أظهرت الانتخابات البلدية التي أجريت في لبنان، خلال مايو (أيار) الحالي، تراجعًا كبيرًا في شعبيِّة الأحزاب السياسة اللبنانية، ومن بينها ما يسمى بـ«حزب الله». وكشف ظهور دور العائلات وبروز المستقلين والحزب الشيوعي اللبناني عن أن «القاعدة الشعبية» للحزب لها اهتماماتها الاقتصاديّة المنفصلة عن التركيز الرئيسي لقيادته على السياسة الإقليمية، لا بل كشفت أيضًا عن انحسار هامش المناورة لدى الحزب داخل حاضنته الشعبية الشيعية منذ دخوله الحرب السورية، وتزايد التحديات الاقتصادية التي يواجهها لبنان.
يرى كثيرون أن ما يسمى بحزب الله بني سمعته على محاربة إسرائيل. ويعتبر البعض أن عملياته المسلحة أدت إلى - أو أسهمت - في انسحابها من لبنان عام 2000. غير أن هذا التنظيم المرتبط دينيًا وفكريًا وسياسيًا وعسكريًا بإيران يواجه اليوم معضلة مُتنامية، إذ إنه مع «انفلاشه» أو تمدده خارج حدود لبنان، وتصويره على أنه غدًا أكثر قوة من أي وقت مضى إقليميًا، بات في الحقيقة أكثر هشاشة تحديدا نتيجة هذا الانفلاش والتمدد.
منذ عام 2012، تخلى الحزب فعليًا عن كفاحه الأساسي ضد إسرائيل، عبر انضمامه إلى جانب نظام الرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد الثوار، ومعظمهم من السنّة. ووفقًا لمصادر مقرّبة من الحزب، يتمركز حاليًا ما بين 5 إلى 7 آلاف مقاتل من رجال الحزب في سوريا، التي شهدت معاركها أيضًا مقتل ما يزيد عن 1500 من مقاتليه.
وفي حديث إلى «الشرق الأوسط»، قال أحد المستشارين السابقين لدى الحزب - مفضّلا عدم الكشف عن هويته - إن «القاعدة الشعبية لحزب الله لا تزال تدعم تدخله في سوريا، والذين يشكّكون في تداعيات مشاركته في الحرب السورية هم أقلية من المستنيرين». ويؤيد هذا الرأي كمال فغالي، خبير الإحصاءات والاستطلاعات الانتخابية، الذي اعتبر في حوار مع «الشرق الأوسط» أن «تحالف حزب الله وحركة أمل (الحزب الشيعي الرئيسي الثاني في لبنان) تحالف سياسي عقد تحت شعار المقاومة. وعلى الرغم من جميع الانتقادات للرئيس نبيه برّي (رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة أمل)، لا يستطيع أحد أن ينكر الجهود والمشاريع التنموية في الجنوب، من طرقات ومدارس ومستشفيات.. فالجنوب من أفضل المحافظات على مستوى البنية التحتية. وهذا فضلاً عن أن حزب الله، من جانبه، يموِّل عددًا من الهيئات الأهلية التابعة له، وقد حققت هذه الهيئات والمؤسسات - ولا تزال تحقق - إنجازات تنموية كبيرة. ولقد تُرجم هذا الدعم في الانتصار الذي حقَّقه الحزب في المناطق التقليدية، أي بعلبك – الهرمل، والضاحية الجنوبية، وكثير من القرى والبلدات في جنوب لبنان».
ولكن، مع ذلك، يكمن الشيطان في التفاصيل.
ذلك أنه كردّة فعلٍ شعبية لافتة، وعلى الرغم من قبضة حزب الله المشدّدة على المناطق الشيعية، واحتكاره الأسلحة، وتحالفه مع الحزب الشيعي الآخر الرئيسي (أي حركة أمل)، تمكّن عدد لا بأس به من المستقلين وممثلي العائلات، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي اللبناني، من الحصول على أعداد متزايدة من الأصوات خلال الانتخابات البلدية الأخيرة، بل وتمكّن من تحقيق مكاسب جزئية في بعض المناطق الأخرى.
وفي حسابات الأرقام، وفقًا لمقال نشر على موقع «لبنان الآن» تناول نتائج محافظة بعلبك – الهرمل (شمال شرقي لبنان)، شكّلت لائحة «بعلبك مدينتي» المدعومة من المجتمع المدني في مدينة بعلبك، المعقل الأبرز والأكبر لحزب الله في شرق لبنان، منافسة قوية للائحة الحزب وحلفائه، وحصدت ما يقارب الـ45 في المائة من الأصوات. وفي مدينة الهرمل، ثاني أكبر المعاقل في المنطقة، واجه الحزب أيضًا لائحة مؤلفة من المجتمع المدني، تشكلت من نشطاء أرادوا «التصدِّي لفساد» المجلس البلدي السابق، منهم مَن كان داعمًا لحزب الله، والبعض الآخر للحزب السوري القومي الاجتماعي. وبالنتيجة، نجح أحد المرشحين المعارضين في خرق لائحة حزب الله – أمل، وهذا المرشح مع أنه من مؤيدي الحزب، فقد ترشح كمستقل بسبب خلاف مع القيادة، بحسب جريدة «لوريان - لوجور».
ومن ثم، كان واضحًا أن ارتفاع الأصوات الشيعيِّة المستقلة في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله وحركة أمل انسحب بدوره على مناطق أخرى، مثل الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، حيث أعلنت لائحة «الغبيري للجميع»، الشبيهة بلائحة «بعلبك مدينتي»، ممثلة بفعاليات وشخصيات وعائلات. ولقد شكّلت هذه اللائحة في منطقة تعتبر، أو كانت تعتبر، أحد أقوى معاقل الأحزاب الشيعية على الإطلاق، وتمكّنت من الحصول على نسبة تربو على الـ35 في المائة من الأصوات.
ولدى الانتقال إلى محافظتي الجنوب والنبطية (جنوب لبنان)، لم يشكل الحراك المدني وحده مصدر التحدي الخطر لقيادتي حزب الله وحركة أمل، بل تمكن الحزب الشيوعي – الذي كان حتى الحرب اللبنانية (1975 – 1990) يتمتع بحضور كبير مؤثر في المناطق الشيعية – وكذلك كثير من اليساريين المستقلين، من الحصول على عدد غير مسبوق من الأصوات.
ووفقًا لبيان صادر عن الحزب الشيوعي، فازت اللوائح المدعومة من الحزب في بلدات عين بعال والهبارية وراشيا الفخار وكفرشوبا وإبل السقي. كذلك تمكّن الحزب الشيوعي من تحقيق انتصارات جزئية في بلدات صريفا وأنصار ودير الزهراني وكفررمّان والمية ومية وعدلون ودير سريان وصفد البطيخ وكفرحمام والطيبة وتفاحتا وأنصارية وطيردبا (مسقط رأس قيادي حزب الله العسكري الراحل عماد مغنية الذي اغتيل في العاصمة السورية دمشق، عام 2008) ودير ميماس وعيترون وروم وطيرحرفا وبليدا وبلاط وعزة والعباسية وبرج الملوك.
وحول هذه النتائج، علّق قاسم قصير، المحلّل والخبير في شؤون الحركات الإسلامية، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، معتبرًا أن «حزب الله حافظ على قاعدته الشعبية. ومع ذلك، كان هناك حالات من التمرّد، مثل الهرمل، وذلك بسبب سوء إدارة العملية الانتخابية». ومن ناحية ثانية، لاحظ المحامي ماجد فياض، الذي ترشح غير مرة ضد ثنائي حزب الله - أمل في الانتخابات العامة، أن «التمرد» انطبق أيضًا على حارة صيدا، الضاحية الشيعية الأبرز لمدينة صيدا ذات الغالبية السنّية، حيث لم تؤيد حركة أمل رئيس البلدية السابق سميح الزين الذي شكل لائحته الخاصة، وتمكن من الفوز. ومن المثير للاهتمام أيضًا في هذه الانتخابات، كما أكد مصدر مقرب من الحزب، أنه على الرغم من حثّ حزب الله جمهوره على المشاركة في التصويت، لم يلتزم إلا القليل بهذا «التكليف الشرعي».
وفي هذه الأثناء، على صعيد آخر غير متّصل مباشرة بالانتخابات، يواجه حزب الله تحدّيات متزايدة مرتبطة بحربه في سوريا، خصوصًا مع اغتيال قياديه العسكري البارز مصطفى بدر الدين، قريب عماد مغنية، وأحد الخمسة الذين اتهمتهم المحكمة الدولية بالتورط في اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، عام 2005. وفي الوقت الذي تشير فيه أصابع الاتهام الأولية عند البعض إلى إسرائيل، كمشتبه به رئيسي في تصفية بدر الدين، يتهم حزب الله الثوار السوريين، أو – كما يقول أحد المصادر – مَن يصفهم الحزب بـ«التكفيريين». وفي هذا السياق، أشار الكاتب نيكولاس بلانفورد، الخبير في شؤون حزب الله، في مقال نشر أخيرًا إلى «أن اغتيال بدر الدين الذي نفّذ في منطقة أمنية مغلقة، يشير إلى أن حزب الله بات هدفًا أكثر سهولة للضربات الإسرائيلية المحدّدة خلال السنوات الماضية، إذ إنه مقابل الازدياد الكبير في عدد عناصره، تدنّى مستواه الأمني المحكَم الذي طالما اشتهر به».
وتجدر الإشارة إلى أن قتل بدر الدين جاء ليضاف إلى لائحة طويلة من الاغتيالات التي تُتهم بها إسرائيل. ففي وقت مبكر من هذا العام، قصفت طائرات حربية إسرائيلية منزل سمير القنطار في دمشق، وهو المقرب من حزب الله والميليشيات المرتبطة بنظام بشار الأسد. وفي يناير (كانون الثاني) من عام 2015، استهدفت إسرائيل جهاد مغنية (ابن عماد مغنية) وجنرالا إيرانيا، خلال غارة نفذتها طائرة من دون طيار (درون) فوق مرتفعات الجولان.
إن تزايد الخسائر في صفوف قيادات الحزب، وعجزه عن تحقيق النصر الشامل في سوريا، بالإضافة إلى الآفاق الاقتصادية الملبَّدة في لبنان، وتزايد التململ الجريء في حاضنته الشعبية – كما بيّنت الانتخابات البلدية الأخيرة – من شأنها وضع مزيد من الضغوط على حزب الله، الذي يبدو أنه دخل في نفق ضيِّق، وأخذ هامش المناورة لديه يتقلص شيئًا فشيئًا.
عقيدة «حزب الله» في انتخابات لبنان
مع تداعيات تورطه في سوريا.. والآفاق الاقتصادية الملبّدة
عقيدة «حزب الله» في انتخابات لبنان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة