«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

قراءة في استراتيجيتي الحزبين المغربي والتونسي

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
TT

«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)

يتساءل كثيرون من المراقبين والمختصين في التنظيمات الإسلامية عن خصوصية حزب «العدالة والتنمية» المغربي، و«حركة النهضة» التونسية، ومساهمتهما الحاسمة في ضمان استقرار بلديهما؛ وسط محيط إقليمي مضطرب، ينتشر فيه الإرهاب والمواجهات المسلحة عوض الاحتكام لصناديق الاقتراع ومنهج التداول السلمي للسلطة. غير أن المراجع لأدبيات وسلوك التنظيمين المغاربيين سرعان ما يفهم طبيعة سلوكهما السياسي الحالي، الذي جاء بعد ثورة بتونس جعلت من النهضة تنظيما شرعيا، وفي الوقت نفسه قائدة لحكومة ائتلافية، وطرفا مركزيا في الحكومة الحالية. أما في المغرب، حيث النظام السياسي ملكي تنفيذي، فقد أدى حراك 20 فبراير (شباط) 2011 إلى وصول «العدالة والتنمية» إلى قيادة الحكومة المغربية، بالتحالف مع ثلاثة أحزاب.
تعود أصول حزب «العدالة والتنمية» المغربي للحركة الوطنية المغربية؛ إذ أسس سنة 1967 باسم حزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية». ويعد الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس الحزب، من أبرز قياديي المقاومة وجيش التحرير المغربي، وكانت له صلات وثيقة بالعائلة الملكية؛ وكان وراء اقتراح تنصيص الدستور المغربي على كون «الملك أميرا للمؤمنين». ولقد تمتع الرجل بعلاقة واسعة مع قادة التحرير في أفريقيا والعالم العربي. وعرف عن الخطيب توجهه الإسلامي المعتدل، ودفاعه عن المرجعية الإسلامية. ولقد اختارت حركة «التوحيد والإصلاح» الالتحاق بحزبه سنة 1996. وسرعان ما غير أعضاؤها اسم الحزب في 1999 إلى «العدالة والتنمية»، وفي عام 2004 أصبح الدكتور سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة. وبعده انتخب عبد الإله بنكيران أمينا عاما جديدا، وهو يجمع حاليا بين رئاسة الحزب ذي المرجعية الإسلامية، وكونه رئيسا للحكومة بالمغرب.
وعلى عكس الاستقلالية التامة لحزب «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح». أسست حركة «الاتجاه الإسلامي» في تونس عام 1969، على منهج الإخوان المسلمين؛ إلا أن علاقتها بالتنظيم العالمي لـ«الإخوان» ظلت متوترة تاريخيا، خاصة أن كلا من عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي كانا يطرحان أفكارا ورؤى مختلفة عن المنظومة الفكرية لتنظيم حسن البنا. وكانت هذه الخصوصية الفكرية وراء طرد حركة «النهضة» من التنظيم العالمي (هذا ما صرح لنا به عبد الفتاح مورو في زيارته الأخيرة للمغرب عام 2014 في لقاء خاص به)، وذلك بداية تسعينات القرن العشرين (1991). ورغم أن بعض قيادات «النهضة» حضرت بعض الأنشطة التي كان وراءها التنظيم العالمي، فإن ذلك لا يعني أن «النهضة» جزء منه.
ولقد سعت حركة «النهضة» منذ عام 1987 للتحول لحزب سياسي شرعي يعمل في ظل الدستور والقانون القائم بتونس، وتقدمت مرتين لتأسيس حزب في هذا الإطار، غير أن وزارة الداخلية رفضت الطلبين معا. ولم يتم الاعتراف بالحركة بصفتها حزبا سياسيا إلا بعد الثورة حين رخصت له حكومة محمد الغنوشي الثانية يوم 1 مارس (آذار) 2011؛ وشارك في الانتخابات ليحتل المرتبة الأولى ويشكل حكومة مع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، وهو من يسار الوسط و«التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، كما أنه يشارك اليوم مع حزب «نداء تونس»، الذي يعتبر من «الحرس القديم».
على خلاف «النهضة» التي تعرضت لتضييق ومواجهة شاملة قبل الثورة، استفاد حزب «العدالة والتنمية» جزئيا من بداية الانفتاح السياسي في المغرب منذ عام 1992. ففي ذلك العام طرح الملك بالمغرب دستورا ممنوحا، لكنه منح الوزير الأول بعض السلطات، وكذلك في العام نفسه صوتت حركة «الإصلاح والتجديد» (التي ستشكل عام 1996 رفقة «رابطة المستقبل الإسلامي» حركة «التوحيد والإصلاح») على هذا الدستور بنعم؛ مما اعتبر رسالة سياسية للملكية، مفادها استعداد الإسلاميين الإصلاحيين للعمل في ظل الدستور غير الديمقراطي، خاصة أن إسلاميي «العدالة والتنمية» لم يشككوا ولم ينازعوا الملكية شرعيتها. كما أن هذه الأخيرة لم تواجه الإسلاميين تاريخيا بشكل قمعي مبالغ فيه، كما هو الحال بتونس التي تبنت زمن الرئيس بن علي الذي اعتمد سياسة استئصالية للتيار الإسلامي عموما، وحركة «النهضة» خاصة.
تزامن هذا الانفتاح السياسي في المغرب مع سياسة دينية جديدة؛ إذ عمدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تنظيم مظاهرة دينية فكرية عالمية سميت «مؤتمر الصحوة الإسلامية»، وشارك فيها زعماء إسلاميون بارزون، منهم راشد الغنوشي. وساهم هذا الانفتاح للنظام السياسي المغربي على حركة «النهضة» في تمتين العلاقات بين الإسلاميين المغاربة والتونسيين، خاصة أن قيادات القطاع الطلابي لـ«النهضة» هربت من بلادهم بداية التسعينات للمغرب، ولقيت دعما من إسلامييه بزعامة بنكيران. ومن القيادات البارزة لـ«النهضة» التي استقرت في المغرب المفكران «النهضويان» التونسيان عبد المجيد النجار وحسن بن حسن المتخصص في الفلسفة الغربية الحديثة.
وظلت العلاقات بين التنظيمين المغاربيين كبيرة، وعقدت بينهما لقاءات كثيرة ومتعددة، في الوقت الذي كان حزب «العدالة والتنمية» المغربي في المعارضة، و«النهضة» التونسية في المنفى. كذلك استمر التواصل المكثف بعد ثورة 2011، حين أصبحت الزيارات التي تقوم بها قيادات التنظيمين متعددة في السنة الواحدة. ومن أبرز ما أسفر عنه هذا التواصل في السنوات الأربع الماضية، توجه «النهضة» الجديد للفصل بين المجال الدعوي والسياسي؛ فقد ركزت اللقاءات بين التنظيمين على هذه المسألة منذ 2012، واستقبلت حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية قيادات عدة لـ«النهضة» بقصد الاطلاع على التجربة المغربية للتمييز بين المجالين الدعوي والسياسي. فإسلاميو المغرب بدأوا هذا المسلسل منذ 1998، فيما سمي بسياسة «التمييز بين الدعوي والسياسي» التي أدرجتها حركة «التوحيد والإصلاح» في مخططها الاستراتيجي للتخصصات. ويقول مرجع سابق في الحركة، إن هذا التوجه «ترجمة عملية لرغبة الحركة في الانتقال من تنظيم جامع بديل متعدد الوظائف، إلى حركة رسالية فاعلة ومنفتحة عليه وعلى طاقاته»، وهكذا تفرع عن التنظيم فصل العمل السياسي والنقابي، والجمعوي عن الحركة الأم.
وفي هذا الإطار استدعت حركة «النهضة» عام 2015 رئيس حركة «التوحيد والإصلاح» عبد الرحيم الشيخي والأستاذ محمد يتيم، وهو من أبرز منظري «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح»، لتقديم ورقة حول الفصل بين الدعوي والسياسي أمام أعضاء مجلس شورى حركة «النهضة» في تونس العاصمة. وعلى ما يبدو فإن التلاقي الفكري بين التنظيمين لم يقرب بينهما فقط، بل جعل موقفيهما تجاه التيارات المتطرفة العنيفة متطابقا؛ فقد رفض التنظيمان استعمال العنف والتكفير الديني، ودخلا في مواجهة معه دعوية وسياسية في مرحلة المعارضة، وفي زمن المشاركة في السلطة. كذلك اتخذ التنظيمان في مناسبات متواترة مواقف وسلوكيات جريئة ضد الفكر الإرهابي، والتنظيمات العلمانية المتطرفة. الشيء الذي جر على كل من «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» سخط التطرف الديني واللاديني؛ إذ يعتبر الأول تبنيهما للمرجعية الإسلامية والتدين المعتدل والقبول بالديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية كفرا بالشريعة. وفي المقابل، يعتبر الخصوم العَلمانيون التنظيمين وجها آخر لـ«داعش» و«القاعدة»، وأن قبولهما بالديمقراطية مجرد نفاق سياسي مرحلي.
وفي الوقت الذي يؤكد «العدالة والتنمية»، وكذلك حركة «النهضة» أنهما حزبان بمرجعية إسلامية، وأنهما تنظيمان إصلاحيان ديمقراطيان يؤمنان بالتداول والمواطنة والتشاركية في السلطة، من دون إقصاء أي تيار سياسي، جاء سلوكهما السياسي أقرب لأدبياتهما منه لمزاعم خصومهما الإيديولوجيين. فقد شكل حزب «العدالة والتنمية» الحكومة المغربية عام 2011 بالتحالف مع الحزب الشيوعي المغربي سابقا، أي حزب «التقدم والاشتراكية»، ومنحه مناصب وزارية تفوق حجمه داخل البرلمان؛ كما تحالف مع حزب الاستقلال في الحكومة الأولى، وعوّضه في التعديل الحكومي لعام 2012 بحزب التجمع الوطني للأحرار (يمين ليبرالي)، كما بقي متحالفا مع حزب الحركة الشعبية ذي الميول الأمازيغية.
أما حزب حركة «النهضة» فقد أعلن قبل الانتخابات الأولى والثانية 2014، أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية وأنه سيشكل حكومة مع الأحزاب التي تريد التحالف معه كيفما كان اتجاهها الإيديولوجي. وعلى عكس بعض التوقعات لم يظهر الحزبان أي نزوع للهيمنة، ولم ينجرّ «العدالة والتنمية» وحركة النهضة للمعارك الدينية الهوياتية، كما أنهما اعتبرا التدين مسألة حرية شخصية لا يحق للدولة منعها أو فرضها على المواطنين؛ وهو ما أظهر الحزبين بمظهر ليبرالي إسلامي، خصوصا، بعد التحول السريع لخطاب الحزبين وتركيزه على المسائل الاقتصادية التنموية ومعالجة المعضلات الاجتماعية مثل البطالة في صفوف الشباب.
من جانب آخر، تفادى الحزبان الإسلاميان المغربي والتونسي أي صدام مع مؤسسات ما يطلق عليه «الدولة العميقة»؛ ضمانا للسير العادي لمؤسسات الدولة. فـ«العدالة والتنمية» لم ينافس المؤسسات السياسية مثل الملكية، والأجهزة الأمنية والعسكرية في المغرب. وهو الاختيار نفسه الذي نهجته «النهضة» التونسية، حيث قررت عدم الترشح لرئاسة الجمهورية، بل ساندت منصف المرزوقي في أول انتخابات بعد الثورة، ومن ثم اختارت عدم دعم أي من المرشحين لقيادة البلاد في الانتخابات التي أفرزت فوز الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. ومن جهة ثانية، ساندت «النهضة» بحزم الأجهزة الأمنية والجيش ضد التنظيمات الإرهابية، بل وكانت ضد قانون العزل السياسي الموجه ضد رموز نظام زين العابدين بن علي. ثم إن «النهضة» اليوم لا تعارض رجوع أي مواطن تونسي لبلده، بما فيه الرئيس السابق، وتدعو لتمكينه وأسرته من جواز السفر التونسي.
إن المتتبع للممارسة السياسية لكل من «العدالة والتنمية» المغربي وحركة «النهضة» التونسية سيلاحظ الذهنية المشتركة للفصيلين الإسلاميين، خاصة فيما يخص التعامل مع بنية الدولة العربية غير الديمقراطية، وكذلك في منهجية التعامل مع المحيط الدولي. ففي مناسبات متعددة كرّر الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قوله: إنني «لم آت لأتصارع مع الملك، وإذا أراد المغاربة رئيس حكومة يتصارع على السلطة مع الملك فليبحثوا عن شخص غيري. أنا أتيت لأتعاون معه على خدمة البلد»؛ وهذه العبارات تلخص معنى شعار حزبه «الإصلاح في ظل الاستقرار»؛ وكون الملك فيه هو الحاكم الفعلي للدولة، وفقا لدستور 2011.
ورغم أن «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» لم يحققا الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المغرب وتونس، فإنهما تمسكا فعلا بمنهج الشراكة الوطنية، ونبذا احتكار السلطة، ومدا اليد لمختلف التيارات السياسية الشرعية، وتحاشيا الاصطدام مع المؤسسات الممسكة بالدولة تاريخيا، وبرز وقوفهما الحازم ضد الفكر والتنظيمات الإرهابية. كل ذلك ساهم بشكل حاسم في الحفاظ على استقرار بلدي الحزبين، كما أدى ذلك إلى توسيع هامش الحريات العامة وتعزيز حقوق الإنسان، في دولتين تبحثان عن بناء دولة ديمقراطية حديثة، وترفضان الانزلاق نحو الحروب الأهلية الدموية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس - الرباط



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.