هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

يرأس حكومة انتقالية بجرعة اقتصادية لتغيير المزاج العام الأردني

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»
TT

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

هاني المُلقي.. سياسي «القانون على الجميع»

جاء تكليف الدكتور هاني المُلقي لرئاسة الحكومة الأردنية، في مرحلة اقتصادية صعبة يعيشها الأردن جراء تأثيرات تداعيات أحداث المنطقة وما أفرزته الحرب في سوريا والعراق على الأردن من إغلاق للحدود وتدفق اللاجئين السوريين في بلد شحيح الموارد والمياه؛ الأمر الذي انعكس بسرعة كبيرة على حياة المواطنين. ولعل اختيار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني للرئيس الملقي، جاء لما تتطلبه المرحلة الدقيقة والصعبة التي تمر بها البلاد، وإحساسه بمعاناة المواطنين الذين استنزفت مدخراتهم جراء الضرائب التي فرضتها حكومة الدكتور عبد الله النسور السابقة.
حكومة المُلقي جاءت بجرعة اقتصادية واضحة، وملف الاستثمار يحتل مكانة متقدمة في اهتماماتها بحكم تركيبتها، وهي حكومة تقول للعالم إن قلبها وذراعيها مفتوحان لاستقبال الاستثمارات. أما ما يشغل بال الحكومة فملفان يعتبران من أولوياتها: الأول هو الاقتصاد والمديونية وضرورة معالجتهما، خاصة أن المواطن يعاني معاناة كبيرة. والآخر هو إجراء الانتخابات النيابية والمجالس المحلية التابع لمشروع اللامركزية.
حكومة هاني المُلقي الجديدة في الأردن «حكومة انتقالية» جاءت في ظروف حساسة، وأمامها ملفات صعبة، خاصة في المجال الاقتصادي. هكذا يصفها الكاتب السياسي فهد الخيطان، ويضيف: إن «عدد أعضاء الحكومة جاء أكبر من اللازم، وكان يجب أن تكون أكثر رشاقة؛ لأن المرحلة تتطلب العمل بديناميكية عالية، وأن الفريق موسع جدًا وسيعيق عمل الحكومة». ثم تابع: «أعتقد أنه لن يكون هناك تغييرات في السياسات والاستراتيجيات الرئيسية والتي كانت في عهد الحكومة السابقة». وبالنسبة للملفات الخارجية، قال الخيطان: إن الحكومة ستتولى الأمور الداخلية، ولن تتدخل في الأمور التي تهم الأمن والدفاع.
أما وزير الإعلام الأسبق الدكتور نبيل الشريف، فيرى أن التغيير الحكومي «جاء لإعطاء الملف الاقتصادي دفعة إلى الأمام، وليس كما يقال إنها جاءت لإجراء الانتخابات؛ إذ إنه كان بإمكان الحكومة السابقة إجراء الانتخابات، ولا يوجد نص دستوري يمنع ذلك». ثم أشار إلى أن الحكومة «جاءت لترتيب البيت الاقتصادي»، معربا عن اعتقاده أن «الحكومة السابقة أصابها الوهن والترهل في الفترة الأخيرة، خصوصا في الجهاز الحكومي، وهذا رأيناه في كتاب التكليف السامي حول ضرورة تطوير الجهاز الحكومي». وتابع الشريف «الهم الاقتصادي ومعاناة المواطنين منه هو الذي كان يشغل بال الملك، ولو استطاعت الحكومة الحالية أن تخفّف المزاج العام وتدخل التفاؤل إلى قلوب الأردنيين فهو بحد ذاته نجاح. وأعتقد أن هناك نسبة من التفاؤل على قدرات هذه الحكومة لتغيير المزاج العام وبدء التغيير في الملفات الاقتصادية».
* الحكومة الـ16
جدير بالذكر، أن حكومة هاني المُلقي هي الحكومة السادسة عشرة منذ تولي الملك عبد الله الثاني سلطاته عام 1999، وكان قد تولى رئاسة الحكومات الـ15 قبلها 11 من رؤساء الوزراء، هم: عبد الرءوف الروابدة وعلي أبو الراغب وفيصل الفايز وعدنان بدران ومعروف البخيت ونادر الذهبي وسمير الرفاعي وعون الخصاونة وفايز الطراونة وعبد الله النسور، ورئيس الوزراء الحالي هاني المُلقي. لم يأت الملك عبد الله الثاني بشخصية معارضة، أو حتى شبه معارضة، تحظى ببعض القبول لدى أحزاب اليسار والأوساط النقابية، لكي يخلق انطباعًا بأن النظام في الأردن تجاوز مرحلة «الربيع العربي» إلى مرحلة جديدة وهي استعادة هيبة الدولة. بل ذهب الخيار الملكي باتجاه اختيار دبلوماسي واقتصادي ليقود مرحلة ربما تكون انتقالية، تقف فيها الأردن على أعتاب انتخابات برلمانية، في ظل تحديات اقتصادية وسياسية وجوار مضطرب يلقي بظلاله على الساحة المحلية.
* ابن عائلة سياسية
الرئيس هاني المُلقي شخصية واقعية، تنظر للمشهد من الزوايا كافة، وهو شخص عرف عنه معالجة الوضع الاقتصادي بأسلوب إداري موزون، وهو الأسلوب ذاته الذي اضطلع فيه الرجل، حين مارس السياسة الاقتصادية بمفهومها الشامل، منذ توليه مناصب وزارية في أكثر من موقع. المُلقي ابن عائلة سياسية مُخضرمة، فوالده هو رئيس الوزراء الأسبق فوزي المُلقي في عهد الملك الراحل الحسين بن طلال. وعُرف عنه أنه يُعالج القضايا بأسلوب علمي هادئ يرقى إلى الوعي المبني على فلسفة (الفهم والتفاهم)، وقد يكون هذا سرّ نجاحه في المواقع السياسية والاقتصادية التي تبوأها، منذ أن دخل الحياة السياسية في أواسط ثمانينات القرن الماضي، وحتى توليه رئاسة الحكومة.
وعائلة المُلقي تقلّدت الكثير من المناصب المهمة والحساسة في الدول الأردنية قبيل وبعد استقلالها، حيث قرّب الملك عبد الله الأول (الملك المؤسس) فوزي المُلقي – والد رئيس الوزراء الجديد – وعيّنه مسؤولا عن التموين أثناء الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا عام 1944، ثم استعان به الملك الراحل حسين بن طلال وعيّنه أول رئيس وزراء له عند تسلمه مقاليد الحكم عام 1953. ومنذ ذلك الوقت وعائلة المُلقي مقرّبة من القصر الهاشمي. واللافت أن هاني المُلقي تسلم الحقائب ذاتها التي تسلمها والده، من رئاسة الوزراء إلى وزارة التموين إلى منصب السفير الأردني في القاهرة، حيث مكث المُلقي الابن فترة طويلة في القاهرة، وهي المدينة التي درس فيها المرحلة الأولى من تعليمه الجامعي.
لعب هاني المُلقي دورًا بارزًا في السياسة الخارجية إبان تسلمه حقيبة الخارجية عام 2004، وهي وزارة سيادية لها وزنها في التركيبة الحكومية، إضافة إلى عمله مندوبًا دائمًا لدى جامعة الدول العربية بين عام 2008 وحتى 2011، وخلال عمله مستشارًا للملك خلال الفترة (2005 – 2007)، كما عين عضوا في مجلسي الأعيان الحادي والسادس والعشرين.
ولا تقتصر خبرة الرئيس الجديد، على الجانب السياسي، بل تتعداه – كما سبقت الإشارة – إلى مؤسسات ووزارات ذات طابع اقتصادي، منها: المياه والري والطاقة والتموين والصناعة، ولعل أهم تلك المواقع تسلمه رئاسة سلطة منطقة العقبة الخاصة. وفي عهد المُلقي كان التركيز على جذب الاستثمارات الخارجية، وهي الفلسفة التي ينطلق منها، ويدعو لها منذ عهد بعيد، وفقًا لتصريحاته الصحافية ولقاءاته، ومشاركاته في الندوات والمؤتمرات. وكما يقول عارفوه، فهو من القلائل الذين يجمعون بين الحنكة السياسية، والنظرة الشمولية لمعالجة الاختلالات الاقتصادية، من حيث دراسة المشاريع التنموية دراسة متأنية، بما ينعكس إيجابًا على زيادة معدلات النمو الاقتصادي، وهو بمجمله الفهم العميق للواقع من منظوره العام.
من ناحية ثانية، فإن شخصية المُلقي القوية هي الدافع الحقيقي لإيمانه بهيبة الدولة، وبضرورة إعادة الاعتبار لها، ولقد مارس صلاحياته في حل الكثير من الإشكالات التي كانت شهدتها مدينة العقبة، إبان ترؤسه سلطتها الاقتصادية. وكذلك رفضه التسويات التي تقود إلى التمادي في المخالفات والاعتداءات على أملاك الدولة. وهو رجل دولة بامتياز، يتبنى سياسة القانون على الجميع، ويبدو أن اختياره لهذا الموقع يصب في خانة الإصلاح الشامل.
أيضًا عرف عن المُلقي أنه يفصل بين الأملاك العامة والأملاك الشخصية الخاصة، فهو يستعمل سيارته الخاصة بعد انتهاء دوامه، إضافة إلى يحمل هاتفين الأول للعمل والثاني للبيت ويستخدم أملاكه الشخصية خارج الدوام الرسمي.
* المفاوضات مع إسرائيل
سياسيا ارتبط اسم هاني المُلقي بالمفاوضات الأردنية - الإسرائيلية، التي أفضت إلى توقيع «اتفاقية وادي عربة للسلام» بين الأردن وإسرائيل عام 1994، ولقد عهد الملك الراحل الحسين بن طلال لاحقا إلى المُلقي برئاسة المجلس الأردني في مفاوضات السلام «الاتفاقيات التفصيلية» بين الأردن وإسرائيل خلال الفترة الممتدة بين عامي 1994 - 1996. ومنذ ذلك التاريخ لم يغب رئيس الوزراء الجديد عن الساحة السياسية؛ إذ تقلد الكثير من الحقائب الوزارية، منها: وزارات المياه والري، والطاقة، والتموين، والصناعة والتجارة، والخارجية عام 2004. وخلال توليه حقيبة وزارة الخارجية التقى المُلقي برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريئيل شارون في تل أبيب عام 2005. كما التقى بشخصيات إسرائيلية أخرى من أبرزها وزير الخارجية سيلفان شالوم عام 2005، والنائب الأول لرئيس الدولة العبرية السابق شمعون بيريز، ووزير الصناعة والتجارة إيهود أولمرت الذي أصبح رئيسًا للحكومة الإسرائيلية عام 2006. وشنّ هجومًا عسكريا على قطاع غزة نهاية عام 2008 وأوائل 2009.
* المشكلات الاقتصادية
المُلقي، كما يتوقع محللون، سيسعى إلى إيجاد حلول ذكية لمشاكل الأردن الاقتصادية، ابتداء بإغلاق معابر الدولة الأردنية البرية مع العراق وسوريا اللتين تعدّان الشريان الرئيس للصادرات الأردنية، ومرورا بأزمات تراجع معدلات النمو وتدفق الاستثمارات الأجنبية وما رافقهما من ارتفاع لمعدلات البطالة بين الأردنيين. وللعلم، كانت حكومة سلفه عبد الله النسور قد تعهدت في «مؤتمر المانحين» في لندن خلال فبراير (شباط) الماضي بتشغيل نحو 200 ألف لاجئ سوري خلال ثلاث سنوات. وما ينطبق على الاقتصاد في الأردن ينطبق على السياسة أيضًا؛ إذ شهدت البلاد تراجعا في الحريات السياسية والإعلامية، كما تراجع ترتيب البلاد سلبا على سلّم مكافحة الفساد والشفافية العالمي.
ثلاثة ملفات رئيسية تنتظر حكومة المُلقي، ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول برنامج «إصلاح مالي جديد»، وملف مجلس التنسيق السعودي – الأردني، بالإضافة إلى ملف إجراء الانتخابات البرلمانية قبيل نهاية العام الحالي. ويسود اعتقاد بأن تلك الملفات الثلاثة هي ما سيحكم على أداء الحكومة، وهل ستستمر في قيادة الحكومة للسنوات الأربع المقبلة أم لا، وهي مَن سيحدد مصيرها بعد إجراء الانتخابات البرلمانية.
* بطاقة هوية
يبلغ عمر رئيس الوزراء الأردني الجديد 65 سنة، وهو من مواليد العاصمة عمّان عام 1951. حصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الإنتاج من جامعة القاهرة في مصر عام 1974، ثم حاز شهادة الماجستير في الإدارة الهندسية من معهد رنسيلير البوليتكنيكي RPI، أحد أعرق وأبرز الجامعات التكنولوجية في الولايات المتحدة الأميركية، عام 1977. ثم نال منه شهادة الدكتوراه في هندسة النظم والصناعة عام 1979.
وعلى صعيد المناصب، شغل المُلقي عددا من المناصب، منها:
- مهندس ميداني في وزارة الأشغال العامة 1974 – 1975.
- مساعد عميد الهندسة في جامعة اليرموك 1980 ـ 1981.
- مدير تنفيذي للأكاديمية الإسلامية العامة للعلوم 1987 ـ 1989.
- باحث في الجمعية العلمية الملكية 1975 ـ 1979.
- رئيس قسم الطاقة الشمسية في الجمعية العلمية الملكية 1983 ـ 1987.
- رئيس الجمعية العلمية الملكية 1989.
- الأمين العام للمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا 1993 ـ 1997.
- تولّى رئاسة الجانب الأردني في اللجنة المشتركة لمراقبة تنفيذ معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية.
- النائب التنفيذي لرئيس المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا 19-4-1999 - 1-3-2002.
- سفير للأردن لدى مصر 1-3-2002 - 24-10-2004، ومندوب دائم للأردن لدى جامعة الدول العربية.
- مستشار للملك 7-4-2005 - 1-10-2007.
- سفير للأردن لدى مصر 1-6-2008 - 11-2-2011، ومندوب دائم للأردن لدى جامعة الدول العربية.
- عضو في مجلس الأعيان الحادي والعشرين.
- عضو في مجلس الأعيان الـ 26 الحالي (استقال).
- رئيس لسلطة إقليم العقبة الخاصة عام 2014.
* الحقائب الوزارية
- وزيرا للمياه والرّي 1998.
- وزيرا للطاقة 1998 – 1999.
- وزيرا للتموين.
- وزيرا للصناعة والتجارة.
- وزيرا للخارجية في عام 2004.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.