شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.. حوار وجوار

من الفاتيكان إلى «الباتاكلان» في مواجهة أصولية وعنصرية

البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
TT

شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان.. حوار وجوار

البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)
البابا فرنسيس مرحباً بشيخ الأزهر أحمد الطيب خلال زيارته للفاتيكان في الثالث والعشرين من هذا الشهر (أ.ف.ب)

جاءت تحرّكات شيخ الأزهر الشريف، فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب خلال الأيام القليلة الماضية، لتبعث برسالة إلى العالم برمته، وإلى أوروبا خاصة، رسالة تعظّم من شأن الحوار والجوار، الاتفاق والتعايش، التسامح والمودة، في مقابل دعوات العنف وصيحات الرفض والإقصاء، ورايات الأصوليات المتعصبة، ونيران مدافع الإرهاب.

زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب للفاتيكان ولاحقًا زيارته لفرنسا خلال شهر مايو (أيار) الحالي، تؤكدان أن الأزهر الشريف يأخذ على عاتقه دورًا من أدواره التاريخية من جديد. دورًا يتصل بسماحة الدين الإسلامي مع الآخر، ويشير إلى مدى تقبل المسلمين أصحاب الثقافات الأخرى والديانات المغايرة، حتى وإن كان الواقع المعاصر مليئًا بمشاهد الألم والنار والدمار.
وهنا يعنّ لنا أن نغوص في أعماق التاريخ لنتساءل سويًا.. متى عرف الحوار طريقه بين الشرق والغرب على صعيد أتباع الأديان السماوية، الإسلام والمسيحية بنوع خاص؟ وهل هو حوار جديد تاريخيًا - كما يخيل للبعض أو حسب ما ترصد الذاكرة المعاصرة - أم أن هناك في أضابير التاريخ وقصص الجوار العربي المسيحي الإسلامي ما هو مثير وجميل ورفيع القدر في الوقت ذاته؟
يخيّل إلى البعض أن تاريخ الحوار الإسلامي المسيحي المعاصر يعود إلى الحدث الكبير الذي غيّر مجريات العالم الكاثوليكي في ستينات القرن العشرين، أي المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي انعقد في حاضرة الفاتيكان خلال الفترة من عام 1962 إلى 1965، غير أن الأمر في واقع الحال أبعد من ذلك بكثير..
والشاهد أنه في عام 1219 م، في ظل احتدام ما عُرف عند العرب بـ«حروب الفرنجة»، وفي الغرب باسم «الحروب الصليبية»، خرج من بين صفوف الأوروبيين الكاثوليك، ومن أعمال مدينة أسيزي الإيطالية تحديدًا، راهب سيغدو لاحقًا رمزًا للحوار والسلام، ومعلمًا لرفض الأصوليات اليمينية الأوروبية التي ستظهر تاريخيًا في القارة الجارة الأكبر والأقرب للعرب والمسلمين.
ظهر فرنسيس الأسيزي، مؤسس الجماعة الكاثوليكية المعروفة بـ«الأخوة الأصاغر».. أو «الفرنسيسكان».
كانت صيحة ملوك أوروبا أن المسلمين هم الذين يقطعون الطريق على الحجاج المسيحيين للوصول إلى «الأراضي المقدسة» والمعالم المسيحية في فلسطين، لا سيما القدس. وبدا ذلك أنه المبرّر والوازع لشن حروب أصولية متطرفة، رأينا مثلها، وإن بأثواب وأردية خفية، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لقد رفض فرنسيس الأسيزي تلك الدعاوى المنحولة، ومضى إلى معسكرات الصليبيين في دمياط، صائحًا أن خطايا وآثام الأوروبيين هي التي تسد الطريق إلى المقدسات وليس المسلمين. ومن ثم رحل عن مخيماتهم غاضبًا، متنبئًا لهم بالروح بالهزيمة النكراء، وهو ما حدث لاحقًا. ومضى على الأثر ليقابل سلطان المسلمين الملك الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، ويحل ضيفًا مكرّمًا عليه وليعزز ويكرم وفادته، وتجرى بينهما حوارات عميقة، ويرحل فرنسيس محملا بالهدايا، ويأخذ إذن السلطان لأن تنتشر جماعته التي تبحث عن السلام في فلسطين، ولاحقًا تعود إلى مصر.
اعتبر نصر فرنسيس الأسيزي بحسب المؤرخين المسلمين قبل الغربيين أفضل من كسب أربعين موقعة حربية، وعُرف بـ«صليبية المحبة»، لا «صليبية جيوش» ريكاردوس قلب الأسد، التي لم تخلُ من منطلقات دنيوية أخرى.
عرفت مصر إذا هذا النوع الراقي من الحوار الإسلامي - المسيحي باكرًا جدًا، ومع انطلاقة المجمع المشار إليه سالفًا، عمل العلامة المصري الأب الدكتور جورج قنواتي، الراهب الكاثوليكي الدومنيكاني الأشهر، على تعزيز العلاقة بين الكاثوليكية والإسلام.
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد في العام 1986، بدأ البابا يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان، تلك المسيرة الحوارية الجديدة عبر لقاء الأسيزي، الذي جمع كل الأديان في مدينة فرنسيس الأسيزي التاريخية، ولاحقًا بدأت مسلسلة من الحوارات بين الأزهر والفاتيكان.
هل تغير المشهد الآن بعد زيارة الشيخ الطيب؟ بداية يلزم الإشارة إلى أن سنوات حبرية البابا السابق بنيديكتوس السادس عشر، كانت قليلة الحظ مع العالم الإسلامي خاصة، ولذا تعرّض الحوار لكبوات أدت إلى تعليقه لمدة خمس سنوات. غير أن شخص البابا فرنسيس، البابا الحالي، وإدارته للبابوية استطاعا أن يعدلا ويبدلا من رؤية العالم الإسلامي، وأن يفتحا أبواب الفاتيكان واسعة مرحبة بشيخ الأزهر وصحبه من علماء المسلمين الأزهريين.
والواقع أن البابا فرنسيس، الأرجنتيني المولد، ارتقى السدة البطرسية خلفًا لبنيديكتوس السادس عشر الذي اعتبره كثيرون في أوروبا «بابًا محافظًا أقرب ما يكون للأصولي». وهكذا أيضًا نظرت أصوات فلسفية أوروبية إلى ذلك البابا الألماني المولد الذي كان، عندما يعرف باسم الكاردينال جوزيف راتزينغر، يتولى منصب رئيس مجمع العقيدة والإيمان لمدة ربع قرن في الفاتيكان. غير أن فرنسيس بدا من لحظاته الأولى، رجل تسامح ومصالحة، يعشق البساطة ويحب الناس، يحرص على بناء الجسور ويرفض الجدران العالية.
وغداة انتخاب البابا فرنسيس كان شهر رمضان الفضيل يحل على العالم الإسلامي، وكانت رسالته إلى المسلمين تجد صدى طيبًا، إذ هنأ مسلمي العالم كله بالعيد وبيّن ما للصوم من كرامة في كل الأزمان ولدى كل الأديان. وعندما اشتعلت أزمة رسوم مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية، استنكر فرنسيس أن يتعرض أصحاب الأديان لامتهان الكرامة على ذلك النحو. وفي اليونان مضى إلى جزر المهاجرين المسلمين ليصطحب منهم أفرادًا إلى الحاضرة الكاثوليكية، ومن قبل كان قد أوعز إلى مختلف الأبرشيات والكنائس والرهبانية الكاثوليكية في عموم أوروبا بفتح أبوابها واستضافة أسر اللاجئين. وفي حواره الأخير مع مجلة «لا كروا» الفرنسية الكاثوليكية الشهيرة، أشار إلى إمكانية التعايش الإسلامي - المسيحي في أوروبا وفي غيرها من بقاع وأصقاع العالم.
يمكن القول دون تزيد إن فرنسيس الأول، رغم سنوات حبريته التي لم تتجاوز بعد السنوات الثلاث، استطاع أن يشكل علامة أوروبية ذات وزن في طريق رفض الأصولية الدينية وسياقات الغطرسة التي تواكبها. ولقد وجدت شخصيته قبولاً شعبويًا ونخبويًا أوروبيًا تمثل أخيرًا في تكريمه بالجائزة الشهيرة للملك «شارلمان» رغم ما تعانيه القارة العجوز من حزازات الإسلاموفوبيا البغيضة، وإشكاليات المهاجرين وأزمات اندماجه. وبدا الرجل ولا يزال صوتًا صارخًا في «البرّية الأوروبية الأصولية»، إن جاز التعبير في هذا الإطار، ولم يكن غريبًا أو مثيرًا أن يتحدث الإمام الأكبر الطيب عنه بوصفه «رجل سلام»، رجلاً يتبع تعليم المسيحية التي هي ديانة المحبة والسلام، ويحترم الديانات الأخرى ويقدر مؤمنيها.
ومن ناحية ثانية، يأتي الشيخ الطيب ووراءه رصيد للأزهر الشريف قبلة الإسلام السنّي وتاريخ طويل من الإشعاع في العالمين العربي والإسلامي، للتأكيد على نقاط الالتقاء وتعظيمها، وهي نقاط كثيرة وتحتاج إلى الاجتماع عليها. وفي المقدمة منها نشر ثقافة السلام ورفض الاتهامات غير المبررة للإسلام، وهو بذلك يفتح صفحة جديدة مع أوروبا والغرب، وبذلك أيضًا يضع سدودًا وحدودًا أمام تيارات العنف التي تختبئ وراء رايات الإسلام السياسي.
الشيخ الطيب وفرنسيس الأول، يشكلان معًا، دون أدنى شك، جبهة مقاومة عنيفة للذين عملوا طويلاً - لا سيما من رجالات السياسية حول العالم - على عسكرة الكون، وهدر دماء الآمنين، بتلاعبهم بمقدرات الأديان والإنسان. ومع أن اللقاء لم يطل لأكثر من ثلاثين دقيقة يرجح أن تكون له استحقاقات طيبة وإيجابية في الآتي من الأيام، لا سيما وأن هناك حديثًا عن «مؤتمر للسلام العالمي» تحت رعاية هاتين المرجعيتين الدينيتين، وبما لهما من تأثير إيجابي على نحو ثلاثة مليارات من البشر حول البسيطة.
بعد الفاتيكان، توجه الشيخ الطيب إلى باريس «مدينة النور»، عاصمة فرنسا دولة «التنوير»، التي تريد الأصوليات الظلامية على أنواعها إطفاء أنوارها، وإلصاق التهمة بالإسلام والمسلمين. ومن على «منبر الملتقى الثاني للحوار بين حكماء الشرق والغرب» بالعاصمة الفرنسية كان الطيب يؤكد على أهمية الحوار، وتحقيق الاندماج، وبناء جسور الثقة وتحقيق قيم التعايش بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.
وهنا شيء ما يربط ذهنية الشيخ الطيب بالبابا فرنسيس، ويتمثل في النظر إلى فرنسا بمنظور خاص، فالطيب الذي عاش بين أهليها باحثًا ودارسًا لسنوات طوال يدرك أن فرنسا هي قلب أوروبا المفكر النابض، وعقلها التنويري المنفتح. وفرنسيس في حواره مع «لاكروا» يوجّه لفرنسا عتابًا من نوع خاص، إذ يصفها بأنها الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية، لكنه يصفها بأنها ابنة غير أمينة، ومردّ ذلك تلك الحالة من العلمانية الجافة والمسطّحة، ومن الأنوار التي تعمي التي سادتها، ومعها تضمحل رويدًا رويدًا روح الكاثوليكية التي اتسمت بها في فرنسا لقرون طوال.
تعني الرؤية المتفقة للبابا وشيخ الأزهر شيئًا واحدًا، هو حتمية سيادة روح الإيمان الخلاق القابل للآخر، والرافض للتهويمات الأصولية، وللعلمانية الطاردة لروح الدين. وهذا هدف يجمع القامتين الكبيرتين، مما يعني أن اللقاء بالفعل يرسي قواعد جديدة يمكن البناء عليها في أجواء من الثقة المتبادلة والمتزايدة، ويقطع الطريق على دعاة حروب الأصوليات والتطرف والإلغاء.
ولقد أحسن شيخ الأزهر سواءً في تصريحاته في الفاتيكان أو في كلماته وتحركاته في فرنسا. ففي تصريح لإذاعة الفاتيكان - القسم العربي أكد من تلك الحاضرة التي وصفها البعض بأنها «قلب التاريخ النابض»، أن رسالة الأديان هي إسعاد الإنسان أينما كان وأنه «سعيد بزيارة الفاتيكان والجلوس مع البابا في جلسة نقاش واتفاق». وأظهر الأمام الأكبر صورة الإسلام السمح، الذي يعلم تمام العلم جوهر الإسلام الحقيقي، الداعي للتعارف بين الأمم، لا إسلام «داعش» الذي رأينا صورًا منه لا علاقة لها بالإسلام.
وفي باريس حرص الشيخ الطيب في لفتة رائعة على زيارة مسرح «الباتاكلان»، حيث وضع باقة من الزهور تكريمًا لضحايا الاعتداءات التي ضربت باريس يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبينهم كثر سقطوا داخل ذلك المسرح. كما قرأ الفاتحة على أرواح الضحايا، الأمر الذي جعل العالم يتذكر ما قاله الشيخ الطيب غداة تلك الاعتداءات التي وصفها بـ«الشائنة»، ولم يتوقف عند إدانتها فحسب، بل دعا «العالم أجمع إلى التوحّد في مواجهة هذا الوحش المسعور».
وحقًا، كانت أجمل صورة نقلها الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين في الأعوام الأخيرة، هي تلك التي التقطت لشيخ الأزهر وهو يضع الزهور أمام «الباتاكلان». ولعل الأجمل والأكثر تأثيرًا من ملايين الدولارات التي يمكن أن تنفق لتبيان عدم ارتباط الإسلام بالإرهاب، كانت الكلمات التي تفوه بها قائلاً: «أتيت لأعلن أمامكم وباسم الإسلام، أن دم البشر يجب أن يحفظ من الإبادات والتضحيات، فالعلاقة التي أسسها الله بين البشر مبنية على السلام والأخوة والتعاون، فيما ليس للإرهاب بلد أو دين. مع جميع المسلمين تألمت لرؤية إراقة الدماء هنا وفي كل مكان آخر بسبب الشر. لذا علينا جميعًا في الشرق والغرب أن نتضامن لمواجهته».



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.