رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

على عكس السطور الورقية التي أهدتنا روائع الأدب

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن
TT

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

رسائل الحب الإلكترونية.. عواطف باردة وانتقام في العلن

ذاك الصندوق المعدني المعلق على جدران البريد كم كان حريصًا على أسرار الأدباء، وخصوصًا العشاق منهم. وكم جُمعت رسائل مرت من خلاله ثم طبعت في كتب قيمة.
لم يكن حينها ثمة «هكر» يفضح السطور، ولا «فايروس» يضرب الصندوق فيمسح ما تخبئه المغلفات الورقية من مشاعر ولواعج ومكنونات قطعت ربما آلاف الأميال حتى وصلت إلى مقصدها.
حدثني مرة أحد سعاة البريد المتقاعدين بأنه كان يعرف رسائل الحب من سواها من النظرة الأولى للمغلف. قلت له: «إن لم يكن في الأمر سر الصنعة فلتخبرني كيف تميز هذه الرسائل». فضحك عن أسنان داكنة وشاربين ما زالا معقوفين للأعلى وقبعة هي آخر ما تبقى له من أدوات ساعي البريد التقليدية، وأجاب: «الصنعة كلها راحت بأسرارها».. ثم أكمل بعد أن غابت ضحكته وحل مكانها نظرة شجية كأنه ينتزع مسامير المفردات من باب خشبي قديم أغلقه منذ سنوات على الذاكرة: «كانت رسائل العشاق تكتب بخط أنيق وحروف ممتدة بانسياب، وبعضهم كان يدس أوراق ريحان أو نباتات عطرية تفوح رائحتها من وراء الورق».
لوحت له بالوداع، ناظرًا إلى دراجته الهوائية الصدئة التي كان يستخدمها في إيصال الرسائل، وربما لا يدري هذا العجوز حجم الخدمة العظيمة التي قدمها للأدب العربي الذي زخر بكتب تتضمن رسائل الأدباء فيما بينهم.
مسافات زمنية ومكانية بين أدباء جمعتهم سطور ليست مجرد حروف عابرة، إنها مقطوعات أدبية لأشخاص مثل: جبران خليل جبران ومي زيادة في كتاب عنوانه «الشعلة الزرقاء». عباس محمود العقاد ومي زيادة أيضًا. غسان كنفاني وغادة السمان. وليس الحب العاطفي وحده الذي يحرك المشاعر في سطور الرسائل، بل الوطن كان له سطوة أقوى بين الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم في كتاب عنوانه «الرسائل».
بكل الأحوال، وبغض النظر عن اختلاف وجهات النظر حول أحقية غادة السمان في نشر رسائل خاصة جدًا أرسلها إليها غسان كنفاني، وبمعزل عن كون جبران خليل جبران الأبرع في اقتناص قلب مي زيادة من بين كل رواد صالونها الثقافي الأدباء، فإن التكنولوجيا آثمة بقدر ما هي مفيدة، لقد حرمتنا من كتب جديدة، كما حرمت شاعرة صديقة أسرت لي بأن رائحة تبغ الكاتب الذي كان يراسلها ورقيًا، كانت تظل عالقة بين طيات الصفحات، وأبلغتني أكثر بأن الكاتب هذا كان فوضويًا لدرجة أن الرسائل تصل أحيانًا وعليها بقع شاي أو قهوة. لكن الأمر بالنسبة إليها كان شاعريًا جدًا.
لكن الجرأة التي تحلت بها غادة السمان بنشرها ما كان يرسله إليها الراحل غسان كنفاني، كانت عصية على الكثير من الأديبات الموجودات على مواقع التواصل الاجتماعي، فاللواتي سألتهن عما إذا كانت تصلهن رسائل حب من أدباء، جاءتني إجاباتهن مختلفة، فبعضهن أكدن ذلك فورًا وبشكل قاطع، وبعضهن الآخر اكتفين بالإجابة: «لا يخلو الأمر من ذلك»، واللائي نفين وصول رسائل كاملة، قلن بأن التي وصلتهن لا تعدو كونها عبارات «غزل». ولكن أيًا منهن لم توافق على نشر اسمها في هذا التقرير لخصوصية الموضوع.
بالمقابل سألت بعض الأدباء إن كانوا عاشوا قصة حب عبر رسائل إلكترونية، فأجابوا بـ«نعم». ولكن ليس لأحد منهم الجرأة بإصدار هذه الرسائل في كتاب، ليس فقط لأسباب اجتماعية، ولكن لأن إثبات صحة الرسائل عبر مواقع التواصل الاجتماعي ضعيفة، غير الرسائل الورقية المكتوبة والموثقة بخط يد صاحبها وعنوانه البريدي.
ولا يخلو الأمر من الانتقام في الرسائل الإلكترونية، وهو ما لا يحصل لدى نظيراتها الورقية، فقد حدث على مواقع التواصل الاجتماعي أن نشر أدباء على العلن رسائل وصلتهم من أديبات بعد أن دب الخلاف بينهم. وهو ما ترفّع عنه أدباء الورق.
يبدو أن الحب ابتردت عواطفه عبر الأسلاك الإلكترونية، فما هو مبذول يصبح أقل قيمة مما هو صعب، فقد كانت الرسائل الورقية غالية بسبب مشقتها، إذ يتوجب على الطرف الآخر الانتظار زمنًا طويلاً يكون أصحاب الرسائل الإلكترونية خلالها قد أمطروا بعضهم بمئات الرسائل.. ما يفرغ الحب من عاطفته ليصبح مملاً.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.