شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.. حوار وجوار

من الفاتيكان إلى «الباتاكلان» في مواجهة أصولية وعنصرية

البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
TT

شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.. حوار وجوار

البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)

جاءت تحرّكات شيخ الأزهر الشريف، فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب خلال الأيام القليلة الماضية، لتبعث برسالة إلى العالم برمته، وإلى أوروبا خاصة، رسالة تعظّم من شأن الحوار والجوار، الاتفاق والتعايش، التسامح والمودة، في مقابل دعوات العنف وصيحات الرفض والإقصاء، ورايات الأصوليات المتعصبة، ونيران مدافع الإرهاب.

زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب للفاتيكان ولاحقًا زيارته لفرنسا خلال شهر مايو (أيار) الحالي، تؤكدان أن الأزهر الشريف يأخذ على عاتقه دورًا من أدواره التاريخية من جديد. دورًا يتصل بسماحة الدين الإسلامي مع الآخر، ويشير إلى مدى تقبل المسلمين أصحاب الثقافات الأخرى والديانات المغايرة، حتى وإن كان الواقع المعاصر مليئًا بمشاهد الألم والنار والدمار.
وهنا يعنّ لنا أن نغوص في أعماق التاريخ لنتساءل سويًا.. متى عرف الحوار طريقه بين الشرق والغرب على صعيد أتباع الأديان السماوية، الإسلام والمسيحية بنوع خاص؟ وهل هو حوار جديد تاريخيًا - كما يخيل للبعض أو حسب ما ترصد الذاكرة المعاصرة - أم أن هناك في أضابير التاريخ وقصص الجوار العربي المسيحي الإسلامي ما هو مثير وجميل ورفيع القدر في الوقت ذاته؟
يخيّل إلى البعض أن تاريخ الحوار الإسلامي المسيحي المعاصر يعود إلى الحدث الكبير الذي غيّر مجريات العالم الكاثوليكي في ستينات القرن العشرين، أي المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي انعقد في حاضرة الفاتيكان خلال الفترة من عام 1962 إلى 1965، غير أن الأمر في واقع الحال أبعد من ذلك بكثير..
والشاهد أنه في عام 1219 م، في ظل احتدام ما عُرف عند العرب بـ«حروب الفرنجة»، وفي الغرب باسم «الحروب الصليبية»، خرج من بين صفوف الأوروبيين الكاثوليك، ومن أعمال مدينة أسيزي الإيطالية تحديدًا، راهب سيغدو لاحقًا رمزًا للحوار والسلام، ومعلمًا لرفض الأصوليات اليمينية الأوروبية التي ستظهر تاريخيًا في القارة الجارة الأكبر والأقرب للعرب والمسلمين.
ظهر فرنسيس الأسيزي، مؤسس الجماعة الكاثوليكية المعروفة بـ«الأخوة الأصاغر».. أو «الفرنسيسكان».
كانت صيحة ملوك أوروبا أن المسلمين هم الذين يقطعون الطريق على الحجاج المسيحيين للوصول إلى «الأراضي المقدسة» والمعالم المسيحية في فلسطين، لا سيما القدس. وبدا ذلك أنه المبرّر والوازع لشن حروب أصولية متطرفة، رأينا مثلها، وإن بأثواب وأردية خفية، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لقد رفض فرنسيس الأسيزي تلك الدعاوى المنحولة، ومضى إلى معسكرات الصليبيين في دمياط، صائحًا أن خطايا وآثام الأوروبيين هي التي تسد الطريق إلى المقدسات وليس المسلمين. ومن ثم رحل عن مخيماتهم غاضبًا، متنبئًا لهم بالروح بالهزيمة النكراء، وهو ما حدث لاحقًا. ومضى على الأثر ليقابل سلطان المسلمين الملك الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، ويحل ضيفًا مكرّمًا عليه وليعزز ويكرم وفادته، وتجرى بينهما حوارات عميقة، ويرحل فرنسيس محملا بالهدايا، ويأخذ إذن السلطان لأن تنتشر جماعته التي تبحث عن السلام في فلسطين، ولاحقًا تعود إلى مصر.
اعتبر نصر فرنسيس الأسيزي بحسب المؤرخين المسلمين قبل الغربيين أفضل من كسب أربعين موقعة حربية، وعُرف بـ«صليبية المحبة»، لا «صليبية جيوش» ريكاردوس قلب الأسد، التي لم تخلُ من منطلقات دنيوية أخرى.
عرفت مصر إذا هذا النوع الراقي من الحوار الإسلامي - المسيحي باكرًا جدًا، ومع انطلاقة المجمع المشار إليه سالفًا، عمل العلامة المصري الأب الدكتور جورج قنواتي، الراهب الكاثوليكي الدومنيكاني الأشهر، على تعزيز العلاقة بين الكاثوليكية والإسلام.
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد في العام 1986، بدأ البابا يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان، تلك المسيرة الحوارية الجديدة عبر لقاء الأسيزي، الذي جمع كل الأديان في مدينة فرنسيس الأسيزي التاريخية، ولاحقًا بدأت مسلسلة من الحوارات بين الأزهر والفاتيكان.
هل تغير المشهد الآن بعد زيارة الشيخ الطيب؟ بداية يلزم الإشارة إلى أن سنوات حبرية البابا السابق بنيديكتوس السادس عشر، كانت قليلة الحظ مع العالم الإسلامي خاصة، ولذا تعرّض الحوار لكبوات أدت إلى تعليقه لمدة خمس سنوات. غير أن شخص البابا فرنسيس، البابا الحالي، وإدارته للبابوية استطاعا أن يعدلا ويبدلا من رؤية العالم الإسلامي، وأن يفتحا أبواب الفاتيكان واسعة مرحبة بشيخ الأزهر وصحبه من علماء المسلمين الأزهريين.
والواقع أن البابا فرنسيس، الأرجنتيني المولد، ارتقى السدة البطرسية خلفًا لبنيديكتوس السادس عشر الذي اعتبره كثيرون في أوروبا «بابًا محافظًا أقرب ما يكون للأصولي». وهكذا أيضًا نظرت أصوات فلسفية أوروبية إلى ذلك البابا الألماني المولد الذي كان، عندما يعرف باسم الكاردينال جوزيف راتزينغر، يتولى منصب رئيس مجمع العقيدة والإيمان لمدة ربع قرن في الفاتيكان. غير أن فرنسيس بدا من لحظاته الأولى، رجل تسامح ومصالحة، يعشق البساطة ويحب الناس، يحرص على بناء الجسور ويرفض الجدران العالية.
وغداة انتخاب البابا فرنسيس كان شهر رمضان الفضيل يحل على العالم الإسلامي، وكانت رسالته إلى المسلمين تجد صدى طيبًا، إذ هنأ مسلمي العالم كله بالعيد وبيّن ما للصوم من كرامة في كل الأزمان ولدى كل الأديان. وعندما اشتعلت أزمة رسوم مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية، استنكر فرنسيس أن يتعرض أصحاب الأديان لامتهان الكرامة على ذلك النحو. وفي اليونان مضى إلى جزر المهاجرين المسلمين ليصطحب منهم أفرادًا إلى الحاضرة الكاثوليكية، ومن قبل كان قد أوعز إلى مختلف الأبرشيات والكنائس والرهبانية الكاثوليكية في عموم أوروبا بفتح أبوابها واستضافة أسر اللاجئين. وفي حواره الأخير مع مجلة «لا كروا» الفرنسية الكاثوليكية الشهيرة، أشار إلى إمكانية التعايش الإسلامي - المسيحي في أوروبا وفي غيرها من بقاع وأصقاع العالم.
يمكن القول دون تزيد إن فرنسيس الأول، رغم سنوات حبريته التي لم تتجاوز بعد السنوات الثلاث، استطاع أن يشكل علامة أوروبية ذات وزن في طريق رفض الأصولية الدينية وسياقات الغطرسة التي تواكبها. ولقد وجدت شخصيته قبولاً شعبويًا ونخبويًا أوروبيًا تمثل أخيرًا في تكريمه بالجائزة الشهيرة للملك «شارلمان» رغم ما تعانيه القارة العجوز من حزازات الإسلاموفوبيا البغيضة، وإشكاليات المهاجرين وأزمات اندماجه. وبدا الرجل ولا يزال صوتًا صارخًا في «البرّية الأوروبية الأصولية»، إن جاز التعبير في هذا الإطار، ولم يكن غريبًا أو مثيرًا أن يتحدث الإمام الأكبر الطيب عنه بوصفه «رجل سلام»، رجلاً يتبع تعليم المسيحية التي هي ديانة المحبة والسلام، ويحترم الديانات الأخرى ويقدر مؤمنيها.
ومن ناحية ثانية، يأتي الشيخ الطيب ووراءه رصيد للأزهر الشريف قبلة الإسلام السنّي وتاريخ طويل من الإشعاع في العالمين العربي والإسلامي، للتأكيد على نقاط الالتقاء وتعظيمها، وهي نقاط كثيرة وتحتاج إلى الاجتماع عليها. وفي المقدمة منها نشر ثقافة السلام ورفض الاتهامات غير المبررة للإسلام، وهو بذلك يفتح صفحة جديدة مع أوروبا والغرب، وبذلك أيضًا يضع سدودًا وحدودًا أمام تيارات العنف التي تختبئ وراء رايات الإسلام السياسي.
الشيخ الطيب وفرنسيس الأول، يشكلان معًا، دون أدنى شك، جبهة مقاومة عنيفة للذين عملوا طويلاً - لا سيما من رجالات السياسية حول العالم - على عسكرة الكون، وهدر دماء الآمنين، بتلاعبهم بمقدرات الأديان والإنسان. ومع أن اللقاء لم يطل لأكثر من ثلاثين دقيقة يرجح أن تكون له استحقاقات طيبة وإيجابية في الآتي من الأيام، لا سيما وأن هناك حديثًا عن «مؤتمر للسلام العالمي» تحت رعاية هاتين المرجعيتين الدينيتين، وبما لهما من تأثير إيجابي على نحو ثلاثة مليارات من البشر حول البسيطة.
بعد الفاتيكان، توجه الشيخ الطيب إلى باريس «مدينة النور»، عاصمة فرنسا دولة «التنوير»، التي تريد الأصوليات الظلامية على أنواعها إطفاء أنوارها، وإلصاق التهمة بالإسلام والمسلمين. ومن على «منبر الملتقى الثاني للحوار بين حكماء الشرق والغرب» بالعاصمة الفرنسية كان الطيب يؤكد على أهمية الحوار، وتحقيق الاندماج، وبناء جسور الثقة وتحقيق قيم التعايش بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.
وهنا شيء ما يربط ذهنية الشيخ الطيب بالبابا فرنسيس، ويتمثل في النظر إلى فرنسا بمنظور خاص، فالطيب الذي عاش بين أهليها باحثًا ودارسًا لسنوات طوال يدرك أن فرنسا هي قلب أوروبا المفكر النابض، وعقلها التنويري المنفتح. وفرنسيس في حواره مع «لاكروا» يوجّه لفرنسا عتابًا من نوع خاص، إذ يصفها بأنها الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية، لكنه يصفها بأنها ابنة غير أمينة، ومردّ ذلك تلك الحالة من العلمانية الجافة والمسطّحة، ومن الأنوار التي تعمي التي سادتها، ومعها تضمحل رويدًا رويدًا روح الكاثوليكية التي اتسمت بها في فرنسا لقرون طوال.
تعني الرؤية المتفقة للبابا وشيخ الأزهر شيئًا واحدًا، هو حتمية سيادة روح الإيمان الخلاق القابل للآخر، والرافض للتهويمات الأصولية، وللعلمانية الطاردة لروح الدين. وهذا هدف يجمع القامتين الكبيرتين، مما يعني أن اللقاء بالفعل يرسي قواعد جديدة يمكن البناء عليها في أجواء من الثقة المتبادلة والمتزايدة، ويقطع الطريق على دعاة حروب الأصوليات والتطرف والإلغاء.
ولقد أحسن شيخ الأزهر سواءً في تصريحاته في الفاتيكان أو في كلماته وتحركاته في فرنسا. ففي تصريح لإذاعة الفاتيكان - القسم العربي أكد من تلك الحاضرة التي وصفها البعض بأنها «قلب التاريخ النابض»، أن رسالة الأديان هي إسعاد الإنسان أينما كان وأنه «سعيد بزيارة الفاتيكان والجلوس مع البابا في جلسة نقاش واتفاق». وأظهر الأمام الأكبر صورة الإسلام السمح، الذي يعلم تمام العلم جوهر الإسلام الحقيقي، الداعي للتعارف بين الأمم، لا إسلام «داعش» الذي رأينا صورًا منه لا علاقة لها بالإسلام.
وفي باريس حرص الشيخ الطيب في لفتة رائعة على زيارة مسرح «الباتاكلان»، حيث وضع باقة من الزهور تكريمًا لضحايا الاعتداءات التي ضربت باريس يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبينهم كثر سقطوا داخل ذلك المسرح. كما قرأ الفاتحة على أرواح الضحايا، الأمر الذي جعل العالم يتذكر ما قاله الشيخ الطيب غداة تلك الاعتداءات التي وصفها بـ«الشائنة»، ولم يتوقف عند إدانتها فحسب، بل دعا «العالم أجمع إلى التوحّد في مواجهة هذا الوحش المسعور».
وحقًا، كانت أجمل صورة نقلها الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين في الأعوام الأخيرة، هي تلك التي التقطت لشيخ الأزهر وهو يضع الزهور أمام «الباتاكلان». ولعل الأجمل والأكثر تأثيرًا من ملايين الدولارات التي يمكن أن تنفق لتبيان عدم ارتباط الإسلام بالإرهاب، كانت الكلمات التي تفوه بها قائلاً: «أتيت لأعلن أمامكم وباسم الإسلام، أن دم البشر يجب أن يحفظ من الإبادات والتضحيات، فالعلاقة التي أسسها الله بين البشر مبنية على السلام والأخوة والتعاون، فيما ليس للإرهاب بلد أو دين. مع جميع المسلمين تألمت لرؤية إراقة الدماء هنا وفي كل مكان آخر بسبب الشر. لذا علينا جميعًا في الشرق والغرب أن نتضامن لمواجهته».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟