الشيخ مصطفى إسماعيل.. 73 عاما «في ظل القرآن»

حياة واحد من أبرز القراء في مصر والعالم العربي

الشيخ مصطفى إسماعيل.. 73 عاما «في ظل القرآن»
TT

الشيخ مصطفى إسماعيل.. 73 عاما «في ظل القرآن»

الشيخ مصطفى إسماعيل.. 73 عاما «في ظل القرآن»

صدر عن سلسلة «كتاب الهلال» الشهرية كتاب «الشيخ مصطفى إسماعيل.. حياته في ظل القرآن» للمؤلف الناقد الفني والشاعر الراحل كمال النجمي، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم.
يرصد الكتاب بين دفتيه حياة واحد من أبرز قراء القرآن الكريم في مصر والعالم العربي، ويورد المؤرخ الأدبي الراحل كمال النجمي أنه بإحصاء سنوات الشيخ مصطفى إسماعيل في ظل القرآن، فقد زاد رصيده على 53 ألف ساعة، وهم رقم قياسي كبير جدا، ولكن ما بقي منه في تسجيلات الإذاعة 300 ساعة فقط، ويشير النجمي إلى أن «ذلك الكنز الكبير» ضاع منه أكثر من 52 ألف ساعة: «فما أفدح الخسارة» إلا أن ما تبقى من هذه التسجيلات للشيخ مصطفى إسماعيل «على فرط قلته، يدل على صاحبه كما يدل شعاع الشمس عليها وهي خافية وراء الغمام».
وفي مقدمة الكتاب يقول نجله عاطف مصطفى إسماعيل المقيم في ألمانيا منذ عام 1953 إن أباه وقبله الشيخ محمد رفعت «أعظم من أنجبتهم مصر في فن الإلقاء اللحني لأنهم يلحنون لأنفسهم ومن دون تخت موسيقي»، وإن هذا الكتاب استوفى أكثر ما يتعلق بحياة الشيخ مصطفى إسماعيل «وبفنه العظيم وكفاحه على امتداد 73 عاما».
يرى النجمي أن الشيخ مصطفى إسماعيل كان يملك صوتا فذا واسع المساحة كبير الحجم وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند أحد من القراء، بمن فيهم الشيخ رفعت، ولكن الشيخ مصطفى إسماعيل كان يستخدم صوته وعلمه بالمقامات في إبراز جمال الآيات وإعجازها، وكان يخرج كل حرف من مخرجه الأصلي فلا يشتبه بحرف آخر، معتنيًا كل الاعتناء بإظهار التشديدات، وتوفية الغنات، وإتمام الحركات، وتفخيم ما يجب تفخيمه من الحروف، وترقيق ما يجب ترقيقه، وقصر ما يجب قصره، ومد ما يتعين مده، والوقوف على ما يصح الوقوف عليه لا على ما يختاره من وقفات تتعلق بصحة الألحان وجمالها أكثر مما يتعلق بصحة التلاوة وكمالها.
يستعرض المؤلف السياق التاريخي لبزوغ نجم الشيخ مصطفى إسماعيل، حين كان القارئ الأكبر الشيخ محمد رفعت الملقب بـ«قيثارة السماء» على قيد الحياة، ولكنه «تقاعد واعتزل الناس بعد احتباس صوته وعجزه عن القراءة، وفشل الطب في علاجه بعد محاولات طويلة أرهقت الشيخ كما أرهقت الأطباء!»، وفي الثلاثينات لم يكن أحد يستمع إلى غير الشيخ رفعت إلا في الندرة والمصادفة، فقد كان صوته وفنه في التلاوة نفحة سماوية باهرة ملأت الدنيا وشغلت الناس، ولم تترك لمعاصريه من «القراء» إلا مساحة متواضعة يتحركون فيها إلى جواره.
ويضيف: «حتى القراء المشاهير في ذلك العصر ومنهم من جلس قبل الشيخ رفعت إلى ميكروفونات الإذاعات الأهلية في أواخر العشرينات – ضاءلت شهرته من شهرتهم، وغطى فنه على فنهم، وحجب صوته أصواتهم، بعد أن أتيح لصوته أن يصل إلى المستمعين من خلال الإذاعات الأهلية في بداية الثلاثينات، ثم عن طريق (الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية) - كما كانت الإذاعة تسمى - منذ إنشائها سنة 1934. وحاول بعض زملائه أن يشنوا الحرب عليه كما يفعل زملاء المهنة الواحدة المتنافسون، ولكنهم في دخائل نفوسهم كانوا يعلمون أنه الأحق بالنجاح».
وخلال هذه المعركة بين الشيخ رفعت وقارئي زمانه، كان الشيخ مصطفى إسماعيل بعيدا عن ميكروفون الإذاعة، لا يعرفه إلا الذين سمعوه في ليالي طنطا وبعض المدن والقرى الأخرى في الوجه البحري من مصر. وكان حينذاك في العشرينات من عمره، ولكن شهرته بجمال الصوت وجودة الأداء بلغت مسامع المشايخ في القاهرة، فقد جمعته بعض المناسبات بهم، فقرأ وسمعوه وعرفوا ما يمكن أن يبلغه ذات يوم بصوته وأدائه.
ويسجل أن الشيخ مصطفى أتى له أن يجلس بين يدي الشيخ رفعت ويسمعه صوته ويعرض عليه فنه، ففرح به الشيخ وقال له بلهجة تشجيع واستحسان: «فتح الله عليك يا بني.. حافظ على صوتك فسيكون لك شأن كبير». وحين أقعد المرض الشيخ رفعت عن الانتظام في تلاوة القرآن بالإذاعة المصرية، كان الشاب مصطفى إسماعيل يشق طريقه إلى القلوب «وفي سرعة خاطفة.. ملك ناصية الميكروفون، واستأثر بأسماع الناس في ليالي رمضان الحاشدة التي كانت تذاع في باحة قصر عابدين في القاهرة.. وقصر رأس التين في الإسكندرية. كانت ليالي رمضان هي الباب الذي انفتح على مصراعيه للشيخ الشاب مصطفى إسماعيل لكي يصبح أشهر قارئ للقرآن الكريم في نهاية عصر الشيخ رفعت، وفي أعقاب عصر الشيخ رفعت الذي توفي سنة 1950.
ويروي المؤلف أن الشيخ مصطفى بعد شهرته قد لقي ما لقيه الشيخ رفعت من نقد بعض المشايخ وحملتهم على طريقته في التلاوة، وتتبعهم له حتى في حياته الخاصة، وتحدثهم حتى عن طريقته في ارتداء ملابسه وعمامته!



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».