باولو كويلهو والسؤال الوجودي

الرواية حين تصبح حقلاً فلسفيًا بامتياز

باولو كويلهو والسؤال الوجودي
TT

باولو كويلهو والسؤال الوجودي

باولو كويلهو والسؤال الوجودي

تعتبر الرواية خزانا للخبرة البشرية بكل عمقها، وتعبيرا عن تداخل الواقعي بالتخييلي، واختبارا لعمل المفهوم الذي لا ينفصل عن شخوص الرواية في صيرورة تفاعلاتها مع ممكنات الوجود. إذ لا عجب أن تصبح الرواية حقلا فلسفيا بامتياز؛ حقلا للتجارب الفلسفية المنفلتة من جبروت اليومي وضغوطاته. وتصبح كذلك، شبكة مقاومة لكل أشكال التنميط والتخشب. فالرواية هي المجال الوحيد الذي يمكن أن توظف فيها كل المعارف. حينئذ، تكون للروائي نظرة موسوعية، ليس فقط عن المجتمع الذي ينتمي إليه، بل ربما عن التاريخ والإنسانية جمعاء. لذلك، فالروائي الكبير يؤثر في مجتمعه وغير مجتمعه، رغما عنه، لما تتضمنه رواياته من قضايا. وهذا ما ينطبق على لقائي الأول بباولو كويلهو، ولو كان في فترة متأخرة ربما. لكن المشكل هو أن هذا التأخر تحول، فيما بعد، إلى شغف لامتناهٍ لقراءة جل مؤلفاته التي تحمل في عمقها أبعادا فلسفية عميقة جدا، لكينونة الإنسان ووجوده المؤرق، والقلق بالطبع لمن يفكر في ذل. إن لكتابات باولو كويلهو عمقا في حضور الإنسان في أبعاده السيكولوجية، والصوفية، والتاريخية، والاجتماعية، والجمالية كافة. إنها أزمة وجود، وأزمة حضور، وأزمة كائن، وأزمة معتقد. إن من يقرأ لكويلهو، سينغمس في أول الأمر، في عوالم، وسيتوه في تجريدات ومتاهات كثيرة للعقل الإنساني. وسيحاول قدر الإمكان، التمسك بقارب نجاة وسط الأمواج العاتية التي تتقاذفك من كل صوب وحين. إنك ستغوص في ذاتك بقوارب وحبال، ليست من القوة بمكان حتى تحقق بفضلها النجاة الفعلية. لكن الأمر الممتع، هو تلك اللذة العقلية التي تجدها وأنت تنتقل بين تلك المتاهات الفكرية، تبحث بلا هوادة، ولا تعرف إلى أين سيصل بك مسارك، وأنت تسبر معه الأغوار البعيدة والعميقة، لتصل إلى متعة ستدفعك إلى إدمان القراءة والبحث عن المزيد، إن أمكن.
فالمتصفح لكتابات كويلهو، سيتعارف، ويتواصل، ويسافر، ويقيم علاقات مع أناس ستجمعه بهم الكثير من المميزات، والكثير من نقط التقارب. ستنبعث في قارئ كويلهو روح جديدة، بعدما أصبح رميما. ستصادفه إسقاطات دلالية كثيرة، وتأويلات، ومجازات، وألغاز، والقائمة طويلة. وسيعبر الزمن تارة على حمار جحا، وتارة أخرى على حصان نيتشه، وأحيانا ثالثة في مسار ضوئي أينشتايني.
هذا السفر بين العوالم متعب أيضا، لما يطرحه ويتناوله من أسئلة ستثير لعابك كقارئ، وتوقظ أسئلتك، وتستفزك في الكثير من الأحيان. ففي روايته «الخيميائي» التي امتدت شهرتها إلى أبعد أفق، سنسبح في كل هذه العوالم من خلال الراعي سنتياغو، الذي آنسه الكتاب طيلة لحظات وحدته وخلوته مع قطيعه. فيه استطاع أن يترك العنان لعقله وخياله ليأخذه إلى البعيد. واستطاع من خلاله، التجرد من ضيق المكان ومحدوديته، ومن تحقيق أسطورته الشخصية، لأنه، كما قال كويلهو: «فكل الكون سيتآمر من أجل أن يحقق أسطورتك الشخصية». وبالتالي، تحقيق وجودك بالقوة وبالفعل. فلا شيء مستحيلا مع كويلهو تقريبا، في جل كتاباته. فما يلزم فقط هو الاقتناع بالذات، وبقدرتها اللامحدودة على اختراق الممكن والبعيد أيضا. إنه مسار شاق أحيانا، لكنه ممتع في مجمله، لما يستطيع أن يكتسبه الباحث عن الذات وعن المعرفة من عمق في المعنى لوجوده. فوراء كل صورة حكاية لشخوص الرواية. ففي مسار أسطورتك الشخصية، ستقابل شخوصا كثيرة. هناك من سيثبطك، وهناك من سيدفع بك، وهناك من يحفزك، وهناك من سيلعب دورا في مسارك. لكن المهم في خضم كل هذا، هو أنت، الذات المفكرة المصرة المفعمة بالأمل، في الوصول، وفي تحقيق الهدف، على الرغم من كل المعوقات. فأنت كفارس النور، على حد تعبير كويلهو، في سياق رواية أخرى لكويلهو، سيهزك ما ستصل إليه في الأخير من معنى ومغزى لما كنت تبحث عنه. وستكشف أبعادا جديدة لتلك الذات اللغز التي حفزتك في البداية. بمعنى أن ما سيحصل هو انفراج للغيوم التي تحجب عنك الرؤيا الصحيحة للذات وللآخر وللكون. فالكنز الذي كان يبحث عنه سنتياغو في البداية، كان في أول الأمر يتخذ طابعا ماديا صرفا، لكن المسار الذي سلكه بطل الرواية، وخاصة برفقة الخيميائي، ستتدخل في تشكيله أبعاد كثيرة، منها ما هو مادي، اجتماعي، اقتصادي، ثقافي، بل حتى ميتافيزيقي. ستتغير زاوية الرؤية عند سنتياغو، وزاوية الهدف، وحتى قناعاته ستتخذ مسارا آخر. فالراعي الذي عرفناه في بداية الرواية، ليس هو نفسه الذي سنجده في آخرها. لقد بات سنتياغو يجسد الحلم، الإيمان، الدافع، الأمل، الوعي، الهدف، الطموح وغير ذلك؛ لأن الكنز الذي كان يبحث عنه في البداية، ليس هو الكنز الذي سيكتشفه في آخر المطاف. إن مغزى الرواية قوي جدا؛ لأن الكنز الذي نجده في رواية الخيميائي، ليس كبقية الكنوز. إنه إدراك لمعنى ومغزى الوجود. ففي الكثير من الأحيان، لا ندرك قيمة ما يحيط بنا. ويرجع ذلك بالأساس، إلى الزاوية السلبية التي نتحصن وراءها، والتي بطبيعة الحال، تشوش الرؤيا وتجعلها غير واضحة. فكل ما يحيط بنا هو الكنز الذي نبتغيه، كل ما يمكن أن نحبه، كل ما يمكن أن يكون مصدر السعادة، كل ما يمكن أن يمدنا بالقوة والعبرة.
إن هذه العلاقة بين الذات والمحيط، هي علاقة قوية جدا في كل أبعادها، ويمكن أن تصبح العلاقة الأكثر متانة داخل هذه المنظومة، إن نحن فهمناها وأقمنا علاقة معها واستوعبناها وأدركناها، سنوقع بذلك خريطة طريق أو وثيقة سلام، لن أقول أبدية؛ لأن هذه الوثيقة مفتوحة على المستجدات كافة، مع الذات نفسها أولا، ومع محيطها ثانيا. فالوصول إلى قيمة الأشياء وإدراك معناها العميق من الوجود، وبطبيعة الحال لن يتأتى ذلك إلا للذات القلقة من وجودها، الذات المتصدعة والمنخورة بالزمن والتاريخ. الذات التي لا تقف عند حدود قبول البسيط والسطحي من الأشياء. إنه الغوص في العمق مع كويلهو، والبحث عن إمكانية للنجاة في ظل زمن اللبس والالتباس الذي يقبض علينا. إنها محاولة فهم السبل كافة. إنها محاولة لارتواء لا ينبض وعطش لا يعرف الامتلاء أبدا. إنها استجابة لعالم لا يفتأ يتبدل. وعلى الرغم من ذلك، فلا يمنعنا هذا من تأكيد ألا رواية من دون غموض أو إشكال. وإنها رحلة استكشافية بالنسبة إلى الكاتب والقارئ على حد سواء. ولا تكون ذات معنى إلا إذا كانت حاملة لمعاني وجودية كثيفة، تغني التنوع في كل أبعاده، فسواء كان سنتياغو أو غيره، فالخطر يكمن في الاستبعاد والإقصاء دون السؤال وأي سؤال، السؤال الوجودي طبعا.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.