«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

مراجعات قوى «الإسلام السياسي» بين التطور والجمود

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
TT

«نهضة» تونس و«إخوان» مصر» على المحك

رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)
رئيس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي يتابع المناقشات التي تدور في إطار مؤتمر الحركة أمس في مدينة الحمامات (أ.ف.ب)

عقد حزب «حركة النهضة» في تونس أخيرا مؤتمره العاشر في مدينة تونس العاصمة، وشهد المؤتمر جملة من الطروحات والمواقف اللافتة في مسيرة الحركة التي تولت عمليا الحكم في أعقاب ثورة 2011، لكنها أبدت مرونة وواقعية، سواء إبان توليها الحكم أو عودتها إلى صفوف المعارضة. وكذلك شهد المؤتمر فوز زعيم الحركة المؤسس برئاستها، حاصلا على غالبية أصوات المؤتمرين (800 صوت)، إلا أن الجانب الأبرز كان ممارسة الحركة نقدا ذاتيا شجاعا، بعد تقييم تجربتها قبل الماضية قبل الثورة التي أطاحت بحكم زين العابدين بن علي وبعدها، عبر حوار شامل استغرق نحو سنتين، وأفرز رؤية جديدة، تشمل ضمن ما تشمله فصل الجانب الدعوي عن الجانب السياسي.

تعاني حركة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم لسائر حركات الإسلام السياسي في مصر، تصلبا وجمودا يكاد يقصمها ويقسمها، بين تياري «الصقور» و«الحمائم»، وبين الشيوخ والشباب، وبين العنف والسلمية، وبين تنظيمها المركزي وفروعها، التي تحمله دون أن يحملها، حتى بات يصح على الجماعة المصرية الأم وصف بعضهم لها بأنها «غدت كالإسفنجة التي تمتص المياه والحياة من الآخرين».
ورغم التأثير والتأثر، فإنه من الخطأ حسبان سائر حركات الإسلام السياسي عليها، فبعضها انفصل عنها مبكرا شأن الراحل الدكتور حسن الترابي وحركته في السودان، أو نشأ منفصلا عنها أساسا شأن «التوحيد والإصلاح» المغربية أو «حركة النهضة» التونسية.
وبينما لا يزال خطاب «النهضة» وأدبياتها، حيين ومتجددين في إطار التاريخ، لم تستطع جماعة «الإخوان المسلمون» – رغم توالي ثمانية مرشدين على رأسها – تجديد أدبياتها التأسيسية وخطابها السياسي، وظلت منحبسة في تراث المؤسس حسن البنا منذ وفاته عام 1949. والمؤسس الثاني – الأكثر تأثيرا في قيادتها – سيد قطب منذ إعدامه عام 1965، واستمرت الجماعة ذات قدرة مدهشة على نفي وإقصاء أي محاولة للتجديد خارجها، أو على الأقل خارج تنظيمها.
كذلك غلب على مرشدي «الإخوان» وقادتهم التخصصات غير الشرعية وغير الفكرية – باستثناء المؤسس وسيد قطب صاحب التأسيس الثاني لها – بينما امتلك أغلبهم الموهبة الحركية والتنظيمية فقط، المهددة الآن مع تصاعد الخلافات الداخلية بين أجنحتها التي تصاعدت أوائل هذا العام، في بيانات متعارضة، واتهامات متبادلة بين قيادات الداخل والخارج.
كذلك يمتلك «الإخوان» هوية منتفخة لا تؤمن بالاستفادة من غيرهم؛ ذلك أنهم حين خاطبهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان طارحا اعتناق مبدأ فصل الديني عن السياسي (العلمانية) إبان زيارته مصر في أغسطس (آب) 2011، ردت عليه قيادات الجماعة بأنها لا تتعلم من أحد، ولا تحتاج إلى نصائح أحد. وفي المقابل، صرح زعيم «حركة النهضة» راشد الغنوشي (74 سنة)، صاحب التجربة الطويلة في المنفى الأوروبي، بإعجابه بالأنظمة المدنية التي تفصل بين المجالين، وكتب ذلك مرارا، وبخاصة، في كتابه «الحريات العامة في الإسلام».
من هنا تبدو «النهضة» أقرب إلى النموذج التركي بشكل واضح، بينما ظل «الإخوان» في مصر أقرب إلى النموذج الإيراني وآيديولوجيته، في كون «المرشد» هو «الولي الفقيه» وصاحب «البيعة» وصاحب الصلاحيات التي تحكم الرئيس والنظام معه. ولذا؛ كان رفضهم المستميت لـ«وثيقة المبادئ الأساسية للدستور» عام 2012، وولوغهم في الأزمة الدستورية وإقصاء ممثلي الكنائس الثلاث ومختلف القوى المدنية، وهي الأزمة التي تصاعدت في نوفمبر (تشرين الثاني) إلى أن مهدت لسقوطهم المدوّي في يونيو (حزيران) ويوليو (تموز) من العام نفسه. وعليه، لم يكن مدهشا حين استعان الرئيس المعزول محمد مرسي بمستشارة له كانت أطروحتها تحديدا حول هذا النموذج، وكيف ابتلعت «ولاية الفقيه» الثورة دون كل مشاركيها من الاتجاهات المدنية والسياسية الأخرى.
كذلك يصر «الإخوان» على رفض فكرة الاعتذار أو التصحيح – جزئيا أو كليا – ونقل عن مرشد الجماعة الثاني الراحل الأستاذ حسن الهضيبي قوله: إن «الإخوان لا يعتذرون» مهما كانت الأخطاء، على العكس من شجاعة «النهضة» التي تأكدت في المؤتمر الأخير بغض النظر عن بواعثها أو مآلاتها.
من هنا يبدو الوعي التاريخي مكينا في مسار وتاريخ «حركة النهضة» التونسية منذ تأسيسها عام 1972 مرورا بإعلانها الرسمي سنة 1981، وهي تؤكد أنها من أكثر الحركات الإسلامية وعيا بالسياق التاريخي والسياسي وتحولاتهما. ويمكن رصد معالم دالة على ذلك منذ وقت مبكر، منذ تحولت من هويتها الأولى «الاتجاه الإسلامي» إلى «النهضة» عام 1989... حتى الوصول لتدشين مرحلة جديدة في مؤتمرها العاشر الذي نظمته أخيرا. كذلك، يظل يحسب لها إحجامها عن الانخراط في أعمال عنف ضد نظام زين العابدين بن علي.. قبل الثورة، أو انجرارهم إليها بعدها. وهو ما مهّد لنجاحها في الخروج «الناعم» من السلطة بعد تزايد الاعتراضات والمظاهرات بعد انتهاء آخر أعمال حكومة علي العريّض في 29 يناير (كانون الثاني) 2014، ثم انتهاء أعمال المجلس التأسيسي في 2 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وصولا إلى نموذج «العيش التونسي» الذي شاهدناه في المؤتمر الأخير عناقا بين الرئيس الباجي القائد السبسي وزعيم «النهضة» الغنوشي الذي جدد انتخابه في المؤتمر الأخير بأغلبية ساحقة هذا العام بعد تصويت 1200 من المؤتمرين فيه.
من ثم، يمكن القول: إنه على الرغم من سقوط حكم «الإخوان» في مصر وخروج الجماعة القسري من السلطة عام 2013، فإن خطابها ما زال عاجزا عن المفاصلة والقطيعة مع خطابات الجماعات الإرهابية العنيفة والمتشددة، بل لقد راهن عليه وعلى استنزاف الدولة، كما صرح عدد من قادتها وحلفائها أكثر من مرة. نجحوا في شراء العداء وتأبيده ليس فقط مع النظام والدولة، بل أيضا مع نخب وقوى مدنية طالما تحالفت مع الجماعة أو دافعت عنها. ومع صعود عمليات الإرهاب والعنف في مصر، تصدر بيانات في اتجاه ذرائعي وحيد لتحميل النظام الحالي الحاكم بعد 3 يوليو كل المسؤولية عن كل ما يحدث، دون براءة أو تخطئة لأي من جماعات العنف النشطة، بما فيها عمليات فرع «داعش» النشط «تنظيم بيت المقدس» أو جماعة «المرابطون» في سيناء ضد العسكريين والأمنيين.. حتى صارت عملياته داخل العاصمة القاهرة وعدد من المحافظات، التي يقع ضحاياها من المدنيين، فزاعة لآخريها ومبرّرا الدولة والنظام الذي تعارضه في الآن نفسه.
وفي حين رحبت حركة «النهضة» بمبادرة «لجنة الحوار الرباعي» و«حوار القوى المدنية» عام 2013، رفضت جماعة «الإخوان»، وما زالت ترفض، مختلف المبادرات التي تطرح للمصالحة، سواء من شخصيات محايدة، أو أقرب إليها أو أقرب للنظام ومعارضتها. ورغم مراهنتها على الأزمات الاقتصادية والسياسية في مصر ما زال خطابها مع المعارضة المدنية – فضلا عن النظام – خطابا تهكميا واتهاميا لا يستطيع الوصول للمناطق المشتركة.
ربما من الضروري قراءة مخرجات مؤتمر «النهضة» الأخير، بعيدا عن الإرث الثقيل لتجربة الحركة في الحكم بين عامي 2011 و2014. أو قراءتها عبر ازدواجية خطاب بين ما توجهه للخارج، أو ما توجهه للداخل على لسان زعيمها المؤسس راشد الغنوشي، أو اعتبارها «تراجعات» لا «مراجعات» من الحركة الإسلامية المغاربية الأشهر عربيا. ولكن في ضوء مقارنتها بحالة جماعة «الإخوان» في مصر مثلا، رغم اختلاف المرجعيات والتطور، والمواقف الشبيهة، نجد أنها حركة أصرت على «نموذج العيش التونسي» واستمرت معها مكاسب ثورتها الديمقراطية، بينما مهدت الأخرى – أي «الإخوان» – لصدام لا يتوقف مع المعارضة المدنية ومع النظام الحاكم بعدها.
من الفوارق الكبيرة أيضا أنه كانت لدى الشيخ الغنوشي، زعيم «النهضة» ورئيسها، الشجاعة الكاملة لأن يعلن الاعتذار عن أي أخطاء حدثت أثناء تجربة الحكم أو قبلها، بل شجاعة أن يترحّم على بعض أبرز معارضيه، مثل الشهيدين المعارضين شكري بلعيد ومحمد البراهمي اللذين اغتيلا أثناءها، أما «الإخوان» فمفاصلتهم مع الجميع كانت أثناء الحكم واضحة واستمرت بعده بشكل أكثر وضوحا.
لقد أكد الغنوشي في كلمته الافتتاحية لمؤتمر «حركة النهضة» العاشر هذا الحرص على الاعتذار عن الخطأ حين قال: «إننا جادون، في النهضة، في الاستفادة من أخطائنا قبل الثورة وبعدها، نعترف بها، نحن حركة تتطور ولا تستنكف من أن تسجل على نفسها أخطاء» من دون ذكر هذه «الأخطاء». وتابع: «إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية٬ وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة وعن التوظيف الحزبي٬ حتى تكون المساجد مجمعة لا مفرّقة. وفي الوقت نفسه نستغرب إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة العامة».
هذا هو المنطق الذي تفتقر إليه جماعة «الإخوان المسلمون»، الحركة الأم للإسلام السياسي، بشكل شبه كامل، فيعادي التطور عندها بقاء تقديس لأدبياتها الأولى التي كتبت قبل نيف وثمانين سنة منذ تأسيسها الأول على يد حسن البنا، أو تأسيسها الثاني على يد سيد قطب. كما يعادي تطورها سيطرة «التنظيميين» – أو «الصقور» – على تنظيمها وهياكلها بشكل شبه كامل، ويلفظ أي محاولة تجدد أو تجديد خارجها، منذ أزمتها الأولى عام 1954، بعد بضع سنوات من اغتيال مؤسسها عام 1949، إلى أزمتها الأخيرة وخروجها من الحكم في 3 يوليو 2013.
وهذا ما أكد عليه الغنوشي خلال مؤتمر حركته، واصفا الحركة بأنها «تكرس بذلك التمايز الواضح بين المسلمين الديمقراطيين الذين هم نحن وبين تيارات التشدّد والعنف التي تنسب نفسها ظلما وزورا إلى الإسلام». وأردف «إن التخصص الوظيفي بين السياسي وبقية المجالات المجتمعية، ليس قرارا مسقطا أو رضوخا لإكراهات ظرفية٬ بل تتويج لمسار تاريخي». وأكد الغنوشي هذا الوعي التاريخي الذي تتمتع به الحركة «من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية عندما كانت الهوية مهددة، إلى حركة احتجاجية شاملة تدعو إلى الديمقراطية في مواجهة نظام شمولي، إلى حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزمة بمقتضيات الدستور وروح العصر».
كذلك جاء البيان الختامي لمؤتمر حركة «النهضة» مؤكدا هذا الوعي بأهمية التطوّر، والمفاصلة بينها وبين حركات التشدد العنيف الأخرى، حين ذكر أن حزبها السياسي (حزب «حركة النهضة») «تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعدّه جزءا مما يسمى الإسلام السياسي». ومشددا على أن هذه التسمية الشائعة «لا تعبّر عن حقيقة هويته الراهنة، ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله»، وفق ما صرح به رضا إدريس، النائب الأول لرئيس المؤتمر. ومن ثم أوضح إدريس أن الحركة «تعتبر أن عملها يندرج ضمن اجتهاد يعمل على تكوين تيار واسع من المسلمين الديمقراطيين الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة».
إن نتائج المؤتمر العاشر لحركة «لنهضة» تعبر عن تطور فكري ووعي تاريخي واضح، أكثر من كونه مراجعة. وهو تأكيد على منطق «المدنية» للحركة والتنظيم، وبراءة غير معلنة من خطابات بعض ممثليها في السابق عن الخلافة الثالثة عام 2013، أو التقاربات التي تمت بينها وبين بعض المتشددين أثناء فترة حكمها. أو قل هي في أحسن الأحوال انتصار للاتجاه المعتدل على الاتجاه المحافظ في صفوفها، كما تمخض عن استقرار لبنيتها التنظيمية، ببقاء الغنوشي وتفويض مجلس شوراها إليه.
ولكن يبقى القول: إن هذا التطور الأخير لحركة «النهضة» في تونس، مسبوق عربيا بتجربة حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية، وبالتالي حزبها «العدالة والتنمية»، التي أقرت وفصلت مبكرا – وبشكل واضح – بين الحركة الدعوية والحزب السياسي بشكل واسع، قبل سنوات. وحقا، سعى «العدالة والتنمية» لوضع تصور واسع لهويته ومرجعيته في اتساعها المدني والديمقراطي والإنساني، بعيدا عن تحفظات البعض - هنا أو هناك - على تحفظات حكومته الحالية برئاسة عبد الإله بن كيران، وما سوى ذلك ظل نظريا سواء عند جماعة «الإخوان» نفسها أو عند حزب النور في مصر.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟