سعدي داود... ثيمات عراقية بتقنيات واقعية تعبيرية

29 لوحة مختلفة الأحجام في معرض بلندن

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان
TT

سعدي داود... ثيمات عراقية بتقنيات واقعية تعبيرية

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان

نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن معرضًا شخصيًا للفنان التشكيلي العراقي سعدي داود، وقد ضمّ المعرض 29 لوحة مختلفة الأحجام، ومنفذّة بالزيت على الكانفاس وبعض السطوح الخشبية. وقد خلت اللوحات جميعها من التسميات، مثلما ظل المعرض نفسه مُجردًا من العنوان. وحينما تستفسر من الفنان عن السبب يجيبك بأنه كان يفكر بتسمية هذا المعرض بـ«عكَد الهوى»، وهو أحد الأحياء المعروفة بمدينة الناصرية، ولكنه كان يخشى من سوء التأويل، لذلك آثر تجريد المعرض ولوحاته من العنونة والتسميات.
يُعيدنا سعدي داود، في كل معرض شخصي أو جماعي، إلى سؤال قديم جديد مفاده: هل يمتلك الفن التشكيلي في العراق هُوية عراقية أم أنه ينتمي إلى الغرب جملة وتفصيلا؟ ومع أن شريحة واسعة من النقّاد والفنانين التشكيليين العراقيين أنفسهم يقرّون بأن مرجعية الفن التشكيلي في العراق غربية، وحجتهم في ذلك أن غالبية الفنانين التشكيليين العراقيين يتبِّعون التيارات والمدارس والتقنيات الأوروبية والعالمية، وليس هناك ما يعزّز الخصوصية العراقية لهذا الفن القادم من وراء البحار.
وعلى الرغم من هيمنة المذاهب والاتجاهات الأوروبية على حيّزٍ كبير من المنجز التشكيلي العراقي، فإن هناك الكثير من الفنانين الذين يصرّون على طبع منجزهم التشكيلي بطابع عراقي خالص على صعيد الثيمات في الأقل أمثال فيصل لعيبي، سعدي داود، شاكر الآلوسي، مصطفى كريم علوان، وسواهم من التشكيليين العراقيين الذين يسعون لخلق هوية عراقية لهذا الفن البَصَري، الذي يبدو عصيًا على الترويض، وميالاً للتلاقح مع المدارس الفنية العالمية.
يبدو أن موهبة الرسم لدى سعدي فطرية، وقد ساعد في تحفيزها ونمّوها أول الأمر شقيقه الأكبر الرسّام هادي داود، لكن دور أساتذته في معهد الفنون الجميلة ببغداد كان حاسمًا وَوَضَعَهُ في المسار الحِرفي الصحيح الذي يؤهله لأن يُنجز عمله الفني بتقنيات مُرهَفة، تغري المتلقي وتجذبه إلى ثيماتها البسيطة المتواضعة، التي تراهن على البناء المعماري للعمل الفني، وتعوّل كثيرًا على عنصر الإدهاش الكامن في قوّة الألوان وتناسقها من جهة، وفي تضادها وتضاربها من جهة أخرى.
أقام سعدي داود الكثير من المعارض الشخصية وهو يتنقل بين بغداد وعمّان وباريس وأمستردام، قبل أن يستقر بلندن نهائيًا. وكانت كل هذه المعارض تنصب في إطار مشروعه الخاص الذي يتعلق بالموروث الشعبي في جنوب العراق، وربما أخذت الأهوار حصة الأسد من اهتمامه التشكيلي، حيث تعيّن في تلك المضارب وعايشها من كثب لسنوات طوالا. فهو يرسم عن خبرة، وتجربة، ومشاهدة يومية لطبيعة الحياة الأسرة والمفعمة بالهدوء والسكينة.
لقد أضاف سعدي داود معطيات جديدة إلى ذاكرته وعقله الباطن على حدٍ سواء، فأصبحت صور الأهوار ومشاهدها امتدادًا طبيعيًا لذاكرة الطفولة ومخزون الصبا والشباب، ولا يجد حرجًا الآن في أن يستدعي هذه الصور ليشتغل عليها من جديد في عمله الفني الذي يتسيّد فيه الشكل على المضمون.
تعتمد البنية المعمارية للوحة على خطوطها، وألوانها، وشبكة علاقاتها الداخلية التي تُقدِّم في خاتمة المطاف وحداتٍ بصريةً متوازنة تعكس ثيمة العمل مهما كانت بسيطة ومتواضعة، فهي ليست موضعًا للرهان، وإنما هي عنصر مؤازر للخط واللون والبناء المعماري الفني. وبما أن سعدي داود ينتمي إلى تيار الواقعية التعبيرية التي تجمع بين تصوير الموضوعات كما هي عليه على أرض الواقع، والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه في ذروة توتره في أثناء عملية الخلق الفني، فلا بد من الانتباه إلى ذات الفنان المنفعلة التي تحاول أن تغيّر في بعض النسب والمقاسات التي اعتدنا عليها في الأشكال البشرية والحيوانية، ولعلنا نشير هنا إلى العيون السومرية الواسعة لمعظم شخصياته إن لم نقل كلها، فقد بدت أكبر من النِسب الطبيعية للعيون البشرية المتعارف عليها. كما ينبغي التركيز على الرموز التي خلقها الفنان اعتمادًا على ثقافته الخاصة، ورؤيته الفنية، ويستطيع المتلقي العادي أن يحدِّد على وجه السرعة بضعة رموز، فالرأس يمثل الإنسان، وطائر السنونو يرمز إلى الضمير، والهلال يحيل إلى الغجري عازف الربابة، أما القط والديك فكلاهما يمثل العنصر الذكوري الذي يحضر بقوة في غياب الرجل الذي تتلقفه الجبهات والحروب، أو تغيّبه السجون والمعتقلات. وقد تكون اللوحة المخطوط على جانبها الأعلى الأيمن عبارة «نوم العوافي» هي خير مثال لما نذهب إليه في غياب الرجل لأي سبب من الأسباب، وحضور الديك بوصفه عنصرًا ذكوريًا قد لا يعوِّض عن الغياب، ولكنه يخفف من وطأته في الأقل.
يستحضر رجل الجنوب عبر خياله السمعي صورًا كثيرة للمرأة العراقية التي تُطل في ذاكرته بقوامها المغري، وأناقتها المفرطة، سواء أكان جالسًا في المقهى، أم متوحدًا في بيته القصبي، أم مُسترجِعًا للذكريات التي تلاشت في الماضي البعيد. ثمة لوحات تفوح منها رائحة الحنّاء والطين والقصب والبردي، وثمة لوحات أخرى تكاد تشمّ منها رائحة الدخان المتصاعد من تنّور مثبّت على «جباشة» عائمة في قلب الهور.
لا يبتعد سعدي داود من عالم الأهوار كثيرًا، وإذا انتقل مصادفة إلى الناصرية أو البلدات الصغيرة التابعة لها فإنه لا يغادر الموروث الشعبي الذي تشرّب في ذاكرته واستقرّ في مخيلته البصرية، فلا عجب في أن يرسم البساط، والسجّادة، والكرسي، والأريكة، وخزانة الملابس، وكوز الماء، وما إلى ذلك من «فيكَرات» مألوفة ترتبط بالماضي الذي ينأى يومًا بعد يوم لكنه يبقى الفضاء الأمثل لسعدي داود وفردوسه الضائع الذي يعود إليه كلما شدّه الحنين وأوجعته المنافي البعيدة.
نخلص إلى القول بأن الأعمال الفنية لسعدي داود هي عراقية صرف من حيث الثيمة والزمان والمكان والحدث والشخصيات، لكن التقنيات المستعملة في تنفيذها هي أوروبية بامتياز، الأمر الذي يبقيها في إطارها العراقي الخالص من حيث الرؤية الفنية، والموضوع وإن اشتطّت المقاربة الأسلوبية لتلوذ بالواقعية التعبيرية التي يُحبِّذها الفنان سعدي داود، ويستطيع بواسطتها أن يُنجز مشروعه الفني الأصيل الذي ينتمي إلى الجنوب العراقي تحديدًا، ويحيل إليه مُستغنيًا عن كل الفضاءات الفنية الأخرى التي تكتظ بها أرجاء المعمورة.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.