هل تعود روسيا إلى أفغانستان عبر بوابة طالبان؟

مع تصاعد التدخل الإيراني.. بذريعة محاربة «داعش»

عناصر من داعش خارج جلال أباد في افغانستان
عناصر من داعش خارج جلال أباد في افغانستان
TT

هل تعود روسيا إلى أفغانستان عبر بوابة طالبان؟

عناصر من داعش خارج جلال أباد في افغانستان
عناصر من داعش خارج جلال أباد في افغانستان

تعاني أفغانستان حربا طويلة تتوالى تبعاتها منذ أكثر من أربعين سنة، عندما دخلت قوات الاتحاد السوفياتي السابق إلى هذا البلد لدعم الحكومة الشيوعية في نهاية سبعينات القرن الماضي. منذ ذلك الحين لم تستقر أفغانستان، الدولة المسلمة المحاطة بدول لا تفوّت فرصة للتدخل في شؤونها الداخلية، تارة عبر إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وطورا عبر محاولة إشعال فتيل حرب أهلية بين الإثنيات المختلفة التي تسكن في هذا البلد. ولا يبدو أن البلاد مرشحة لاستعادة الاستقرار، ولا سيما في أعقاب تصفية الولايات المتحدة أخيرا الملا أختر منصور، القائد الجديد لحركة طالبان، الذي خلف القائد المؤسس الراحل الملا عمر.
بعد رحيل نظام طالبان المتشدد الذي حكم أفغانستان بالحديد والنار لمدة ست سنوات، عانت فيها البلاد جميع الويلات؛ بسبب حضور تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى التي تدفقت إليها من كل حدب وصوب، كان يتوقّع لأفغانستان أن تستقر وتنعم بالأمن والأمان. وتعزّز هذا التوقع مع حضور أكثر من مائة وخمسين ألف عسكري تابع للجيش الأميركي وقوات حلف شمال الأطلسي «ناتو». غير أن النتيجة كانت عكس كل التوقعات؛ فالحرب لم تنته بعد، بل توسعت رقعتها، وباتت تأخذ منحى تصاعديا بعدما قويت شوكة طالبان، ودخلت على الخط جماعات مسلحة أخرى مثل تنظيم داعش، وأعاد تنظيم القاعدة صفوف مقاتليه في جبال وكهوف البلاد الوعرة، التي تعتبر أرضا خصبة لأنشطة الجماعات المتطرفة. هذا النشاط سجّل تصاعدا بعد عام 2012 عندما قررت القوات الدولية خفض قواتها المقاتلة في أفغانستان وتسليم الملف الأمني، بشكل تدريجي، إلى الجيش الأفغاني الحديث الولادة.
اليوم تحولت أفغانستان إلى «ساحة حرب بالوكالة» وأصبحت مكانا لتصفية حسابات دول لها مشاكل سياسية وأمنية بعضها مع بعض. ونجحت غالبية دول الجوار في نقل أزماتها، ولا سيما، أزماتها ومشاكلها الأمنية إلى داخل اِلأراضي الأفغانية.
إيران، الجارة الغربية لأفغانستان، التي لها حدود مترامية معها، استطاعت اللعب بجميع الأوتار من أجل إثبات حضورها السياسي والأمني داخل أفغانستان، سواءً كان ذلك عبر التدخل في شؤونها الداخلية من خلال «جماعات الضغط» التي شكلتها عبر أقلية الهزارة الشيعية (التي لا تتجاوز نسبتها 12 في المائة من سكان البلاد)، أو عبر تقديم الدعم المالي لمئات المؤسسات الاجتماعية والإعلامية الناشئة في كابل وغيرها من المدن.
ومنذ بعض الوقت أخذ الحديث يتردد في وسائل إعلام محلية، وكذلك على ألسنة مسؤولين محليين في غرب أفغانستان وشرقها بأن إيران فتحت قنوات التواصل مع حركة طالبان العدوة التقليدية لها، وذلك بعدما تأكدت من أن تنظيم داعش «في نسخته الأفغانية (ولاية خراسان)»، يسعى إلى تجنيد مئات المقاتلين في صفوفه في مناطق بالشرق والغرب الأفغانيين. أيضا، تتحدث التقارير عن أن ممثلين من حركة طالبان الأفغانية قاموا بزيارات مكوكية إلى طهران، حيث التقوا مسؤولين إيرانيين للحصول على دعمهم في مواجهة خطر «داعش» المتعاظم في أفغانستان. وعلى الرغم من أن الجهات الإيرانية الرسمية نفت زيارة وفود طالبان إليها، فإن علاقات طهران مع الجماعات المسلحة، خصوصا في جوارها، ليس أمرا مستبعدا، ولا سيما أن إيران سعت على الدوام إلى تثبيت موقعها السياسي والأمني عبر مثل هذه الجماعات. وهنا يقول غلام سخي وحدت، وهو صحافي أفغاني يغطي الأخبار والحوادث الأمنية التي تقع في غرب أفغانستان، خصوصا في ولايات مثل هرات وبادغيس وغور القريبة من أو المتاخمة للحدود الإيرانية «إن طهران سعت عبر وكلائها الأفغان على مدى السنوات الماضية لشراء ذمم قادة طالبان المحليين في هذه المناطق. وهي على اتصال مع هؤلاء، كما أن هناك تبادلا للمعلومات بين الطرفين من أجل التصدي لظاهرة (داعش) والتنسيق في الشؤون الأمنية». وتابع، إن هذا يحدث «بينما تزعم طهران أنها تدعم الحكومة الأفغانية الرسمية والشرعية في كابل، وأنها لن تجري حوارات مع جماعات خارجة على الحكومة مثل طالبان وغيرها».
ومن جانبه، يقول حضرت خان تشمن، والخبير الأمني والمحلل السياسي الأفغاني، عن هذا الجانب إن «هدف إيران من فتح باب الاتصال مع طالبان، وفي هذا الوقت بالذات، هو الإجهاز على مساعي الحوار بين الحكومة في كابل وجماعة طالبان بعد وفاة زعيمها المؤسس الملا عمر». ويضيف خان تشمن، إنه «ليس من مصلحة طهران إنهاء الحرب الجارية في أفغانستان، أو إنجاح الحوار من أجل المصالحة، بل إن ما تريده هو إطالة أمد الحرب وجعل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها يتورطون أكثر فأكثر في المستنقع الأفغاني».
علاقات إيران بطالبان ليست غريبة إذن، ثم إن القيادة في طهران تبحث عن مصالحها الخاصة بها و«عدو الأمس» يمكن يتحول فجأة إلى «صديق اليوم»؛ وذلك من أجل التصدي لعدو مشترك هو «داعش أفغانستان». وبالنسبة لهذا التنظيم المتطرف تقول المعلومات بأن التنظيم ما زال يقوم بتجنيد مقاتلين إلى صفوفه، وأنه نجح في تأسيس مراكز قيادية له في ولايتي ننغرهار وكونر شرق البلاد، كما أنه يسعى إلى إيجاد موضع قدم له في مناطق الشمال الأفغاني المتاخم لحدود دول آسيا الوسطى حليفة روسيا الاتحادية. هذا، وتشير الأنباء إلى أن «داعش أفغانستان» يملك اليوم نحو عشرة آلاف مقاتل، غالبيتهم تنتمي إلى مسلحي الجماعات الإسلامية في دول آسيا الوسطى، وأن هذا العدد في تزايد مستمر في أعقاب حدوث شرخ في قيادة طالبان بعد وفاة مؤسسها. ولقد انضمت أعداد كبيرة من طالبان إلى صفوف «داعش»، الذي هو في وضع مالي أفضل من طالبان حاليا. وعلى الرغم من إعلان حكومة كابل الحرب على «داعش» وشن الجيش الأفغاني هجمات قوية وعنيفة ضد مراكز التنظيم المتطرف في ولاية ننغرهار، والكلام عن مقتل العشرات من مقاتلي التنظيم، فإن الظاهرة باتت مقلقة لأفغانستان ولجوارها، مثل إيران وروسيا والصين وحتى باكستان.
هذه الدول تتخوف من تعاظم نفوذ «داعش» في المنطقة والتحول إلى كارثة أمنية على غرار ما يجري في العراق وسوريا. وكل من هذه الدول تحاول مد يد العون إلى طالبان، التي هي الأخرى قلقة من تزايد نفوذ «داعش» على حسابها في كثير من المناطق.
مع هذا، المحللون السياسيون في كابل يرون أن طالبان تشعر بالعزلة وتعاني من قلة مواردها المالية. وهي الآن تبحث عن ممولين جدد، وقد تجد في إيران خير مموّل لأنشطتها العسكرية؛ نظرا للخطر المشترك الذي يجمعهما. لذلك؛ كما سبقت الإشارة، تعمل إيران على توطيد علاقاتها بطالبان من أجل التنسيق معها في الحرب ضد «داعش».
في هذه الأثناء، تتعدد الروايات حول ملابسات اغتيال زعيم طالبان، وخليفة الملا عمر، أختر منصور الذي استهدفته طائرة أميركية من دون طيار يوم 15 مايو (أيار) الماضي في منطقة أحمد وال، التابعة لمدينة كويتا الباكستانية.
الرواية الباكستانية تفيد بأن منصور قام بزيارة إلى إيران، ولقد عاش فيها لفترة تتجاوز شهرا كاملا، ووجدت تأشيرة إيرانية على جواز سفره الباكستاني، غير أن طهران نفت علاقتها بزعيم طالبان المقتول. ولكن في أي حال، كل المؤشرات تشير إلى أن إيران عززت صلاتها بالفعل مع طالبان، وفتحت قنوات التواصل مع مقاتلي الحركة من أجل التنسيق معها. وثمة معلومات عن أن إيران لعبت أيضا دور جسر التواصل بين طالبان وبين روسيا، التي أعربت عن رغبتها في التنسيق مع طالبان ومساعدتها في التصدي لظاهرة «داعش» الذي يهدد بالتمدد قرب حدود روسيا في مناطق الشمال الأفغاني على حساب طالبان. ولعل استهداف أختر منصور في منطقة قريبة من مثلث حدودي بين باكستان وإيران وأفغانستان يوحي بخطورة اللعبة التي تلعبها طهران في علاقاتها المزدوجة مع الحكومة الأفغانية من جهة ومع حركة طالبان من جهة أخرى.
على صعيد آخر، يقول حكمة الله صافي، الخبير الاستراتيجي الأفغاني، إن سياسة إيران تجاه أفغانستان «غامضة يشوبها الكثير من الشبهات وعلامات استفهام؛ فهي من جهة تقول بأنها تقف إلى جانب الحكومة في كابل وتدعم مساعيها للحوار وإنهاء الحرب، وتقدم لها الدعم المالي من أجل النهوض بمؤسساتها الحيوية. ومن جهة ثانية، نرى كيف أنها تتودد للجماعات المسلحة التي تنعتها كابل بالجماعات الإرهابية، مثل طالبان وتفتح لها مكاتب في أراضيها وتقوم بالتنسيق معها». ويتابع صافي «طهران تخرق القانون الدولي ولا تعير أي اهتمام للعلاقات السياسية القائمة عبر القنوات الدبلوماسية بين الدول»، ويستطرد قائلا: إنها «ستحاول في المرحلة المقبلة التقرب إلى طالبان أكثر فأكثر؛ لأنها تدرك جيدا بأن المنطقة مقبلة على حرب جديدة أحد أطرافها (داعش) في أفغانستان وعلى مستوى المنطقة».
أما بالنسبة لروسيا، التي تجاور أفغانستان عبر دول آسيا الوسطى، فهي الطرف الخارجي البارز الآخر الذي يسعى إلى توطيد العلاقات مع طالبان. وفي تطور جديد يكشف مدى محاولات الروس توسيع دائرة تحالفاتهم الإقليمية لمحاربة تنظيم داعش. وكما سبق، تصاعد في أفغانستان خلال الفترة الأخيرة، عندما أخذت مجموعات من طالبان تبايع «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش»، وهو الأمر الذي تسبب في إزعاج كبير عند قيادات الحركة.
هذا، وحسب موقع «دايلي بيست» الأميركي، فإن حركة طالبان تجري حاليا اتصالات مع الدول المجاورة لها من دول «كومنولث الدول المستقلة»، أي دول آسيا الوسطى السوفياتية سابقا، وحتى مع روسيا التي أخرجتها من أفغانستان عام 1989. ويشير الموقع إلى أن هذه الاتصالات لها علاقة بالجهود الروسية لمجابهة انتشار جماعات تتعهد بالولاء للتنظيم المتطرف. ويرجح خبراء أن تكون مخاوف روسيا هي ذات مخاوف طالبان من اتساع نفوذ «داعش»، مع التذكر أن لطالبان تاريخا في التواصل مع أعدائها لتحقيق مصالحها. ومن المفارقات، كما يرى بعض المحللين، أن الاتصالات مع روسيا تظهر في الوقت نفسه الذي رحب فيه نائب الرئيس الأفغاني عبد الرشيد دوستم بحلفائه السابقين في روسيا، وحاول تعزيز علاقاته بدول الاتحاد السوفياتي السابقة على الحدود الأفغانية. وكان الجنرال دوستم، وهو ينتمي إلى إثنية الأوزبك (التي تشكل غالبية سكان جمهورية أوزبكستان السوفياتية السابقة) قد زار موسكو وغروزني (عاصمة جمهورية الشيشان الروسية الذاتية الحكم) قبل بضعة أشهر وشن هجوما شديدا على «داعش»، قال فيه إن «دول الكومنولث» وحتى تاجيكستان وتركمانستان، كلها مستعدة للوقوف معنا ضد «داعش».
وحقا، سعت روسيا في الآونة الأخيرة إلى تعزيز إجراءات الأمن خوفا من تهديدات المتشددين، وخصوصا من منطقة شمال القوقاز المضطربة، بعد عودتهم إلى بلدانهم من الشرق الأوسط أو أفغانستان واحتمال سعيهم للانتقام من التدخل العسكري الروسي ضد الجماعات المعارضة السورية.
واليوم بات واضحا مدى اهتمام قادة دول آسيا الوسطى بخطورة تسلل «داعش» إلى أراضيهم عبر أفغانستان، خاصة أنهم اتفقوا على تشكيل «قوة مشتركة للدفاع عن الحدود» في أوقات الأزمات في ظل الاضطرابات في أفغانستان. ويقول الملا عبد السلام، القيادي السابق في طالبان والعضو في لجنتها العسكرية، إن «الاتجاه العالمي - الأميركي والتهديد الذي يمثله (داعش) باتا نقطة لقاء لمصالح روسيا والحركة الأفغانية، ولا يمكن أن نستبعد مزيدا من التعاون وفقا للسيناريوهات التي ستظهر في الشرق الأوسط». وهذا يعني أنه إذا نجحت روسيا في تدخلها بسوريا للدفاع عن بشار الأسد، فإن طالبان ستتشجع لتكثيف اتصالاتها بها، وربما التعاون علنا مع سلطات الرئيس فلاديمير بوتين. ولكن حتى الآن فإن الاتصالات مع موسكو تجري بسرية شديدة، والمكان الأساسي للمحادثات هو في جمهورية تاجيكستان، عبر الحدود مع ولاية شمال قندوز الأفغانية المحاصرة، التي ربما يكون عملاء الاستخبارات فيها مشاركين في تقديم شحنة أسلحة لطالبان. وكان ضمير كابلووف، مندوب الرئيس الروسي الخاص لشؤون أفغانستان، قد صرح بأن روسيا تجري اتصالات مع طالبان من أجل التنسيق والتشاور للقضاء على «داعش»، وأثار هذا التصريح استغراب الحكومة الأفغانية واستنكار وزارة الدفاع الأفغانية. ثم جاء السفير الروسي في كابل ألكساندر مانتستكي لينفي خبر «التنسيق» مع طالبان، مع أن ثمة معلومات بأن اتصالات الروس مع طالبان ترجع إلى بدايات عام 2013، وذلك عندما التقى مسؤولون في الاستخبارات الروسية، بالتنسيق مع الحكومة التاجيكية، بقادة طالبان على منطقة حدودية مع أفغانستان. فهل تعود روسيا التي خرجت مهزومة من أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي إليها مجددا بحجة مواجهة «داعش».. لكن هذه المرة عبر طالبان؟



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟