والراديكالية في الأردن الآن يتراوح ما بين 8.000 و12.000 شخص، وعلى الرغم من تزايد شعبية الراديكاليين في البلد، فإن الغالبية العظمى من الأردنيين لا تطمح إلى القتال في سوريا، ولا تدعم بالضرورة الحركات المتطرفة مثل «القاعدة» و«داعش»، لا سيما بعد جريمة قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة بطريقة وحشية على أيدي عناصر «داعش». وبالتالي، فإن أقل من 5 في المائة فقط من الشعب قد يؤيد الجماعات المتطرفة. والملموس جدًا أن جريمة قتل معاذ الكساسبة أثرت بعمق في الأردنيين، وانعكست سلبًا على صورة الراديكاليين الأردنيين.
في أي حال، سعيًا لمواجهة موجة التطرف هذه، اتخذت السلطات الأردنية بعض التدابير الوقائية الجذرية كمراقبة الحدود لقطع الطريق على محاولة انضمام مزيد من المتطرفين الأردنيين إلى الحركات الراديكالية في سوريا، وبالأخص عن طريق تركيا ودول عربية أخرى. وهنا أشار الخبير مروان شحادة في مقابلة سابقة معه إلى أن 60 في المائة تقريبًا من أولئك الذين قبض عليهم، والذين تجري محاكمتهم في الأردن هم من أبناء مدينتي الرصيفة والزرقاء، كما أن السلطات الأردنية عمدت إلى اعتقال كل من أوقفته على الحدود بين الأردن وسوريا.
هذا ولم تقتصر سياسات أجهزة الاستخبارات الأردنية على ملاحقة واعتقال المتطرفين والراديكاليين إنما تمكنت أيضًا من اختراق «جبهة النصرة»، وفقًا لبعض المصادر، في حين صعب تحقيق مثل هذا الإنجاز مع تنظيم داعش كونه تتمتع بجهاز استخبارات داخلي قوي جدًا يضطلع بأعمال المراقبة والرصد الفعالة. إلا أن إلقاء القبض على المقاتلين، لا سيما الشباب منهم، وزجهم في السجون مع راديكاليين قدامى قد يحوِّلهم إلى أسلحة قاتلة أخطر حتى من أولئك الذين ظهروا، أو «تخرجوا»، في سجن مخيم بوكا الأميركي في البصرة، بجنوب العراق، حيث وُلد «داعش». فبالنسبة للذين لم يتورطوا كثيرًا مع «داعش» قد تكون الأحكام البسيطة بحقهم، والتركيز على إعادة إدماجهم في المجتمع من الخيارات الأساسية المناسبة.
كلمة أخيرة.. أمام واقع الحرب السورية التي يبدو أن نهايتها ليست بالقريبة، فإن تزايد أعداد المقاتلين الراديكاليين الأردنيين وعبورهم إلى سوريا أو إلى العراق، ينذر بتعاظم الأخطار التي تواجه المملكة بشكل يومي. وعلى المدى الطويل، قد تؤدي هذه الراديكالية بنسختها الجديدة، ولا سيما في أوساط الجيل الشاب الأردني، إلى زعزعة القواعد القبلية، وإضعاف التركيبات التقليدية ضمن شريحة من السكان تشكل الأساس الصلب لاستقرار الأردن. غير أن الهم الأول والأساسي اليوم يتمثل في التصدي للآيديولوجية التوتاليتارية التي يبثها «داعش»، والتي ما زالت تنجح بجذب وتعبئة قسم من الشباب ضمن مواجهات يبدو أنها تتخذ يومًا بعد يوم طابعًا أكثر مأساوية.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.