علي إبراهيم.. في ذمة الله

لقطة تجمع علي إبراهيم مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ابان زيارته إلى لندن عندما كان وليا للعهد
لقطة تجمع علي إبراهيم مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ابان زيارته إلى لندن عندما كان وليا للعهد
TT

علي إبراهيم.. في ذمة الله

لقطة تجمع علي إبراهيم مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ابان زيارته إلى لندن عندما كان وليا للعهد
لقطة تجمع علي إبراهيم مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ابان زيارته إلى لندن عندما كان وليا للعهد

فقدت «الشرق الأوسط» وأسرتها يوم أمس الأستاذ علي إبراهيم، نائب رئيس التحرير، وأحد كبار كتابها، إثر أزمة قلبية حادة.
ولد الزميل الراحل في العاصمة المصرية القاهرة وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مصر. وأكمل تعليمه الجامعي في جامعة بيروت العربية بلبنان، حيث تخرّج مجازًا في العلوم السياسية. وبدأ العمل الصحافي منذ عام 1973. فور تخرجه، وذلك في وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية متدرجًا من الشؤون المحلية، إلى الشؤون الاقتصادية، داخليًا وخارجيًا.
انتقل بعد ذلك إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل محرّرًا في صحيفة «البيان» الإماراتية بدبيّ، ثم أصبح مسؤولا عن القسم الاقتصادي فيها. كذلك عمل معدًا لبرنامج التقرير الاقتصادي الأسبوعي مع انطلاق تلفزيون «دبي».
عام 1990 التحق بصحيفة «الشرق الأوسط» واستقر في العاصمة البريطانية محرّرًا اقتصاديا، ثم انتقل إلى القسم السياسي، إلى أن أصبح مسؤولاً عنه. ومن ثم رقي إلى منصب مساعد رئيس التحرير. وفي شهر مايو (أيار) عام 2010 رقّي إلى منصب نائب رئيس التحرير، الذي ظل يشغله حتى وفاته يوم أمس. وهو متزوج وأب لثلاث بنات.
إبان عمله في «الشرق الأوسط» واكب الزميل علي إبراهيم جهود التطوير المستمرة، بل كان جزءًا أساسيا من الفريق الذي أشرف على وضعها وتنفيذها. كما أن إسهاماته للصحيفة في مختلف مواقع العمل، سواءً على الصعيد التحريري أو الإداري، تبقى شاهدًا على التزامه بمهنته وعمله وكفاءاته المهنية العالية. ثم إنه كان من كتّاب الرأي في الصحيفة الذين يتابعهم جمهورها بحرص وإعجاب.
أخيرًا، لا بد من التنويه بأن الزميل العزيز أبى إلا أن يعود إلى العمل في صحيفته التي أحبّ بعد الأزمة الصحية الأولى التي تعرّض لها في مطلع عام 2015. وبعد العودة واصل عمله بجدّية، ووفاء والتزام نادرين، كان لهما أكبر الوقع في نفوس الزملاء الذين هزّهم أمس نبأ رحيله، رحمه الله.
وفيما يلي أول مقالة كتبها الزميل الراحل بعد إبلاله من العارض الصحي الأول، ونشرت يوم 19 مايو 2015، والمقالة الأخيرة له قبل العارض الثاني ونشرت يوم 17 مايو 2016
* تحويشة العمر (19 مايو 2015)

* احترت في كتابة هذا المقال بعد شهور من الغياب الاضطراري؛ فأنا لم أعد بعُد إلى المنزل، وما زلت في طور النقاهة، فهل أنتظر أكثر أم أكتب؟ الحقيقة طبيعة الصحافي انتصرت في النهاية، فقد مضت فترة ليست قصيرة وأنا غائب اضطرارًيا وأشعر أن عليّ واجبا في أن أكتب؛ أقول شكًرا لكل الأصدقاء والزملاء الذين غمروني بمقدار كبير من الحب كان دون شك له أثر كبير على صحتي النفسية. والحقيقة أنه كما فوجئ الزملاء الذين كانوا معي في المكتب بالأزمة الصحية التي ضربتني، وشبهها أحد الأطباء المعالجين بأنها أشبه بقطار صدم شخًصا فجأة، فإنني كنت أول المتفاجئين، فلم تكن هناك أي مقدمات، وكل شيء حدث فجأة مساءً بعد اجتماع مجلس التحرير للصفحة الأولى اليومي الاعتيادي وتسارعت التطورات، والحقيقة أنني لم أدر بشيء لأسابيع نظًرا لوقوعي تحت تأثير مخدرات قوية يستخدمها الأطباء بعد العمليات الجراحية. أحتاج إلى شكر كثيرين أظهروا قدًرا كبيًرا من القلق واتصلوا وسألوا.. لا أعرف بمن أبدأ، وأنتهي بمن؟ فهناك ثلاث محطات رئيسية في حياتي العملية في الصحافة؛ القاهرة والإمارات وبريطانيا، وفي كل محطة هناك أصدقاء عمر على تواصل دائم معي وأشعر بامتنان كبير لهم، لكن أشعر أنني يجب أن أقول شكًرا كبيرة لسمو الأمير فيصل بن سلمان رئيس مجلس أمناء الشركة السعودية للأبحاث والنشر وأمير المدينة المنورة الذي حرص على زيارتي في المستشفى مع الأستاذ سلمان الدوسري رئيس التحرير الذي بدوره كتب مقالاً أسرني بما حملته كلماته من مشاعر حب وتقدير فياضة ولم تنقطع زياراته الأسبوعية لي. شكًرا كبيرة أيًضا للزملاء في المكتب في لندن والسعودية وسائر مكاتب الصحيفة حول العالم الذين كان لزياراتهم واتصالاتهم وسؤالهم الدائم أثر معنوي كبير عليّ، وكذلك الأصدقاء في عواصم مختلفة الذين شبههم صديق عمر لي في القاهرة بأنهم أشبه بـ«تحويشة العمر»؛ فهم أشبه برصيد تراكمه في الأيام الجيدة في بنك ويظهر في وقت الأزمات ليساعدك ويدعمك، أود أن أقول شكرا لشلة القاهرة وللزملاء في مكتب لندن. خلاف ذلك، لو انتقلنا من الشخصي إلى العام، فإن الغياب عدة أسابيع عن متابعة الأخبار ثم العودة إليها مرة أخرى لا بد أن يشعرك باكتئاب؛ فتطورات العالم العربي من سيئ إلى أسوأ والأزمات تنافس أو تناطح بعضها، فأمس كانت سوريا والآن اليمن والحوثيون، وما كان «مانشيتا» قبل أسابيع أصبح خبًرا داخلًيا اليوم. التطور الإيجابي الذي يمكن رصده هو أن بعض القوى الرئيسية في المنطقة اتخذت مواقف تفرض بها مصالحها على القوى الكبرى المتداخلة في ملفات المنطقة.

* خرائط جديدة (17 مايو 2016)

* مائة عام مّرت على الاتفاق بين الدبلوماسيين؛ البريطاني والفرنسي مارك سايكس وفرنسوا بيكو، اللذين اتفقا في القاهرة على تقسيم المغانم في منطقة الشرق الأوسط، عندما تتم هزيمة الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم معظم الدول العربية لمئات السنين. وقتها في عام 1916 كانت القوى العظمى وقتها تخوض حربا عالمية، جزء من مسرحها الشرق الأوسط، مع اختيار الدولة العثمانية الوقوف مع ألمانيا الجانب الخاسر. الآن مسرح الحرب هو منطقة الشرق الأوسط، التي تشتعل وسط أحاديث عن خطوط جديدة للحدود، قد تؤدي إلى كيانات سياسية جديدة، يجري رسمها هذه المرة بواسطة القوتين العظميين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية اللتين تخوضان معركة نفوذ محتدمة، خريطتها تمتد من القرم إلى الشرق الأوسط، وتقف القوة العظمى الناشئة الصين تراقب وتستعرض عضلاتها من وقت لآخر في بحر الصين. فتَح «الربيُع» العربي المجاَل لطموحات قوى محلية وإقليمية لرسم خطوط جديدة مختلفة عن التي رسمها الدبلوماسيان البريطاني والفرنسي، وجرى الحديث صراحة في كواليس القوى الدولية عن أن الأزمة في المنطقة، هي نتاج انهيار النظام الإقليمي الذي أفرزته الحرب العالمية الأولى وعاشت عليه المنطقة في العقود الماضية. لقد فتح حديث إعادة ترسيم الحدود نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في العراق، عندما تحدث قبل سنوات عن 3 دويلات على أسس عرقية وطائفية، وهي قائمة بالفعل على أرض الواقع، وامتدت المسألة إلى سوريا التي أصبحت الآن شبه مقسمة، منها ما هو تحت سيطرة المعارضة ومنها ما هو في قبضة ميليشيات مسلحة بآيديولوجيات مختلفة، بينما تقلصت سيطرة النظام على الأرض، والمفارقة أن من يقوم بإعادة ترسيم الحدود هو تنظيم إرهابي (داعش) الذي تعهد بالقضاء على «سايكس بيكو». لم تكن لـ«سايكس بيكو» أي شعبية في التراث العربي، فقد كانت وما زالت تدرس على أنها شيء كريه فرضه الاستعمار، وفي نفس الوقت فإن العثمانيين كانوا أيضا غير محبوبين في التراث العربي، وفي الواقع فإن الأطراف كلها رأت أن لديها مصلحة في الحفاظ على هذه الحدود والجغرافيا السياسية، التي نجمت عنها، لأن البديل يعني الفوضى والاقتتال. وأول من التقط إشارة أن هناك حدثا ضخما أو زلزالا يضرب المنطقة شبيها بما حدث قبل مائة عام، هو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في إشارة إلى الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين. وهناك شبيه للورانس في أحداث «الربيع العربي»، وخاصة في ليبيا، وهو الفرنسي برنارد ليفي. لم يكن وضع المنطقة مريحا قبل الثورة العربية الكبرى، وكان الحكم التركي أو العثماني محَل خلاف ولا يزال بين من يسمونه فتًحا، ومن يقولون إنه غزو، وهو في كل الأحوال جرى بحّد السيف، كما حدث في معركة «مرج دابق»، وتعليق الجثث على باب زويلة في القاهرة. لا تزال المنطقة من العرب إلى الأتراك لا تشعر بالراحة من «سايكس بيكو» التي كان لها ملحقات سّهلت ولادة إسرائيل، بينما لم تمنح دولة للأكراد، لكن الجميع يعرف أن إعادة رسم الخطوط مرة أخرى سيكون عنيفا، وقد تستمر الارتدادات الزلزالية فترة من الزمن، حتى تستقر الأوضاع، كيف سيكون المستقبل، وهل هناك خريطة جديدة؟ هذا سيحسمه الصراع الدائر بين واشنطن وموسكو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)