من الصعب إجراء حوار أدبي مع مبدع سوري، أو حتى عربي، من دون مساءلته عن المأساة السورية بكل تجلياتها وتأثيراتها على الثقافة والإنسان. وهو ما يظهر في لقائنا مع الطبيب الجراح، والروائي العربي السوري، والرَحّالة خليل النعيمي، الذي نشأ في «بادية الشام»، وتتحدر عائلته من البدو الرُحل. درس الطب والفلسفة في «دمشق». وفي «باريس» تخصص في الجراحة، وحصل على «ماجستير» في الفلسفة المقارنة. إضافة إلى ما سبق، فهو رَحّالَة متمرّس. زار بلدانا كثيرة في القارات الأربع، وكتب عنها. ومنها: الهند، الصين، تشيلي، الأرجنتين، البرازيل، كوبا، مالي، السنغال، موريتانيا، المكسيك. وفي آسيا الصغرى، زار مدن «طريق الحرير». هذا عدا العالم العربي، وأوروبا، والأناضول. وهو يقيم، ويعمل، في «باريس». ومن رواياته: «الرجل الذي يأكل نفسه»، «الشيء»، «القطيعة»، «الخُلَعاء»، «تَفْريغ الكائن» و«دمشق 67» و«مديح الهرب» و«لو وضعتم الشمس بين يديّ».. وأما في أدب الرحلة، فنجد: «مخيّلة الأمكنة»، «كتاب الهند»، و«قراءة العالم».هنا حوار معه:
> ونحن نرى تعقد الوضع في سوريا، مع الاقتراب من الحرب الأهلية، إن لم نكن فيها، ماذا يمكن لك أن تقول، وأنت المثقف المتواجد بعيدا عن الجبهة، أي عن اليومي والمعيش؟
- أقول الشيء الكثير. ومهما قلتُ لا يمكن لي أن أقول كل ما يخطر ببالي، ولا ما دفعَني إلى الهرب، وتَرْك بلادي، منذ عقود. حالة «تَفْريغ الكائن» التي أرَّقَتْني كثيرا عندما كنتُ في «دمشق»، وكنتُ أرى عيانا كيف يحاولون أن يصنعوا من الشعب «أشباه كائنات» تسعى من أجل البقاء، فقط، حالة الإحباط المريب، هذه، هي التي تصنع الثورة الآن. كانوا يحلمون بخراف، فإذْ بهم يصنعون أُسودا لا حدود لشجاعتها. ونحن نعرف، تاريخيا، أن «العكس دائما هو الصحيح». فمَنْ تَقمعه، اليوم، سيثور عليك، غدا. لأن التاريخ ليس نظاما. وغير قابل للاستيعاب. إنه حركة الكائنات المستمرة الاختلاط والاختلاف، والتي لا يمكن لعقل السلطة المحدود الإلمام بها. وما نراه اليوم منها، من هذه الحركة الإنسانية الرائعة، عَبْر وقائع الثورة السورية العظيمة، ليس إلاّ السطْح المراوِغ لما يفور في الأعماق. عنف هذه الحركة التاريخية، نظاما ومعارضة، لا يعني شيئا آخر غير ذلك. النظام الغاشم الذي صرف أربعة عقود من التخطيط، والتركيع، والقمع، والاستيلاء، والاستيعاب، والهيمنة، والنهب، والكسب، والتراكُم، وأشياء أخرى كثيرة، هذا النظام البائس، لا يمكن له أن يستسلم بطريقة «مهذَّبة وحضارية»، بعد كل هذه الإجراءات العدوانية التي لا تحصى. والشعب الذي يتذكّر جيدا، فذاكرة الشعب تسطر كل ما يمر عليها، لا يمكن له أن يعيد مسلكه القديم اللاثوري، القابل بكل شيء. ولا أن يغضّ الطرف، بعد الآن، عن تسلُّط النظام، وفجوره. الوضع السوري ليس معقدا، إذن. إنه البحث عن الحرية، وبكل السُبل. لماذا نُخَوِّف الشعب الثائر ببلاهات الفكر القديم الذي ابتَزّ النظام بواسطته كل طاقات الشعب، وأراد تحويله إلى مجموعات من الخانعين. لنعترف الآن أن الخضوع مهما طال لا يزيل الظلم. وأن الثورة ليست نزهة وإنما هي عنف وعنف مضاد. فلنذهب في الطريق إلى آخره. هكذا، ربما، قد نحسم الأمر: أمر الحرية. لا لسوريا فحسب، وإنما لكثير من الشعوب الأخرى.
> لاحظْنا، في إحدى مقالاتك الأخيرة قيامك بِنَحْت مصطلح «نَقّار الصحون»، فهل للأمر علاقة بموقف المثقف من السلطة ومن السياسة، أي المثقف السوري والعربي من المأساة السورية؟
- بالطبع. السلطة العربية قامت باكرا باستيعاب المثقفين، ومنهم من «الكبار»، أو ممّنْ يدعون التنوير والعلمانية، ومنهم أشباه مثقفين، وقد أصبحوا عبر «نَقْر الصحون»، ذوي مراكز حساسة، ولهم أذرعهم الطويلة. فـ«نَقْر الصحون» موهبة. لكنها موهبة رذيلة. وخطرها على الحياة العربية داهِم وكبير. لأنها تستدعي الزيف والتلفيق. ولا تحترم جهد الآخرين إلا إذا كانوا من ذوي الصحون. إنها، مثل السلطة الغاشمة، تستوجب الثورة عليها. وبالعودة إلى نهاية سؤالك، أنا لا أوافق على تعبير «المأساة السورية». لأن سوريا، اليوم، في ثورة، وليست في مأساة. والحال الثورية لا تستدعي إشفاق الآخرين، إلا إذا كانوا من الحماقة بمكان. الحال الثورية تتطلّب الوعي الثوري المحايث لها، وليس النَدْب، والتهويل. تتطلّب المواقف الراديكالية التي تستحقها. سوريا، قبل الثورة، كانت في مأساة. الآن، الشعب السوري بدأ ينفض عن نفسه غُبار القمع المأساوي الذي تراكم خلال عقود طويلة. وسينتصر.
> أنت روائي، وقد كتبت في رواياتك السابقة الشيء الكثير عن واقع سوريا، ولعلّ رواية: «مديح الهرب»، نبوءة سابقة لما يحدث (أي الدعوة للهرب من قطاعات الجيش!)، فهل بمستطاع الرواية أن تواكب الحدث السياسي، دون السقوط في السياسوية الفجة، أم هل عليها أن تنتظر حتى ينتهي الأمر وتحصل على «هامش من الوقت»، أم عليها أن تكون نبوئية، بحيث تقرأ الأشياء قبليّا، وتبحث عن إرهاصاتها ونُذُرِهَا؟
- رواية «مديح الهرب»، صدرتْ طبعتها الأولى عن «المؤسسة العربية» عام 2005. وهي تعالج مصائر أربعة ضباط في الجيش الذي كان ما زال يدعى: «الجيش العربي السوري». واحد انتحر في مستشفى المزة العسكري، وآخر قتله قائدُه، بشكل تعسّفيّ، في الجبهة، والثالث أصيب بالجنون، والرابع تمكن من الهرب. وهي بالفعل دعوة للعصيان. لعصيان الطاعة العمياء عندما تُنْتَهك كرامة الكائن، عسكريا كان أم مدنيا. ودعوة مبكِّرة للانشقاق. وعندما كتبتُها لم أكن أتوقع، لم أكن أحلم، أن تقوم ثورة كبرى بعد سنوات. كان اليأس أكبر من الأمل. وخارج هذا الظرف التاريخي الحاسِم، ليس للرواية أي قانون، وليس لها أي مسوّغات خارج ما يعتمل في نفس الكاتب، وما يدور في عقله الخاص. وهي لا تعبِّر إلا عن «وقائع تاريخ الكاتب الشخصيّ» مهما ادّعى الكاتب، ولَفَّق من عِلل وأسباب. وفي النهاية، ليست مهمة الرواية مطابقة الواقع، ولا قول الحقيقة التي لا وجود لها في عالمها. وأكثر من ذلك هي أبعد ما تكون عن التنَبّؤ أو الاستشراف. وهذه الادعاءات التي نسمعها، غالبا، هي أكاذيب الكَتَبَة الفاشلين الذي لا يعرفون كيف «يكذبون».
> نشهد في عالمنا الآن موضة كتابية جديدة، هي موضة أدب الرحلة وارتياد الآفاق... ولعل الجميع يدعون، عن حق وعن غير حق، وَصْلا بابن بطوطة، فما الذي تراه ضروريا، أنت، وقد كتبتَ نصوصا رحلية كثيرة، حتى لا يسقط الكُتَّاب أو الرحّالة في إغواء الاستعانة بالدليل السياحي ومحرك البحث «غوغل»، أو حتى لا يمنحنا أي كاتب ما يمكن أن يُقدّمه أي سائح عادي يمتلك عينا مبصرة؟
- كل كتابة، في مرحلة من المراحل، هي «موضة». هي نمط تعبير ملائم عن مرحلتها. ولا تشذ الرواية، أو الشعر، أو أدب الرحلة عن ذلك. وليس من حق أحد أن يعطي دروسا للآخرين حتى «ابن بطوطة» نفسه، لو تَعلّق الأمر بأدب الرحلة، مثلا. وعلى العموم، لا تنبع قيمة «المكتوب» من مقام الكاتب، ولا حتى من «تاريخه المبجّل»، وإنما من «مادة الكتابة نفسها». ليس للأدب، والكتابة، قيمة مستقلة عن عنصرها. فليكتب أي منا ما يشاء إذا أحس برغبة في التعبير عن مشاعره. هكذا تتراكم الأحاسيس والمعارف والمواقف، في الحياة. الحظر بالمنع، أو الإزالة، أو الاستبعاد، أو الإهمال، أو الحيادية المغرِضة، هو ما يجب علينا الوقوف ضده. ولا تنْسَ أن «نقّاري الصُحون» من المثقفين، وحدهم، يمكن لهم أن يهملوا نصا مجيدا، أو أن يعلوا من شأن نص سخيف، لأسباب تتعَلّق بـ«مادة النقر»، أو بما يمكن لهم أن يجنوه، ولو بعد حين، من صاحب النص. فمفهوم «المَدْيونية» الثقافية قد تفَشّى كثيرا في واقعنا اليوم. وهو أحيانا يأخذ صيغة «التبادلية السلعية» التي كانت سائدة في عصور الإنسانية الأولى: «سلعتي مقابل سلعتكَ». هكذا، تنتشر، اليوم، في مجال الكتابة «البُؤر النقدية»، و«الزوايا الإشهارية»، و«النقد حسب الطلب». وكلها، منحازة. ومع ذلك، لا تطردُ المادة السيئة المادة الجيدة من السوق، لحسن الحظ.
> ما هو موقفك ممّا اصطلح الكثيرون على تسميته بـ«الربيع العربي»؟ وهل يجب على الكاتب والمثقف أن يكون متفائلا، رغم أنهار الدم وعميق الثارات؟
- نحن مع الثورة، أي شكل اتخذتْ. ولا تهمنا المعارضة، إلا إذا كانت مطية للثورة للوصول إلى غايتها الثورية. أما التسميات فلا تعنينا في شيء. والجدل البيزنطي حول الربيع، أو أي فصل عابر آخر، إنما هو «جدل اسميّ» بحت، لا قيمة تاريخية له. وهو ليس إلا هروبا إلى الأمام من مناهضي الحركات الثورية، الذين يجدون، دائما، لأنفسهم الأعذار، والذرائع، والأسباب، لكي يقفوا ضدها. أو ليكونوا، على الأقل، على الحياد. ولا حياد في وضع ثوري.