جاءت تحرّكات شيخ الأزهر الشريف، فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب خلال الأيام القليلة الماضية، لتبعث برسالة إلى العالم برمته، وإلى أوروبا خاصة، رسالة تعظّم من شأن الحوار والجوار، الاتفاق والتعايش، التسامح والمودة، في مقابل دعوات العنف وصيحات الرفض والإقصاء، ورايات الأصوليات المتعصبة، ونيران مدافع الإرهاب.
زيارة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب للفاتيكان ولاحقًا زيارته لفرنسا خلال شهر مايو (أيار) الحالي، تؤكدان أن الأزهر الشريف يأخذ على عاتقه دورًا من أدواره التاريخية من جديد. دورًا يتصل بسماحة الدين الإسلامي مع الآخر، ويشير إلى مدى تقبل المسلمين أصحاب الثقافات الأخرى والديانات المغايرة، حتى وإن كان الواقع المعاصر مليئًا بمشاهد الألم والنار والدمار.
وهنا يعنّ لنا أن نغوص في أعماق التاريخ لنتساءل سويًا.. متى عرف الحوار طريقه بين الشرق والغرب على صعيد أتباع الأديان السماوية، الإسلام والمسيحية بنوع خاص؟ وهل هو حوار جديد تاريخيًا - كما يخيل للبعض أو حسب ما ترصد الذاكرة المعاصرة - أم أن هناك في أضابير التاريخ وقصص الجوار العربي المسيحي الإسلامي ما هو مثير وجميل ورفيع القدر في الوقت ذاته؟
يخيّل إلى البعض أن تاريخ الحوار الإسلامي المسيحي المعاصر يعود إلى الحدث الكبير الذي غيّر مجريات العالم الكاثوليكي في ستينات القرن العشرين، أي المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الذي انعقد في حاضرة الفاتيكان خلال الفترة من عام 1962 إلى 1965، غير أن الأمر في واقع الحال أبعد من ذلك بكثير..
والشاهد أنه في عام 1219 م، في ظل احتدام ما عُرف عند العرب بـ«حروب الفرنجة»، وفي الغرب باسم «الحروب الصليبية»، خرج من بين صفوف الأوروبيين الكاثوليك، ومن أعمال مدينة أسيزي الإيطالية تحديدًا، راهب سيغدو لاحقًا رمزًا للحوار والسلام، ومعلمًا لرفض الأصوليات اليمينية الأوروبية التي ستظهر تاريخيًا في القارة الجارة الأكبر والأقرب للعرب والمسلمين.
ظهر فرنسيس الأسيزي، مؤسس الجماعة الكاثوليكية المعروفة بـ«الأخوة الأصاغر».. أو «الفرنسيسكان».
كانت صيحة ملوك أوروبا أن المسلمين هم الذين يقطعون الطريق على الحجاج المسيحيين للوصول إلى «الأراضي المقدسة» والمعالم المسيحية في فلسطين، لا سيما القدس. وبدا ذلك أنه المبرّر والوازع لشن حروب أصولية متطرفة، رأينا مثلها، وإن بأثواب وأردية خفية، في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
لقد رفض فرنسيس الأسيزي تلك الدعاوى المنحولة، ومضى إلى معسكرات الصليبيين في دمياط، صائحًا أن خطايا وآثام الأوروبيين هي التي تسد الطريق إلى المقدسات وليس المسلمين. ومن ثم رحل عن مخيماتهم غاضبًا، متنبئًا لهم بالروح بالهزيمة النكراء، وهو ما حدث لاحقًا. ومضى على الأثر ليقابل سلطان المسلمين الملك الكامل ابن الملك العادل الأيوبي، ويحل ضيفًا مكرّمًا عليه وليعزز ويكرم وفادته، وتجرى بينهما حوارات عميقة، ويرحل فرنسيس محملا بالهدايا، ويأخذ إذن السلطان لأن تنتشر جماعته التي تبحث عن السلام في فلسطين، ولاحقًا تعود إلى مصر.
اعتبر نصر فرنسيس الأسيزي بحسب المؤرخين المسلمين قبل الغربيين أفضل من كسب أربعين موقعة حربية، وعُرف بـ«صليبية المحبة»، لا «صليبية جيوش» ريكاردوس قلب الأسد، التي لم تخلُ من منطلقات دنيوية أخرى.
عرفت مصر إذا هذا النوع الراقي من الحوار الإسلامي - المسيحي باكرًا جدًا، ومع انطلاقة المجمع المشار إليه سالفًا، عمل العلامة المصري الأب الدكتور جورج قنواتي، الراهب الكاثوليكي الدومنيكاني الأشهر، على تعزيز العلاقة بين الكاثوليكية والإسلام.
في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وبالتحديد في العام 1986، بدأ البابا يوحنا بولس الثاني، بابا الفاتيكان، تلك المسيرة الحوارية الجديدة عبر لقاء الأسيزي، الذي جمع كل الأديان في مدينة فرنسيس الأسيزي التاريخية، ولاحقًا بدأت مسلسلة من الحوارات بين الأزهر والفاتيكان.
هل تغير المشهد الآن بعد زيارة الشيخ الطيب؟ بداية يلزم الإشارة إلى أن سنوات حبرية البابا السابق بنيديكتوس السادس عشر، كانت قليلة الحظ مع العالم الإسلامي خاصة، ولذا تعرّض الحوار لكبوات أدت إلى تعليقه لمدة خمس سنوات. غير أن شخص البابا فرنسيس، البابا الحالي، وإدارته للبابوية استطاعا أن يعدلا ويبدلا من رؤية العالم الإسلامي، وأن يفتحا أبواب الفاتيكان واسعة مرحبة بشيخ الأزهر وصحبه من علماء المسلمين الأزهريين.
والواقع أن البابا فرنسيس، الأرجنتيني المولد، ارتقى السدة البطرسية خلفًا لبنيديكتوس السادس عشر الذي اعتبره كثيرون في أوروبا «بابًا محافظًا أقرب ما يكون للأصولي». وهكذا أيضًا نظرت أصوات فلسفية أوروبية إلى ذلك البابا الألماني المولد الذي كان، عندما يعرف باسم الكاردينال جوزيف راتزينغر، يتولى منصب رئيس مجمع العقيدة والإيمان لمدة ربع قرن في الفاتيكان. غير أن فرنسيس بدا من لحظاته الأولى، رجل تسامح ومصالحة، يعشق البساطة ويحب الناس، يحرص على بناء الجسور ويرفض الجدران العالية.
وغداة انتخاب البابا فرنسيس كان شهر رمضان الفضيل يحل على العالم الإسلامي، وكانت رسالته إلى المسلمين تجد صدى طيبًا، إذ هنأ مسلمي العالم كله بالعيد وبيّن ما للصوم من كرامة في كل الأزمان ولدى كل الأديان. وعندما اشتعلت أزمة رسوم مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية، استنكر فرنسيس أن يتعرض أصحاب الأديان لامتهان الكرامة على ذلك النحو. وفي اليونان مضى إلى جزر المهاجرين المسلمين ليصطحب منهم أفرادًا إلى الحاضرة الكاثوليكية، ومن قبل كان قد أوعز إلى مختلف الأبرشيات والكنائس والرهبانية الكاثوليكية في عموم أوروبا بفتح أبوابها واستضافة أسر اللاجئين. وفي حواره الأخير مع مجلة «لا كروا» الفرنسية الكاثوليكية الشهيرة، أشار إلى إمكانية التعايش الإسلامي - المسيحي في أوروبا وفي غيرها من بقاع وأصقاع العالم.
يمكن القول دون تزيد إن فرنسيس الأول، رغم سنوات حبريته التي لم تتجاوز بعد السنوات الثلاث، استطاع أن يشكل علامة أوروبية ذات وزن في طريق رفض الأصولية الدينية وسياقات الغطرسة التي تواكبها. ولقد وجدت شخصيته قبولاً شعبويًا ونخبويًا أوروبيًا تمثل أخيرًا في تكريمه بالجائزة الشهيرة للملك «شارلمان» رغم ما تعانيه القارة العجوز من حزازات الإسلاموفوبيا البغيضة، وإشكاليات المهاجرين وأزمات اندماجه. وبدا الرجل ولا يزال صوتًا صارخًا في «البرّية الأوروبية الأصولية»، إن جاز التعبير في هذا الإطار، ولم يكن غريبًا أو مثيرًا أن يتحدث الإمام الأكبر الطيب عنه بوصفه «رجل سلام»، رجلاً يتبع تعليم المسيحية التي هي ديانة المحبة والسلام، ويحترم الديانات الأخرى ويقدر مؤمنيها.
ومن ناحية ثانية، يأتي الشيخ الطيب ووراءه رصيد للأزهر الشريف قبلة الإسلام السنّي وتاريخ طويل من الإشعاع في العالمين العربي والإسلامي، للتأكيد على نقاط الالتقاء وتعظيمها، وهي نقاط كثيرة وتحتاج إلى الاجتماع عليها. وفي المقدمة منها نشر ثقافة السلام ورفض الاتهامات غير المبررة للإسلام، وهو بذلك يفتح صفحة جديدة مع أوروبا والغرب، وبذلك أيضًا يضع سدودًا وحدودًا أمام تيارات العنف التي تختبئ وراء رايات الإسلام السياسي.
الشيخ الطيب وفرنسيس الأول، يشكلان معًا، دون أدنى شك، جبهة مقاومة عنيفة للذين عملوا طويلاً - لا سيما من رجالات السياسية حول العالم - على عسكرة الكون، وهدر دماء الآمنين، بتلاعبهم بمقدرات الأديان والإنسان. ومع أن اللقاء لم يطل لأكثر من ثلاثين دقيقة يرجح أن تكون له استحقاقات طيبة وإيجابية في الآتي من الأيام، لا سيما وأن هناك حديثًا عن «مؤتمر للسلام العالمي» تحت رعاية هاتين المرجعيتين الدينيتين، وبما لهما من تأثير إيجابي على نحو ثلاثة مليارات من البشر حول البسيطة.
بعد الفاتيكان، توجه الشيخ الطيب إلى باريس «مدينة النور»، عاصمة فرنسا دولة «التنوير»، التي تريد الأصوليات الظلامية على أنواعها إطفاء أنوارها، وإلصاق التهمة بالإسلام والمسلمين. ومن على «منبر الملتقى الثاني للحوار بين حكماء الشرق والغرب» بالعاصمة الفرنسية كان الطيب يؤكد على أهمية الحوار، وتحقيق الاندماج، وبناء جسور الثقة وتحقيق قيم التعايش بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة.
وهنا شيء ما يربط ذهنية الشيخ الطيب بالبابا فرنسيس، ويتمثل في النظر إلى فرنسا بمنظور خاص، فالطيب الذي عاش بين أهليها باحثًا ودارسًا لسنوات طوال يدرك أن فرنسا هي قلب أوروبا المفكر النابض، وعقلها التنويري المنفتح. وفرنسيس في حواره مع «لاكروا» يوجّه لفرنسا عتابًا من نوع خاص، إذ يصفها بأنها الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية، لكنه يصفها بأنها ابنة غير أمينة، ومردّ ذلك تلك الحالة من العلمانية الجافة والمسطّحة، ومن الأنوار التي تعمي التي سادتها، ومعها تضمحل رويدًا رويدًا روح الكاثوليكية التي اتسمت بها في فرنسا لقرون طوال.
تعني الرؤية المتفقة للبابا وشيخ الأزهر شيئًا واحدًا، هو حتمية سيادة روح الإيمان الخلاق القابل للآخر، والرافض للتهويمات الأصولية، وللعلمانية الطاردة لروح الدين. وهذا هدف يجمع القامتين الكبيرتين، مما يعني أن اللقاء بالفعل يرسي قواعد جديدة يمكن البناء عليها في أجواء من الثقة المتبادلة والمتزايدة، ويقطع الطريق على دعاة حروب الأصوليات والتطرف والإلغاء.
ولقد أحسن شيخ الأزهر سواءً في تصريحاته في الفاتيكان أو في كلماته وتحركاته في فرنسا. ففي تصريح لإذاعة الفاتيكان - القسم العربي أكد من تلك الحاضرة التي وصفها البعض بأنها «قلب التاريخ النابض»، أن رسالة الأديان هي إسعاد الإنسان أينما كان وأنه «سعيد بزيارة الفاتيكان والجلوس مع البابا في جلسة نقاش واتفاق». وأظهر الأمام الأكبر صورة الإسلام السمح، الذي يعلم تمام العلم جوهر الإسلام الحقيقي، الداعي للتعارف بين الأمم، لا إسلام «داعش» الذي رأينا صورًا منه لا علاقة لها بالإسلام.
وفي باريس حرص الشيخ الطيب في لفتة رائعة على زيارة مسرح «الباتاكلان»، حيث وضع باقة من الزهور تكريمًا لضحايا الاعتداءات التي ضربت باريس يوم 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وبينهم كثر سقطوا داخل ذلك المسرح. كما قرأ الفاتحة على أرواح الضحايا، الأمر الذي جعل العالم يتذكر ما قاله الشيخ الطيب غداة تلك الاعتداءات التي وصفها بـ«الشائنة»، ولم يتوقف عند إدانتها فحسب، بل دعا «العالم أجمع إلى التوحّد في مواجهة هذا الوحش المسعور».
وحقًا، كانت أجمل صورة نقلها الإعلام الغربي عن الإسلام والمسلمين في الأعوام الأخيرة، هي تلك التي التقطت لشيخ الأزهر وهو يضع الزهور أمام «الباتاكلان». ولعل الأجمل والأكثر تأثيرًا من ملايين الدولارات التي يمكن أن تنفق لتبيان عدم ارتباط الإسلام بالإرهاب، كانت الكلمات التي تفوه بها قائلاً: «أتيت لأعلن أمامكم وباسم الإسلام، أن دم البشر يجب أن يحفظ من الإبادات والتضحيات، فالعلاقة التي أسسها الله بين البشر مبنية على السلام والأخوة والتعاون، فيما ليس للإرهاب بلد أو دين. مع جميع المسلمين تألمت لرؤية إراقة الدماء هنا وفي كل مكان آخر بسبب الشر. لذا علينا جميعًا في الشرق والغرب أن نتضامن لمواجهته».