«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

مراجعات قوى «الإسلام السياسي» بين التطور والجمود

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
TT

«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)

عقد حزب «حركة النهضة» في تونس أخيرا مؤتمره العاشر في مدينة تونس العاصمة، وشهد المؤتمر جملة من الطروحات والمواقف اللافتة في مسيرة الحركة التي تولت عمليا الحكم في أعقاب ثورة 2011، لكنها أبدت مرونة وواقعية، سواء إبان توليها الحكم أو عودتها إلى صفوف المعارضة. وكذلك شهد المؤتمر فوز زعيم الحركة المؤسس برئاستها، حاصلا على غالبية أصوات المؤتمرين (800 صوت)، إلا أن الجانب الأبرز كان ممارسة الحركة نقدا ذاتيا شجاعا، بعد تقييم تجربتها قبل الماضية قبل الثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي وبعدها، عبر حوار شامل استغرق نحو سنتين، وأفرز رؤية جديدة، تشمل ضمن ما تشمله فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي.

تعاني حركة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم لسائر حركات الإسلام السياسي في مصر، تصلبا وجمودا يكاد يقصمها ويقسمها، بين تياري «الصقور» و«الحمائم»، وبين الشيوخ والشباب، وبين العنف والسلمية، وبين تنظيمها المركزي وفروعها، التي تحمله دون أن يحملها، حتى بات يصح على الجماعة المصرية الأم وصف بعضهم لها بأنها «غدت كالإسفنجة التي تمتص المياه والحياة من الآخرين».
ورغم التأثير والتأثر، فإنه من الخطأ حسبان سائر حركات الإسلام السياسي عليها، فبعضها انفصل عنها مبكرا شأن الراحل الدكتور حسن الترابي وحركته في السودان، أو نشأ منفصلا عنها أساسا شأن «التوحيد والإصلاح» المغربية أو «حركة النهضة» التونسية.
وبينما لا يزال خطاب «النهضة» وأدبياتها، حيين ومتجددين في إطار التاريخ، لم تستطع جماعة «الإخوان المسلمون» – رغم توالي ثمانية مرشدين على رأسها – تجديد أدبياتها التأسيسية وخطابها السياسي، وظلت منحبسة في تراث المؤسس حسن البنا منذ وفاته عام 1949. والمؤسس الثاني – الأكثر تأثيرا في قيادتها – سيد قطب منذ إعدامه عام 1965، واستمرت الجماعة ذات قدرة مدهشة على نفي وإقصاء أي محاولة للتجديد خارجها، أو على الأقل خارج تنظيمها.
كذلك غلب على مرشدي «الإخوان» وقادتهم التخصصات غير الشرعية وغير الفكرية – باستثناء المؤسس وسيد قطب صاحب التأسيس الثاني لها – بينما امتلك أغلبهم الموهبة الحركية والتنظيمية فقط، المهددة الآن مع تصاعد الخلافات الداخلية بين أجنحتها التي تصاعدت أوائل هذا العام، في بيانات متعارضة، واتهامات متبادلة بين قيادات الداخل والخارج.
كذلك يمتلك «الإخوان» هوية منتفخة لا تؤمن بالاستفادة من غيرهم؛ ذلك أنهم حين خاطبهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان طارحا اعتناق مبدأ فصل الديني عن السياسي (العلمانية) إبان زيارته مصر في أغسطس (آب) 2011، ردت عليه قيادات الجماعة بأنها لا تتعلم من أحد، ولا تحتاج إلى نصائح أحد. وفي المقابل، صرح زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي (74 سنة)، صاحب التجربة الطويلة في المنفى الأوروبي، بإعجابه بالأنظمة المدنية التي تفصل بين المجالين، وكتب ذلك مرارا، وبخاصة، في كتابه «الحريات العامة في الإسلام».
من هنا تبدو «النهضة» أقرب إلى النموذج التركي بشكل واضح، بينما ظل «الإخوان» في مصر أقرب إلى النموذج الإيراني وآيديولوجيته، في كون «المرشد» هو «الولي الفقيه» وصاحب «البيعة» وصاحب الصلاحيات التي تحكم الرئيس والنظام معه. ولذا؛ كان رفضهم المستميت لـ«وثيقة المبادئ الأساسية للدستور» عام 2012، وولوغهم في الأزمة الدستورية وإقصاء ممثلي الكنائس الثلاث ومختلف القوى المدنية، وهي الأزمة التي تصاعدت في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى أن مهدت لسقوطهم المدوّي في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) من العام نفسه. وعليه، لم يكن مدهشا حين استعان الرئيس المعزول محمد مرسي بمستشارة له كانت أطروحتها تحديدا حول هذا النموذج، وكيف ابتلعت «ولاية الفقيه» الثورة دون كل مشاركيها من الاتجاهات المدنية والسياسية الأخرى.
كذلك يصر «الإخوان» على رفض فكرة الاعتذار أو التصحيح – جزئيا أو كليا – ونقل عن مرشد الجماعة الثاني الراحل الأستاذ حسن الهضيبي قوله: إن «الإخوان لا يعتذرون» مهما كانت الأخطاء، على العكس من شجاعة «النهضة» التي تأكدت في المؤتمر الأخير بغض النظر عن بواعثها أو مآلاتها.
من هنا يبدو الوعي التاريخي مكينا في مسار وتاريخ «حركة النهضة» التونسية منذ تأسيسها عام 1972 مرورا بإعلانها الرسمي سنة 1981، وهي تؤكد أنها من أكثر الحركات الإسلامية وعيا بالسياق التاريخي والسياسي وتحولاتهما. ويمكن رصد معالم دالة على ذلك منذ وقت مبكر، منذ تحولت من هويتها الأولى «الاتجاه الإسلامي» إلى «النهضة» عام 1989... حتى الوصول لتدشين مرحلة جديدة في مؤتمرها العاشر الذي نظمته أخيرا. كذلك، يظل يحسب لها إحجامها عن الانخراط في أعمال عنف ضد نظام زين العابدين بن علي.. قبل الثورة، أو انجرارهم إليها بعدها. وهو ما مهّد لنجاحها في الخروج «الناعم» من السلطة بعد تزايد الاعتراضات والمظاهرات بعد انتهاء آخر أعمال حكومة علي العريّض في 29 يناير (كانون الثاني) 2014، ثم انتهاء أعمال المجلس التأسيسي في 2 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وصولا إلى نموذج «العيش التونسي» الذي شاهدناه في المؤتمر الأخير عناقا بين الرئيس الباجي القائد السبسي وزعيم «النهضة» الغنوشي الذي جدد انتخابه في المؤتمر الأخير بأغلبية ساحقة هذا العام بعد تصويت 1200 من المؤتمرين فيه.
من ثم، يمكن القول: إنه على الرغم من سقوط حكم «الإخوان» في مصر وخروج الجماعة القسري من السلطة عام 2013، فإن خطابها ما زال عاجزا عن المفاصلة والقطيعة مع خطابات الجماعات الإرهابية العنيفة والمتشددة، بل لقد راهن عليه وعلى استنزاف الدولة، كما صرح عدد من قادتها وحلفائها أكثر من مرة. نجحوا في شراء العداء وتأبيده ليس فقط مع النظام والدولة، بل أيضا مع نخب وقوى مدنية طالما تحالفت مع الجماعة أو دافعت عنها. ومع صعود عمليات الإرهاب والعنف في مصر، تصدر بيانات في اتجاه ذرائعي وحيد لتحميل النظام الحالي الحاكم بعد 3 يوليو كل المسؤولية عن كل ما يحدث، دون براءة أو تخطئة لأي من جماعات العنف النشطة، بما فيها عمليات فرع «داعش» النشط «تنظيم بيت المقدس» أو جماعة «المرابطون» في سيناء ضد العسكريين والأمنيين.. حتى صارت عملياته داخل العاصمة القاهرة وعدد من المحافظات، التي يقع ضحاياها من المدنيين، فزاعة لآخريها ومبرّرا الدولة والنظام الذي تعارضه في الآن نفسه.
وفي حين رحبت حركة «النهضة» بمبادرة «لجنة الحوار الرباعي» و«حوار القوى المدنية» عام 2013، رفضت جماعة «الإخوان»، وما زالت ترفض، مختلف المبادرات التي تطرح للمصالحة، سواء من شخصيات محايدة، أو أقرب إليها أو أقرب للنظام ومعارضتها. ورغم مراهنتها على الأزمات الاقتصادية والسياسية في مصر ما زال خطابها مع المعارضة المدنية – فضلا عن النظام – خطابا تهكميا واتهاميا لا يستطيع الوصول للمناطق المشتركة.
ربما من الضروري قراءة مخرجات مؤتمر «النهضة» الأخير، بعيدا عن الإرث الثقيل لتجربة الحركة في الحكم بين عامي 2011 و2014. أو قراءتها عبر ازدواجية خطاب بين ما توجهه للخارج، أو ما توجهه للداخل على لسان زعيمها المؤسس راشد الغنوشي، أو اعتبارها «تراجعات» لا «مراجعات» من الحركة الإسلامية المغاربية الأشهر عربيا. ولكن في ضوء مقارنتها بحالة جماعة «الإخوان» في مصر مثلا، رغم اختلاف المرجعيات والتطور، والمواقف الشبيهة، نجد أنها حركة أصرت على «نموذج العيش التونسي» واستمرت معها مكاسب ثورتها الديمقراطية، بينما مهدت الأخرى – أي «الإخوان» – لصدام لا يتوقف مع المعارضة المدنية ومع النظام الحاكم بعدها.
من الفوارق الكبيرة أيضا أنه كانت لدى الشيخ الغنوشي، زعيم «النهضة» ورئيسها، الشجاعة الكاملة لأن يعلن الاعتذار عن أي أخطاء حدثت أثناء تجربة الحكم أو قبلها، بل شجاعة أن يترحّم على بعض أبرز معارضيه، مثل الشهيدين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا أثناءها، أما «الإخوان» فمفاصلتهم مع الجميع كانت أثناء الحكم واضحة واستمرت بعده بشكل أكثر وضوحا.
لقد أكد الغنوشي في كلمته الافتتاحية لمؤتمر «حركة النهضة» العاشر هذا الحرص على الاعتذار عن الخطأ حين قال: «إننا جادون، في النهضة، في الاستفادة من أخطائنا قبل الثورة وبعدها، نعترف بها، نحن حركة تتطور ولا تستنكف من أن تسجل على نفسها أخطاء» من دون ذكر هذه «الأخطاء». وتابع: «إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية٬ وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي٬ حتى تكون المساجد مجمعة لا مفرّقة. وفي الوقت نفسه نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة العامة».
هذا هو المنطق الذي تفتقر إليه جماعة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم للإسلام السياسي، بشكل شبه كامل، فيعادي التطور عندها بقاء تقديس لأدبياتها الأولى التي كتبت قبل نيف وثمانين سنة منذ تأسيسها الأول على يد حسن البنا، أو تأسيسها الثاني على يد سيد قطب. كما يعادي تطورها سيطرة «التنظيميين» – أو «الصقور» – على تنظيمها وهياكلها بشكل شبه كامل، ويلفظ أي محاولة تجدد أو تجديد خارجها، منذ أزمتها الأولى عام 1954، بعد بضع سنوات من اغتيال مؤسسها عام 1949، إلى أزمتها الأخيرة وخروجها من الحكم في 3 يوليو 2013.
وهذا ما أكد عليه الغنوشي خلال مؤتمر حركته، واصفا الحركة بأنها «تكرس بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الديمقراطيين الذين هم نحن وبين تيارات التشدّد والعنف التي تنسب نفسها ظلما وزورا إلى الإسلام». وأردف «إن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية، ليس قرارا مسقطا أو رضوخا لإكراهات ظرفية٬ بل تتويج لمسار تاريخي». وأكد الغنوشي هذا الوعي التاريخي الذي تتمتع به الحركة «من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية عندما كانت الهوية مهددة، إلى حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديمقراطية في مواجهة نظام شمولي، إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر».
كذلك جاء البيان الختامي لمؤتمر حركة «النهضة» مؤكدا هذا الوعي بأهمية التطوّر، والمفاصلة بينها وبين حركات التشدد العنيف الأخرى، حين ذكر أن حزبها السياسي (حزب «حركة النهضة») «تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعدّه جزءا مما يسمى الإسلام السياسي». ومشددا على أن هذه التسمية الشائعة «لا تعبّر عن حقيقة هويته الراهنة، ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله»، وفق ما صرح به رضا إدريس، النائب الأول لرئيس المؤتمر. ومن ثم أوضح إدريس أن الحركة «تعتبر أن عملها يندرج ضمن اجتهاد يعمل على تكوين تيار واسع من المسلمين الديمقراطيين الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة».
إن نتائج المؤتمر العاشر لحركة «لنهضة» تعبر عن تطور فكري ووعي تاريخي واضح، أكثر من كونه مراجعة. وهو تأكيد على منطق «المدنية» للحركة والتنظيم، وبراءة غير معلنة من خطابات بعض ممثليها في السابق عن الخلافة الثالثة عام 2013، أو التقاربات التي تمت بينها وبين بعض المتشددين أثناء فترة حكمها. أو قل هي في أحسن الأحوال انتصار للاتجاه المعتدل على الاتجاه المحافظ في صفوفها، كما تمخض عن استقرار لبنيتها التنظيمية، ببقاء الغنوشي وتفويض مجلس شوراها إليه.
ولكن يبقى القول: إن هذا التطور الأخير لحركة «النهضة» في تونس، مسبوق عربيا بتجربة حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية، وبالتالي حزبها «العدالة والتنمية»، التي أقرت وفصلت مبكرا – وبشكل واضح – بين الحركة الدعوية والحزب السياسي بشكل واسع، قبل سنوات. وحقا، سعى «العدالة والتنمية» لوضع تصور واسع لهويته ومرجعيته في اتساعها المدني والديمقراطي والإنساني، بعيدا عن تحفظات البعض - هنا أو هناك - على تحفظات حكومته الحالية برئاسة عبد الإله بن كيران، وما سوى ذلك ظل نظريا سواء عند جماعة «الإخوان» نفسها أو عند حزب النور في مصر.



«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».